يوسف زيدان ومزاعمه المتهافتة حول المسجد الأقصى والإسراء والمعراج : د. ابراهيم عوض
فى تقرير بعنوان “رافضون للإسراء والمعراج- يوسف زيدان: اختراع، ولا أساس لها بالدين” فى موقع “الموجز” بتاريخ 28 نوفمبر 2018 نقرأ هذه السطور: “ووصل التشكيك عند زيدان فى هذه الحادثة عند المسجد الأقصى أيضًا حينما أثار الجدل فى حديثه مع الإعلامى خيرى رمضان ببرنامج “ممكن”، المذاع على قناة “CBC” فى ديسمبر 2015، بعد رفضه للتفسير الشائع فى سورة “الإسراء”، بأنها تشير إلى المسجد الأقصى فى القدس، مشيرًا إلى أن المسجد المذكور فى السورة لا علاقة له بالمسجد الأقصى الذى نعرفه.
وبرر المفكر الإسلامى ذلك بأن الرسول حينما لاحقه قوم قريش غادر إلى الطائف، وعلى الطريق كان هناك مسجدان: الأدنى والأقصى، وهذان المسجدان معروفان آنذاك، وهما قرب الطائف، وأن الأقصى فى القدس لم يكن موجودًا يومها.
وأضاف أن “الإسراء ثابت فى القرآن، ولكن المعراج لا أعلم من أين جاء. وعندما نزلت سورة “الإسراء” كانت مكية، والصلاة فُرِضَت فى المدينة، والأقصى لم يكن موجودًا حينها أو بها مساجد، وكانت حينها القدس تسمى: “إلياه”، وهى كلمة عبرانية معناها بيت المقدس، وأن المسجد الأقصى يمثل لعبة سياسية قام بها عبد الملك بن مروان”.
وفى لقاء أيضًا مع الإعلامى عمرو أديب فى نوفمبر 2015 صرح زيدان أنه لا وجود لمعجزة الإسراء والمعراج، معتبرا أن المسجد الأقصى ليس القائم فى فلسطين الآن، ولا يمكن أن يكون كذلك، وليس أحد القبلتين، مضيفًا أن سيدنا محمد اتجه حينما فرضت الصلاة مثلما اتجه اليهود إلى الشمال، فى نيته ليثرب، حتى نزلت الآية: “قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها”، ليتحول من الشمال إلى الجنوب وأصبحت الصلاة تجاه الكعبة”.
وتحت عنوان “يوسف زيدان: المسجد الموجود فى فلسطين ليس هو الأقصى” نشرت أمانى أبو النجا (الخميس 3 ديسمبر 2015) تقريرا هذا نصه: “قال الكاتب والروائى يوسف زيدان إن “المسجد الموجود فى مدينة القدس المحتلة ليس هو المسجد الأقصى ذو القدسية الدينية الذى ذُكِر فى القرآن الكريم والذى أسرى الرسول إليه” على حد قوله. وأضاف خلال لقائه فى برنامج “ممكن” المذاع على قناة “سى بى سى” المصرية الخميس أن المسجد الأقصى الحقيقى الذى ذكر فى القرآن يوجد على طريق الطائف، ولكن المسجد المتواجد فى فلسطين لم يكن موجودًا من الأساس فى عهد الرسول محمد، وأن من بناه هو عبد الملك بن مروان فى العصر الأموى” حسبما قال.
وأكد زيدان أن الحرب مع إسرائيل حول القدس لا معنى لها، قائلا: “ما يحدث حاليا هو صرع سياسى حول أرض، ولا يوجد علاقة للدين به، ومستعد للعدول عن قناعاتى هذه إذا قُدِّم لى دليل واضح يخالف ما قلته فى هذا الشأن”. وأوضح زيدان أن ما قاله حول المسجد الأقصى لا يعنى أن إسرائيل لها الحق فى احتلال فلسطين، مضيفًا: “إسرائيل تم بناؤها على باطل، وهى عدو، وعبارة عن مجتمع عسكرى برر وجود حكومات عسكرية فى المنطقة كلها”.
وقال إنه بالرغم أنه لا يحب توجيه النصائح إلا أنه وجه عدة نصائح للرئيس عبد الفتاح السيسى خلال لقائه به منذ عدة أشهر، مضيفًا: “نصحته من أجل مصلحة البلاد فقط، وبالرغم من أننى أنتقد بعض التصرفات إلا أنه تقبل ما قلته برحابة صدر، وكان أفضل من نصحتهم”. ترى ما كل هذا الانتفاخ يا دكتور زيدان؟ “تنصح” الرئيس ذاته و”تنتقد” بعض تصرفاته، فـ”يتقبل” نصائحك وانتقاداتك بـ”رحابة صدر”؟ الحمد لله، الذى جعل فى أمة محمد ناصحا أمينا شجاعا مقداما لا يبالى بالعواقب ومنفوخا مثلك!
فهذا ما نُقِل لنا عن زيدان. وعلى بركة الله نبدأ تحليل ما قال. وأول سؤال يفد على الذهن هو: هل كان هناك حقا مسجد، فضلا عن مسجدين، فى الطائف؟ فمن كان يسجد فيهما؟ ولا نقول: فمن بناهما؟ لقد كان المسلمون يصلون خفية فى مكة، ولم يكن هناك مسجد فى مكة غير البيت الحرام، فكيف يكون هناك مسجدان اثنان بالطائف، تلك المدينة التى أغلقت أبوابها وقلوبها فى وجه النبى حين زارها أملا فى أن يؤمن به أهلها، وطارده غلمانها وسفهاؤها بالحجارة فى الشوارع حتى ألجأوه إلى بستان ابنى ربيعة؟ هل بنتهما ثقيف مثلا؟ فلماذا لم تؤمن بمحمد الراكع الساجد ما دامت تبنى المساجد أو تسجد فيها؟ بل إنها حين غزاها الرسول والمسلمون بعد ذلك بسنوات عندما انتهوا من فتح مكة لم تفتح لهم أبوابها إلا بعد عشرات الليالى، من شدة تمسكها بوثنيتها وأصنامها وتأبيها على دين التوحيد. الواقع أن أول مسجد عرفته الطائف قد تم بناؤه بعد فتحها إثر فتح مكة، وأمر الرسول أن يحتل نفس الموضع الذى كانت منصوبة فيه أصنامهم. ففى الحديث عن عثمان بن أبى العاص “أنّ النبى صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طواغيتهم”. ثم أين المعجزة فى الأمر بحيث يمتن الله سبحانه على عبده محمد بأنه أُسْرِىَ به إلى هناك؟ وأين البَرَكة حول أى موضع بالطائف فى ذلك الوقت حسبما أخبر المولى بأنه بارك حول المسجد الأقصى؟
كما أن زيدان يفسر الإسراء بأنه الرحلة التى قام بها النبى إلى الطائف. أى أنه هو الذى قام بالرحلة كما يقوم بها أى إنسان، فكيف يسند الله مسراه إلى ذاته العلية؟ ولماذا لم يقل: إن عبده سرى من مكة إلى الطائف؟ وهذا لو كانت رحلة الرسول سريانا بالليل ولم تكن بالنهار؟ كذلك فلم يستغرب الكفار أن يذهب الرسول إلى الطائف ويعود فى نفس الليلة، وهو أمر ممكن إذا ركب ناقة، إذ المسافة بين مكة وبينها نحو ثمانين كيلومترا؟ وكيف فات الرسول أن يؤكد صدق كلامه بالقيام بهذه الرحلة بأن يحيلهم على أهل ا لطائف ليشهدوا أنه فعلا زار مدينتهم؟ هل يمكن أن يكون قد فاته هذا الحل السهل الذى لا يخر منه الماء؟ وأين الآيات التى أراه الله إياها فى الطائف على حين لم ير هناك سوى قلة الأدب والشتائم والمطاردة من السفهاء فى الشوارع والقذف بالحجارة؟ ولا ينبغى أن ننسى أن القرآن يستخدم “المسجد” بمعنى مكان السجود، فهو اسم مكان فى معظم الأحيان أو المكان الذى تؤدى فيه الصلوات لله عز شأنه حتى لو لم تكن صلوات المسلمين. وهذا موجود فى سورة الإسراء بعد الآية الأولى بقليل، وفى سورة “الكهف”، وفى سورة “الجن”، وفى سورة “الأعراف”، وكلها سور مكية نزلت قبل أن يكون هناك مساجد كمساجدنا. وفى ضوء هذا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله اليهود والنصارى. اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”، إذ من الواضح أن المساجد فى الحديث ليست هى المساجد التى نعرفها فى الإسلام. وبالمثل لا يمكن أن يفهم قوله صلى الله عليه وسلم: “جُعِلَتْ لى الأرض مسجدا” على أن المقصود مسجد مبنى كمساجدنا، فالأرض لا يمكن أن تكون كلها مسجدا بهذا المعنى، وإنما المقصود أنه يصح للمسلم السجود لله، أى الصلاة له سبحانه، على الأرض فى أى مكان. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: “خيرُ مساجدِ النِّساءِ قَعْرُ بيوتِهِنَّ”. وفوق ذلك هل سمع أحد أن أيا من المسلمين قد شد الرحال إلى مسجد الطائف كما وصى الرسول الكريم فى قوله: “لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحَرامِ، ومسجدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومسجدِ الأقصى”؟ وهناك رواية لهذا الحديث بالصيغة التالية: “إنَّما الرحلةُ إلى ثلاثةِ مساجدَ: مسجدِ الحرامِ، ومسجدِ المدينةِ، ومسجدِ إيلياءَ”. ومن الواضح أن المسجد الأقصى هو مسجد إيلياء، أى بيت المقدس.
ومما له دلالته القوية ومغزاه الذى لا يصح إغفاله أن الآيات التى تلى آية الإسراء من سورة “الإسراء” تتحدث عن بنى إسرائيل وتحذرهم وتهددهم بأن عاقبة إفسادهم فى الأرض عاقبة وبيلة، وأن الله سوف يرسل عليهم فى الإفساد الثانى عبادا له يدخلون “المسجد” كما دخلوه فى المرة الأولى. فانظر كيف ربطت الآيات بين الإسراء وبنى إسرائيل، وكيف ربطت ثانيا بين المسجد الأقصى والمسجد الذى سوف يدخله عباد الله المرسلون لتأديب بنى إسرائيل ومعاقبتهم على عصيانهم وتمردهم وفسادهم.
تقول الآيات المذكورة من أول سورة “الإسراء”: “سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِى إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِى وَكِيلا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إسْرائِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الأخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)”.
ولعل البعض يحسب أن السجود لم يكن معروفا فى الأديان السماوية السابقة. وهذا خطأ صراح، ففى مادة “سجد- سجود” من “دائرة المعارف الكتابية” نقرأ ما هو آت: “سجد يسجد سجودا: خضع وتطامن، أو انحنى وجثا، أو خر وركع، واضعا جبهته على الأرض (انظر مز95: 6) تعبيرا عن الاحترام والمهابة والتوقير أو الاستعطاف للملوك والأمراء والحكام وغيرهم . فقيل عن إبراهيم إنه “سجد لشعب الأرض، لبني حث” (تك 23: 7)، كما سجد يعقوب ونساؤه وأولاده لأخيه عيسو لاسترضائه (تك33: 3-6). وسجد إخوة يوسف له (تك37: 10 ، 42: 6 ، 43: 26)، وسجد موسى احتراما لحميه يثرون (خر18: 7). وسجد يوآب ثم أبشالوم أمام الملك داود ( 2صم 14 : 22 و 33 )، وكذلك سجد أمامه أخيمعص (2صم18: 28) وبثشبع (1مل1: 16)، وأرونة اليبوسي (2صم24: 20). وسجد أدونيا أمام سليمان ليعفو عنه (1مل1: 53). كما سجد سليمان أمام أمه بثشبع توقيرا واحتراما (1مل2: 19).
كما سجد لوط للملاكين (تك19: 1)، وسجد يشوع لرئيس جند الرب (يش5: 14). وقد نهى الملاك يوحنا الرائي عن السجود له قائلا: “انظر. لا تفعل لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب. اسجد لله” (رؤ22: 9). كما نهى الرسول بطرس كرنيليوس – قائد المئة – عن أن يسجد له قائلا: “قم. أنا أيضا انسان” (أع10: 25 و26).
وقد نهى الله عن السجود لغيره بتاتا (خر20: 3-5 ، تث5: 6-9). وعندما طلب الشيطان من الرب يسوع أن يخر ويسجد له انتهره الرب قائلا: “اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد” (مت4: 10، انظر تث6: 13). وعندما أقام نبوخذ نصر تمثاله الذهبي وأمر جميع رعاياه أن يخروا ويسجدوا للتمثال رفض الفتية الأتقياء الثلاثة أن يسجدوا لغير الله بأي صورة، ومهما كلفهم ذلك، حتى أُلْقُوا فى أَتُون النار المتقدة. ولكن الرب حفظهم فلم “تكن للنار قوة على أجسامهم. وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأت عليهم” (دانيال3: 27) لأنهم أطاعوا الله أكثر من الناس”.
ولا مانع أن نورد من الكتاب المقدس الاقتباسات التالية تعضيدا لما قالته “دائرة المعارف الكتابية”: فمما وقع لإبراهيم عليه السلام أنه “ظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، 2فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ، 3وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ…»” حسبما جاء فى الإصحاح الثامن عشر من سفر “التكوين”.
وفى الإصحاح الرابع والعشرين من نفس السفر نقرأ: “22وَحَدَثَ عِنْدَمَا فَرَغَتِ الْجِمَالُ مِنَ الشُّرْبِ أَنَّ الرَّجُلَ أَخَذَ خِزَامَةَ ذَهَبٍ وَزْنُهَا نِصْفُ شَاقِل وَسِوَارَيْنِ عَلَى يَدَيْهَا وَزْنُهُمَا عَشَرَةُ شَوَاقِلِ ذَهَبٍ. 23وَقَالَ: «بِنْتُ مَنْ أَنْتِ؟ أَخْبِرِينِي: هَلْ فِي بَيْتِ أَبِيكِ مَكَانٌ لَنَا لِنَبِيتَ؟» 24فَقَالَتْ لَهُ: «أَنَا بِنْتُ بَتُوئِيلَ ابْنِ مِلْكَةَ الَّذِي وَلَدَتْهُ لِنَاحُورَ». 25وَقَالَتْ لَهُ: «عِنْدَنَا تِبْنٌ وَعَلَفٌ كَثِيرٌ، وَمَكَانٌ لِتَبِيتُوا أَيْضًا». 26فَخَرَّ الرَّجُلُ وَسَجَدَ لِلرَّبِّ”. وفى نفس الإصحاح والسفر نجد النص التالى: “52وَكَانَ عِنْدَمَا سَمِعَ عَبْدُ إِبْرَاهِيمَ كَلاَمَهُمْ أَنَّهُ سَجَدَ لِلرَّبِّ إِلَى الأَرْضِ”.
وفى الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر “الخروج”: “9وَكَانَ عَمُودُ السَّحَابِ إِذَا دَخَلَ مُوسَى الْخَيْمَةَ، يَنْزِلُ وَيَقِفُ عِنْدَ بَابِ الْخَيْمَةِ. وَيَتَكَلَّمُ الرَّبُّ مَعَ مُوسَى. 10فَيَرَى جَمِيعُ الشَّعْبِ عَمُودَ السَّحَابِ، وَاقِفًا عِنْدَ بَابِ الْخَيْمَةِ، وَيَقُومُ كُلُّ الشَّعْبِ وَيَسْجُدُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَابِ خَيْمَتِهِ”.
وفى الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا: “فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. 7فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ:«أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» 8لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَامًا. 9فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ:«كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. 10أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ:«لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا». 11قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ 12أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» 13أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ:«كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا. 14وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». 15قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هذَا الْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». 16قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا» 17أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالتْ:«لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ، 18لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ». 19قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! 20آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». 21قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. 22أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ . لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. 23وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. 24اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا»”.
وفى القرآن المجيد تقابلنا هذه النصوص: ففى سورة “البقرة” يخاطب سبحانه وتعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بشأن بناء البيت الحرام: “وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)”. وفى سورة “آل عمران”: “يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)”. وعن الأنبياء الذين ذكرهم القرآن فى سورة “مريم”: “أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)”. وعن سحرة فرعون حين انتصر عليهم موسى عليه السلام وتبين لهم الحق يقول المولى فى سورة “طه”: “فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)”.
ثم إن هناك قبل ذلك كله أحاديث الإسراء والمعراج، وكلها تتكلم عن بيت المقدس لا عن الطائف، تلك المدينة التى لم تذكرها الأحاديث بشىء يدل على أنها مكان مبارك أبدا ولا كانت إليه رحلة الإسراء مطلقا. ثم لو لم يكن لبيت المقدس ومسجدها مكان ومكانة فى الإسلام منذ وقت جد مبكر فلم كان الرسول والمسلمون يتجهون إليه فى صلاتهم حتى نزلت آيات تحويل القبلة فى المدينة من بيت المقدس إلى الكعبة؟ وهل كان أهل الطائف ليسكتوا فلا يقيموا الدنيا ويقعدوها بعد إسلامهم متفاخرين رغم تأخر دخولهم فيه بأن الإسراء كان إلى مدينتهم، وأن المعراج قد انطلق من المسجد الذى كان قائما فيها؟ وهل كانوا ليفوتهم أن يطلقوا على ذلك المسجد:”مسجد الإسراء والمعراج” مثلا؟ بل هل كان النبى ليفوته، ساعة غزوته التى حاصر فيها الطائف وافتتحها، أن يقول مثلا إنه قد جاء ليخلصها من أيدى المشركين ويطهرها من رجس الوثنية ويصيّرها مُسْلِمَةً بوصفها مَسْرَاه ومَعْرَجَه، أو أن يسترجع على الأقل ذكرياته هناك ويشير إلى هذا الموضع أو ذاك قائلا: هنا وقف البراق ونزلتُ عن ظهره، وهنا صليتُ، وهنا عُرِجَ بى إلى السماوات العلا مثلا؟ بل ما كان الصحابة ليتركوه حتى يتذكر أحداث تلك الليلة من تلقاء نفسه بل كانوا يسارعون فيسألونه عن تفاصيل تلك الأحداث من تلقاء أنفسهم على عادتهم فى سؤاله عن كل صغيرة وكبيرة مما يتصل بالوحى والآيات الخارجة على سنن الكون. ثم لو كان الأمر كذلك لألفيناه صلى الله عليه وسلم، حين كان يصلى فى مكة، يتجه إلى الطائف جاعلا الكعبة بينه وبينها بدلا من بيت المقدس. كذلك ماذا نفعل بخبر تحويل القبلة، بعد وصوله إلى المدينة بزمن غير بعيد، من بيت المقدس وحدها إلى الكعبة وحدها (بعدما كان يصلى إليهما معا فى مكة) واعتراض اليهود على تحويلها من بيت المقدس، الذى يقدسونه إلى الكعبة، تلك البَنِيّة التى لا تمثل لهم شيئا؟ وهذا الاعتراض موجود فى سورة “البقرة” فى قوله تعالى: “سيقول السفهاء من الناس: ما وَلّاهم عن قِبْلَتهم التى كانوا عليها؟…”. فماذا نفعل فى هذا كله؟ إن ما يقوله زيدان إنما هو كلام سخيف لا رأس له ولا ذيل. وقد أطلقه فى الهواء دون مبالاة بعلم أو تاريخ أو جغرافية أو منطق أو عقل أو تحليل نفسى أو اجتماعى. لقد أراد أن يزعزع الثابت وينشئ بدلا منه جديدا متهافتا ظنا منه أنه قادر على أن يجعل من تهافته وتفاهته كلاما راسخا موزونا عاقلا منطقيا. ولكن هيهات. وإن مسارعة إسرائيل إلى الترحيب والاحتفاء به وبكلامه لذو مغزى كبير، ومؤشر خطير.
ثم هل كان المسلمون ليسكتوا على الفريق الذى جعل الإسراء والمعراج إلى ومِنْ بيت المقدس (على الترتيب) بدلا من الطائف؟ يقينا ويمينا لقد كان هذا من شأنه أن يخلق لنا فريقين بين العلماء والمتعالمين: فريق الطائف، وفريق بيت المقدس، ولقد كان حريا أن ينشب بينهم خلاف وخصام حول هذا الموضوع، شأنه شأن أى موضوع آخر فيه رأيان أو أكثر، ولصُنِّفَت الكتب وعُقِدَت المناظرات وهاج البشر بل ربما تقاتلوا جراء هذا الخلاف. ثم كيف سكت يهود بيت المقدس ونصاراها على الأقل فلم يفضحوا هذا الزيف والتزوير التاريخى الأبلق الذى يتصور زيدان أنه ابن بجدتها: كاشف خباياه وهاتك عوراته؟ أما ما يُفْهَم من كلام زيدان الساذج الذى لا يدخل عقل قطة فهو يخالف المعهود من سنن المجتمعات فى مثل تلك الحالة. إنه تبسيط مخل، ويدل على أن مخترع تلك الفرية رجل غشيم أيا كان هذا المخترع، سواء كان هو أو غيره.
وإذا كان الأمر أمر مزاعم والسلام من جانب المسلمين فلماذا لم يقولوا إن الإسراء والمعراج وقعا فى البيت الحرام، مستغلين تقديس العرب والمسلمين للكعبة المشرفة والبيت الكريم؟ لقد كان بيت المقدس قد فُتِح وانتقل إلى سلطان المسلمين، ولم يكونوا بحاجة إلى تسويغ فتحه ووضع اليد عليه.
أما دعواه بأن النبى والمسلمين فى مكة كانوا يتجهون فى صلاتهم إلى الشمال ناحية المدينة لا ناحية بيت المقدس فمن أين يا ترى جاء بهذا الكلام الممخط؟ وماذا كان فى المدينة مما يمكن أن يجعلها قبلة المسلمين آنذاك فى صلاتهم؟ لقد كانت يثرب مدينة عادية تماما، فليس فيها بيت من بيوت الله الشهيرة ولا ظهر فيها قبلا نبى. ثم كيف يمكن أن نغفل عن الحقيقة التى تفقأ عين كل جهول مكابر والتى تقول إن المسلمين فى المدينة عقيب الهجرة كانوا لا يزالون يصلّون إلى الشمال كما كانوا يصنعون فى مكة. فلو كان يثرب هى قبلتهم فى مكة لقد كان ينبغى ألا ييمموا وجوههم هنا أو هناك ما داموا يسكنون قلب القبلة ذاتها. أليس كذلك؟
ثم إن لدينا أخبار لقاء اليثربيين بالرسول عقب الحج فى السنة الثانية عشرة من البعثة، وهو اللقاء الذى رجوه فيه أن يهاجر إليهم فيقفوا إلى جانبه ويؤمنوا بدعوته ويصيروا مسلمين، ولا وجود لأى كلام عن يثرب مدينتهم بوصفها قبلة الصلاة فى الإسلام. ولو كانت هى القبلة كما يهرف زيدان لقد كان ينبغى أن يتخذ أهل يثرب من هذه الحقيقة حافزا بل الحافز الوحيد لكى يحثوه من خلاله على تلك الهجرة قائلين له: هيا عجل بالمجىء إلى مدينتنا كى تعيش بجوار قبلة دينك دون مسافات تفصل بينكما.
بل إن فى المدينة مسجدا يقال له: مسجد القبلتين جراء كونه المسجد الذى تصادف أن نزلت آيات تحويل القبلة إلى الكعبة والمسلمون يصلون الظهر وراء الرسول عليه السلام فيه من شهر رجب فى السنة الثانية للهجرة، فما كان منهم سوى الاستدارة أثناء تأديتهم الفريضة إلى الجنوب ميممين شطر الكعبة، فكان شطر صلاتهم ناحية الشمال، والشطر الآخر ناحية الجنوب. واضح أننا كلما حاولنا مسايرة زيدان اصطدمنا بجدار من فولاذ لا يمكن اختراقه أبدا حتى لو انطبقت السماء على الأرض. ورغم هذا نراه يتناول هذه الموضوعات الجليلة الخطيرة ذات الشأن العظيم على نحو عامى رخيص قليل القيمة.
على أن أمر زيدان لا يقف عند الإسراء، فهو ينكر المعراج أيضا. وفى موقع”فيتو” بتاريخ 15 ديسمبر 2017 نقرأ تحت عنوان “يوسف زيدان يفسر تصريحاته: المعراج فكرة دينية وهمية وليست من العقيدة. الوحى أغنى الإسلام عن العروج. العلماء المسلمون أخطأوا فى تفسير سورة “النجم”، والفن والأدب سبب فى ترويج الوهم” ما يلى:
“قرر الكاتب والروائى يوسف زيدان الرد على الحملة التى قامت ضده بعد تصريحاته النارية التى دارت حول إنكاره لمعراج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومكان المسجد الأقصى، فأصدر مساء أمس بيانه الثانى حول حقيقة المعراج بعد أن قد أعلن فى وقت سابق أنه سيصدر 7 بيانات متتالية حول تلك التصريحات.
قال زيدان: إن الدين هو علاقة تربط بين الإنسان “الأرضى، المحدود”، والعالم اللامرئى “السماوى، المطلق”، وعلى الرغم من تعدُّد واختلاف الأديان والمذاهب الروحية والنِّحل العقائدية إلا أنها جميعًا تقيم هذه العلاقة على إحدى قاعدتين، لا ثالث لهما: فإما نزول السماوى للأرضى وإما عروج الأرضى إلى السماء. ومن العسير أن نجد أصل الديانة جامعا بين هذين الطريقين لأنه إذا تنزل السماوى بالوحى أو بهبوط المعبود نفسه إلى العالم الأرضى فلا معنى عندئذٍ ولا حاجة للمعارج. وبالعكس إن كانت هذه العقيدة أو تلك من النوع القائم على المفارقة المطلقة بين الوجود السماوى “المتعالى، الترانسندنتالى” والوجود الإنسانى فهنا تأتى ضرورة “المعراج” مثلما هو الحال فى العقائد المسماة باللفظ اليونانى القديم”الغنوص”، أى المعرفة المباشرة التى تحصل عليها النفس الإنسانية إذا ارتقت بالرياضات الروحية، وحلّقت فى العالم الإلهى الأعلى. ومن هذه الديانات والمذاهب الغنوصية: الهرمسية، والفيثاغورية المتأخرة، والعديد من الديانات الشرقية كالزرادشتية الفارسية القديمة، وبعض ديانات الهند العتيقة. وهذه الديانات والمذاهب يحفل تراثها بما لا حصر له من صور المعراج والارتقاء الروحى إلى العالم الأعلى فى لحظاتٍ معينة مثلما هو الحال فى قصة معراج أخنوخ عند الغنوصيين، وقصة معراج أبولونيوس (بلنياس) عند الهرمسيين، وقصة معراج أرتاويراف بصحبة الكائن الروحانى سروش عند الزرادشتيين، وقصة معراج أرجنا بصحبة الكائن الروحانى إندرا عند الهنود القدماء، وغير ذلك من المعارج.
أما فى الديانات التى نؤمن بها، ونراها ثلاثة: “يهودية، مسيحية، إسلام”، وأراها واحدة الجوهر مختلفة الصيغ والتجليات بحسب اختلاف الأزمنة واللغات، فالقاعدة الأساسية هى النزول الإلهى، والتنزيل الربانى، والوحى الهابط من السماء بوسيط روحانى هو: “روح قدوشيم، روح القدوس، روح القُدُس (جبريل). وبالتالى فلا معنى للمعراج لأن المطلوب حدث بنزول الرب للحرب مع يهوشع بن نون، أو للعراك مع يعقوب الذى غلب فسُمِّى إسرائيل، أو لتخليص الإنسان من الخطيئة الأولى، أولإيصال الوحى القرآنى عبر جبريل.
والسورة التى يعتبرها بعضُ مفسرى القرآن المتأخرين نصا قرآنيا يدل على المعراج اسمها ليس “المعراج” وإنما “النجم”، وفيها يقول النص القرآنى إن “الله، أو جبريل، أو ذا المِرَّة نزل ودنا وتدلى”. والتدلّى هو الهبوط لا الصعود، فكيف يصح ما اعتقده بعض المسلمين من أن السورة تتحدث عن معراج؟ غير أن انتشار هذه الفكرة الوهمية، خصوصا لدى الشعوب المسلمة ذات الخلفية الزرادشتية والعقائد الهندية، أدى إلى ازدهار الخيال وتنشيط النزعة الأدبية التى صاغت المعراج النبوى المظنون فى نصوص شعرية مثل “معراج نامة، رحلة الطير”، وفى لوحات الفن الفارسى المعروف باسم المنمنات. لكن هذه إبداعات فنية وأدبية، وليست أصولا عقائدية”.
فأما أن اتصال السماء بالأرض لا تتم إلا عبر اتجاه واحد: إما نزولا أو صعودا فلا أدرى من أين أتى به. هل هناك قانون كونى يقول بهذا ويعرفه يوسف زيدان وحده دون الناس أجمعين؟ بالطبع لا يوجد مثل هذا القانون، وإنما هو من بُنَيَّات أوهامه. وما دام يستشهد بالكتاب المقدس أفلم يقرأ، فى سفر “التكوين” عن أخنوخ، وهو السابع من آدم من نسل شيث (يهوذا 14)، وعاش 365 سنة (تك 5: 23)، وكتب عنه مؤلف السفر المذكور: “سار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه” (تك 5: 24). وعبارة “سار مع الله” تدل على حياة مكرسة عاشها فى شركة وثيقة مع الله, والمفهوم من عبارة “لم يوجد لأن الله أخذه” أنها تعنى ما ذكره كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “بالإيمان نقل أخنوخ لكى لا يرى الموت، ولم يوجد لأن الله نقله” (عب 11: 5) كما جاء فى مادته الموجودة فى “دائرة المعارف الكتابية”؟ وبالمناسبة فأخنوخ قد ورد ذكره وصعوده إلى السماء فى العهد القديم. فصعوده إذن هو اعتقاد كل من يؤمن بالكتاب المقدس من نصارى ويهود وغيرهم من أتباع الأنبياء السابقين، وليس اعتقادا غنوصيا كما قال د. يوسف زيدان. على الأقل: هو اعتقاد كتابى فى الأصل. ألم يقرأ عن صعود إِشَعْيَاء إلى السماوات بعد استشهاده وعودته إلى الحياة؟ ألم يقرأ صعود السيد المسيح فى ظروف مشابهة؟ وكل منهم كان نبيا قبل هذا. أى أن النبوة نزلت عليه أولا ومارسها طويلا قبل أن يصعد إلى السماء. فقصة أخنوخ، كما يرى القارئ الكريم، تدل على عكس ما قاله زيدان حين استشهد بها، وتنسف كل دعواه نسفا، إذ كان أخنوخ قد”نزل عليه الوحى” أولا وصار نبيا قبل”صعوده إلى السماء”!
وبالمثل كان إيليا نبيا، أى نزل عليه الوحى، ثم حدث أن أصعده الله فى العاصفة إلى السماء فلم يعد يُرَى من يومئذ كما هو مكتوب فى الإصحاح الثانى من سفر “الملوك الثانى”: “1وَكَانَ عِنْدَ إِصْعَادِ الرَّبِّ إِيلِيَّا فِى الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَنَّ إِيلِيَّا وَأَلِيشَعَ ذَهَبَا مِنَ الْجِلْجَالِ. 2فَقَالَ إِيلِيَّا لأَلِيشَعَ: «امْكُثْ هُنَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِى إِلَى بَيْتِ إِيلَ». فَقَالَ أَلِيشَعُ: «حَى هُوَ الرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِى نَفْسُكَ، إِنِّى لاَ أَتْرُكُكَ». وَنَزَلاَ إِلَى بَيْتِ إِيلَ. 3فَخَرَجَ بَنُو الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِى بَيْتِ إِيلَ إِلَى أَلِيشَعَ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّهُ الْيَوْمَ يَأْخُذُ الرَّبُّ سَيِّدَكَ مِنْ عَلَى رَأْسِكَ؟» فَقَالَ: «نَعَمْ، إِنِّى أَعْلَمُ فَاصْمُتُوا». 4ثُمَّ قَالَ لَهُ إِيلِيَّا: «يَا أَلِيشَعُ، امْكُثْ هُنَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِى إِلَى أَرِيحَا». فَقَالَ: «حَى هُوَ الرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِى نَفْسُكَ، إِنِّى لاَ أَتْرُكُكَ». وَأَتَيَا إِلَى أَرِيحَا. 5فَتَقَدَّمَ بَنُو الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِى أَرِيحَا إِلَى أَلِيشَعَ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّهُ الْيَوْمَ يَأْخُذُ الرَّبُّ سَيِّدَكَ مِنْ عَلَى رَأْسِكَ؟» فَقَالَ: «نَعَمْ، إِنِّى أَعْلَمُ فَاصْمُتُوا». 6ثُمَّ قَالَ لَهُ إِيلِيَّا: «أُمْكُثْ هُنَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِى إِلَى الأُرْدُنِّ». فَقَالَ: «حَى هُوَ الرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِى نَفْسُكَ، إِنِّى لاَ أَتْرُكُكَ». وَانْطَلَقَا كِلاَهُمَا. 7فَذَهَبَ خَمْسُونَ رَجُلا مِنْ بَنِى الأَنْبِيَاءِ وَوَقَفُوا قُبَالَتَهُمَا مِنْ بَعِيدٍ. وَوَقَفَ كِلاَهُمَا بِجَانِبِ الأُرْدُنِّ. 8وَأَخَذَ إِيلِيَّا رِدَاءَهُ وَلَفَّهُ وَضَرَبَ الْمَاءَ، فَانْفَلَقَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ، فَعَبَرَا كِلاَهُمَا فِى الْيَبَسِ. 9وَلَمَّا عَبَرَا قَالَ إِيلِيَّا لأَلِيشَعَ: «اطْلُبْ: مَاذَا أَفْعَلُ لَكَ قَبْلَ أَنْ أُوخَذَ مِنْكَ؟». فَقَالَ أَلِيشَعُ: «لِيَكُنْ نَصِيبُ اثْنَيْنِ مِنْ رُوحِكَ عَلَيَّ». 10فَقَالَ: «صَعَّبْتَ السُّؤَالَ. فَإِنْ رَأَيْتَنِى أُوخَذُ مِنْكَ يَكُونُ لَكَ كَذلِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ». 11وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِى الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ. 12وَكَانَ أَلِيشَعُ يَرَى وَهُوَ يَصْرُخُ: «يَا أَبِى، يَا أَبِى، مَرْكَبَةَ إِسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا». وَلَمْ يَرَهُ بَعْدُ”.
وكذلك الأمر مع النبى إدريس، الذى لم تمنع نبوته، أى “نزول الوحى عليبه”، أن “يُعْرَج به إلى السماء” بعد ذلك كما جاء فى قوله تعالى من سورة”مريم”: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)”، الذى يفسره الطبرى بقوله: “يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد في كتابنا هذا إدريس “إنَّهُ كانَ صِدّيقًا” لا يقول الكذب، “نَبِيًّا” نوحي إليه من أمرنا ما نشاء،”وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِيًّا”. ذكر أن الله رفعه وهو حيّ إلى السماء الرابعة، فذلك معنى قوله: “وَرَفَعْناهُ مَكانا عَلِيًّا”. يعني به: إلى مكان ذي علوّ وارتفاع. وقال بعضهم: رُفع إلى السماء السادسة. وقال آخرون: الرابعة”. كما أورد الطبرى الرواية التالية: “لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم صعد به جبريل إلى السماء الرابعة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قالوا: ومن معه؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قالوا: حَيَّاه الله من أخ ومن خليفة. فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو برجل. قال: هذا إدريس رفعه الله مكانا عليًّا”.
ثانيا كيف يجزم زيدان أن سورة “النجم” لا تتحدث إلا عن رؤية واحدة رأى فيها النبىُّ عليه السلام بالأفق الأعلى”شديدَ القُوَى ذا المِرَّة” الذى علّمه الوحى، والآيات التى تلى ذلك مباشرة تصف رؤية أخرى فى مكان آخر من الكون: عند سدة المنتهى، التى عندها جنة المأوى؟ يقول سبحانه وتعالى: “ولقد رآه نَزْلَةً أخرى * عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عندها جنةُ المأوى * إذ يَغْشَى السِّدْرةَ ما يغشى * ما زاغ البصرُ وما طَغَى * لقد رأى مِنْ آياتِ ربِّه الكبرى”. أم تراه يقول بأن جنة المأوى موجودة على الأرض؟ فليرناها ما دام واثقا بنفسه وبأوهامه إلى هذا المدى.
ثم لدينا أحاديث المعراج ذاتها. ففى”صحيح البخارى” مثلا أنَّ “رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: فُرِجَ عن سقفِ بيتي وأنا بمكةَ، فنزَل جِبريلُ ففرَج صدري ثم غسَله بماءِ زَمزَمَ، ثم جاء بطَستٍ من ذهَبٍ ممتَلِئٍ حكمةً وإيمانًا فأفرَغه في صدري، ثم أطبَقه، ثم أخَذ بيدي فعرَج بي إلى السماءِ الدنيا. فلما جئتُ إلى السماءِ الدنيا قال جِبريلُ لخازنِ السماءِ: افتَحْ. قال: مَن هذا؟ قال: هذا جِبريلُ. قال: هل معَك أحدٌ؟ قال: نعمْ، معي محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال: أُرسِلَ إليه؟ قال: نعمْ. فلما فتَح عَلَوْنا السماءَ الدنيا، فإذا رجلٌ قاعدٌ، على يمينِه أسوِدَةٌ، وعلى يسارِه أسوِدَةٌ، إذا نظَر قِبَلَ يمينِه ضحِك، وإذا نظَر قِبَلَ يسارِه بَكى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالحِ والابنِ الصالحِ. قلتُ لجِبريلَ: مَن هذا؟ قال: هذا آدَمُ، وهذه الأسوِدَةُ عن يمينِه وعن شمالِه نَسَمُ بنيه: فأهلُ اليمينِ منهم أهلُ الجنةِ، والأسوِدَةُ التي عن شمالِه أهلُ النار، فإذا نظَر عن يمينِه ضحِك، وإذا نظَر قِبَلَ شمالِه بَكى، حتى عَرَج بي إلى السماءِ الثانيةِ، فقال لخازِنِها: افتَحْ،. فقال له خازنُها مثلَ ما قال الأولُ، ففتَح. قال أنسٌ: فذكَر أنه وجَد في السماواتِ آدَمَ وإدريسَ وموسى وعيسى وإبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليهم، ولم يُثبِتْ كيف منازلُهم، غيرَ أنه ذكَر أنه وجَد آدَمَ في السماءِ الدنيا، وإبراهيمَ في السماءِ السادسةِ. قال أنسٌ: فلما مرَّ جِبريلُ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإدريسَ قال: مرحبًا بالنبيِّ الصالحِ والأخِ الصالحِ. فقلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا إدريسُ. ثم مرَرتُ بموسى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالحِ والأخِ الصالحِ. قلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا موسى. ثم مرَرتُ بعيسى، فقال: مرحبًا بالأخِ الصالحِ والنبيِّ الصالحِ. قلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا عيسى. ثم مرَرتُ بإبراهيمَ، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالحِ والابنِ الصالحِ. قلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا إبراهيمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال ابنُ شهابٍ فأخبَرَني ابنُ حزمٍ: أنَّ ابن عباسٍ وأبا حبةَ الأنصاريَّ كانا يقولانِ: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ثم عُرِج بي حتى ظهَرتُ لمستوًى أسمَع فيه صَريفَ الأقلامِ. قال ابنُ حزمٍ وأنسُ بنُ مالكٍ: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ففرَض اللهُ على أُمَّتي خمسينَ صلاةً، فرجَعتُ بذلك، حتى مرَرتُ على موسى، فقال: ما فرَض اللهُ لك على أُمَّتِك؟ قلتُ: فرَض خمسينَ صلاةً. قال: فارجِعْ إلى ربِّك، فإنَّ أُمَّتَك لا تُطيقُ ذلك. فراجَعني فوضَع شَطْرَها، فرجَعتُ إلى موسى، قلتُ: وضَع شَطرَها. فقال: راجِعْ ربَّك، فإنَّ أُمَّتَك لا تُطيقُ. فراجَعتُ فوضَع شَطرَها، فرجَعتُ إليه، فقال ارجِعْ إلى ربِّك، فإنَّ أُمَّتَك لا تُطيقُ ذلك، فراجَعتُه، فقال: هي خمسٌ، وهي خمسونَ، لا يُبَدَّلُ القولُ لديَّ، فرجَعتُ إلى موسى، فقال: راجِعْ ربَّك، فقلتُ: استَحْيَيْتُ من ربي، ثم انطَلَق بي حتى انتَهى بي إلى سِدرةِ المنتهى، وغشِيها ألوانٌ لا أدري ما هي، ثم أُدخِلتُ الجنةَ، فإذا فيها حبايلُ اللؤلؤِ، وإذا ترابُها المسكُ”.
وأما ما قاله عن تأثر قصة المعراج بحكايات مشابهة لدى الأمم الأخرى فلسوف أقف من تلك الحكايات لدى الحكاية الزرادشتية المتعلقة برحلة أرتاويراف ورحلة إيتانا البابلية كى يتبين للقارئ مدى التدليس فى كلام الرجل. وإننا لنتساءل: أين يا ترى كانت تلك الحكايات الزرادشتية والهندية والهرمسية التى يتحدث عنها الكاتب؟ هل تُرْجِمت إلى العربية حتى يمكن القول باحتمال اطلاع العرب عليها؟ أم هل جاء ذكر للكتاب فى تراثنا العربى قط؟ فمن ذكره يا ترى؟ وفى أى سياق؟ واضح أن زيدان قد ألقى كلمته دون احتياط على الإطلاق، ولم يفكر لا فى العواقب ولا حتى فى المصادر! ويزيد الأمر سوءا وتعقيدا وغرابة أن زيدان لم يجشم نفسه تعريفنا بشىء من التفصيل بالرحلات السماوية التى يشير إليها بل اكتفى بالقول بأنها معارج. ولسوف آخذ حكاية الموبذ الزرادشتى أرتاويراف وأفصل القول فيها بعض التفصيل وأقارن بينها وبين معراج نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وفى “الموسوعة الإيرانية: Encyclopedia Iranica” نطالع قصة هذه الرحلة فى مادة “ARDĀ WĪRĀZ”.
ومنها يتضح أن الذى قام بالرحلة موبذ زرادشتى (لا نبى) من سَدَنة بيت النار (فهو إذن وثنى) أراد أن يتحقق من صحة دينه وما يقوله هذا الدين عن الآخرة والثواب والعقاب (أى أنه هو الذى قرر القيام بتلك الرحلة لا أن الله هو الذى شاء له ذلك، وأنه لم يكن واثقا من دينه فأراد التحقق من صحته، وهو ما يختلف تمام الاختلاف عن وضع نبينا عليه السلام) وأنه كان متزوجا بسبع نساء هن أخواته جريا على ما هو جائز وشائع فى ديانتهم (على عكس النبى الكريم، الذى لم يكن متزوجا آنذاك، فقد ماتت خديجة زوجته الوحيدة وصار بلا زوجة، فضلا عن أن الإسلام يحرم الاقتران بالأخوات)، وأن زوجاته كن مشفقات بل مرتعبات من رحلته هذه التى كان على روحه أن تفارق خلالها جسده إلى أن تنتهى منها فتعود كرة أخرى إلى ذلك الجسد، وأنه لكى يستعد للقيام بالرحلة قد تناول شرابا أفقده الوعى لمدة سبعة أيام وسبع ليال… إلخ (وليس هناك شىء من هذا فى معراج الرسول عليه الصلاة والسلام). فأين هذا كله من المعراج المحمدى؟ وهل كان العقل الإسلامى ليقبل أن يخترع لنبيه معراجا يقلد فيه موبذا فارسيا وثنيا عابدا للنار متخلف العقيدة والشعائر فى مثل تلك الرحلة؟ وهل كان الفرس الشعوبيون الكارهون للإسلام ليسكتوا على ذلك فلا يشنعوا به على الرسول الكريم ودينه وقرآنه؟ وهذا لو كان المسلمون يعرفون بتلك الرحلة الزرادشتية؟ بالعكس لقد احتفى الفرس بقصة المعراج وصوروا صعود سيدنا رسول الله وهو راكب البراق، والملائكة تحيط به إجلالا واحتراما، تصويرا بديعا بألوان بهيجة غاية فى الجمال.
أما رحلة إيتانا فيمكن الرجوع إلى “Encyclopædia Britannica”، التى خصصت لها مادة بعنوان “Etana Epic”، وقالت ما تَرْجَمَتُه حسبما جاء فى مقال لآية عبد الرحمن فى موضع “رصيف 22” عنوانه “كيف تشابهت أحداث المعراج الإسلامى مع مثيلاتها فى الديانات الأخرى؟” (بتاريخ 22/ 4/ 2017) تبدى فيه ابتهاجها لأنها، كما تظن وتتوهم، قد وضعت يدها على المصدر الذى أُخِذَتْ منه رحلة الإسراء والمعراج المحمدية. تقول الكاتبة تحت عنوان جانبى هو “إيتانا- الصعود المقدس عند البابليين”: “إلى جانب الزرادشتية تتشابه أحداث المعراج الإسلامى مع أسطورة الملك إيتانا البابلية، والتى نقلتها إلينا بعض الألواح الأثرية، بحسب الموسوعة البريطانية.
تبدأ القصة بأنه لم يكن هناك ملك على الأرض حتى قررت الآلهة أن تصطفى واحدا، فوقع اختيارها على إيتانا، فحكم شعبه على خير وجه، ولكنه عانى من أن زوجته لم تمنحه وريثا، ولم يكتمل لها حمل قط، وأصبح الملك العظيم مهددا بأن يموت دون وريث يعتلى العرش من بعده.
وكان الحل الوحيد أمام إيتانا أن يصل إلى نبتة الولادة، أو شجرة الولادة التى تنبت فى السماء، وكان مطلوبا منه أن يصعد بنفسه لإحضارها، ليظفر بالوريث الذى يحلم به. وعلى هذا تضرع إيتانا للإله شَمَشْ، فاستجاب لصلواته وأمره بالسير إلى جبلٍ معين، حيث سجن نسرا مارقا فى حفرة عقابا له على إخلافه بعهدٍ مقدس.
كان خلاص إيتانا من لعنته يتمثل فى الحصول على مساعدة هذا النسر فى بلوغ النبتة، فعمل على إنقاذه من حفرته، واعتنى به، ومكافأة له على نبله أخذه الطائر العظيم إلى السماء.
لا نعرف على وجه الدقة كيف كانت رحلة إيتانا، نظرا لأن اللوح الأثرى الذى دونت عليه القصة تكسر فى أكثر من موضع، ولكن الجزء السليم منه ذكر أن الملك البابلى الصالح بلغ السماء، وهناك انهار شبه فاقد للوعى. ولكن مهما كان مسار الأحداث فقد عاد بجزءٍ من نبتة الولادة، ورزق ابنا هو الملك “بالح”.
ويرجح المؤرخون أن يكون الملك إيتانا الذى ذكرته الأسطورة هو نفسه الملك إيتانا الذى حكم مدينة كيش فى جنوب بلاد ما بين النهرين، فى وقتٍ ما من النصف الأول من الألفية الثالثة قبل الميلاد. وإلى جانب أنها من القصص الأولى التى ذكرت الصعود إلى السماء فى التاريخ الإنسانى، فهى أيضا من أوائل القصص التى عرضت توق الإنسان إلى وريث يحمل اسمه، ويكون امتداده فى الحياة”. وهذا هو الأصل الإنجليزى بحذافيره:
“Etana Epic, ancient Mesopotamian tale concerned with the question of dynastic succession. In the beginning, according to the epic, there was no king on the earth; the gods thus set out to find one and apparently chose Etana, who proved to be an able ruler until he discovered that his wife, though pregnant, was unable to give birth, and thus he had no heir to the throne. The one known remedy was the birth plant, which Etana was required to bring down personally from heaven. Etana, therefore, prayed to the god Shamash, who heard his request and directed him to a mountain where a maimed eagle, languishing in a pit (into which it had been thrown as punishment for breaking a sacred pact), would help him obtain the special plant. Etana rescued the eagle, and as a reward it carried him high up into the sky.
The result of Etana’s quest is uncertain because of the incomplete state of the texts. According to one fragment, Etana reached heaven and prostrated himself before the gods. There the text breaks off. According to another fragment, however, Etana either became dizzy or lost his nerve before reaching heaven and crashed to the ground. If, as many scholars believe, Etana was successful, the myth may have been used to support early dynastic claims.
Etana of the myth is probably the Etana who ruled Kish in southern Mesopotamia sometime in the first half of the 3rd millennium BC, although there is no historical evidence laying claim to the exploits recorded in the epic. His flight is depicted on several cylinder seals of the period”.
فأين، بالله عليك أيها القارئ، وجه الشبه بين معراج رسولنا وبين هذا الكلام؟ لا يوجد شىء على الإطلاق: فالكلام هنا عن ملك، بينما فى معراجنا هناك نبى. وعندنا إله واحد، وفى أسطورة إيتانا مجمع من الآلهة. وبينما نحن مع رسولنا أمام توحيد صاف نقى خالص، إذا بنا مع إيتانا إزاء شرك ووثنية. وفى معراج محمد لدينا البراق، ولا براق فى أسطورة إيتانا. كذلك فرحلة محمد السماوية رحلة روحية، أما هنا فرحلة دنيوية تتعلق بالحكم ووراثة العرش والعقم والحمل والولادة وما إلى ذلك. كما أن فى أسطورة إيتانا نسرا ونبتة للولادة، وهو ما لا وجود له فى معراج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم… وهكذا، وهكذا. فما معنى ذلك الابتهاج إذن، وكأن الكاتبة قد أتت بالذئب من ذيله؟ إن الأمر لا يزيد عن كونه أوهاما خطرت لها أو لمن نقلت عنهم. ومثل هذه الأمور لا تؤخذ بالأوهام؟ وبالمناسبة لم تقل “Encyclopædia Britannica” كلمة واحدة عن أى تشابه بين أسطورة إيتانا وبين معراج الرسول العربى الكريم.
إن يوسف زيدان ومن يشبهه إنما يحطبون فى حبل أولئك الكتاب الذين أصابهم السعار سعيا منهم لقلب المعارف التاريخية والجغرافية رأسا على عقب بِلَىّ رقاب الحقائق العلمية بل بكسرها وتحطيمها، ومنهم مثلا كمال الصليبى الأستاذ اللبنانى الذى كتب زاعما أن مواضع التوراة وبنى إسرائيل ليست فى فلسطين بل فى جزيرة العرب. وهو يلجأ فى هذا إلى طرق وأساليب غاشمة معتسفة لا ترعى حقا ولا تلتزم بمنطق، وإن كان هناك من يهلل له ويهتف بمنهجه مدعيا أنه سوف يعدل الأوضاع المائلة الباطلة ويعيد الحق التاريخى إلى نصابه.
ومن هؤلاء أيضا المستشرق الإيطالى كايتانى، الذى يدعى أن “سِدْرَة المنتهَى” المذكورة فى سورة” النجم” بوصفها الموضع الذى رأى عندها رسولُنا الكريم جبريلَ عليهما السلام نزلةً أخرى هى شجرة نبق كانت تقوم على أطراف مكة، وأن “جنة المأوى” التى كانت عند تلك السدرة هى فيلا من الفلل هناك. وقد نقل ريجى بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن المجيد ذلك التفسير فى الهامش عند ترجمته آيتى سورة “النجم” اللتين ذكرتا سدرة المنتهى وجنة المأوى.
أما ما زعمه يوسف زيدان عن عبد الملك بن مروان واللعبة السياسية التى لعبها حين بنى المسجد الأقصى فمأخوذ من المستشرق الدانمركى فرانتس بوهل، الذى قال فى مادة “القدس” من “The Encyclopadia of Islam” (ط1) إن العاهل الأموى فد شيد المسجد المذكور ليصرف المسلمين التابعين له عن الحج إلى بيت الله الحرام، وكان واقعا آنذاك تحت سيطرة الزبيريين، خشية أن يهتبل ابن الزبير تلك السانحة فيأخذ منهم البيعة له. وهذا كلام مضحك، إذ ما المشكلة فى أن يأخذ ابن الزبير من أتباع الخليفة الأموى العهد له؟ فليعطوه ما يريد من عهد بل من عهود، وليرموا بتلك العهود خلف ظهورهم فور مفارقتهم مكة. ترى ما المشكلة فى هذا؟ لقد اعتمد بوهل على رواية لليعقوبى الشيعى المبغض لبنى أمية والمفترى عليهم الأكاذيب، لأن حج الشاميين لم ينقطع يوما طوال أيام عبد الملك حسبما ذكر الطبرى وابن سعد والبلاذرى مثلا. ثم إن أحدا قبل اليعقوبى لم يقل هذا السخف، فهل يعقل أن يظل هذا الخبر كامنا فى الزوايا المظلمة إلى أن أتى اليعقوبى فاكتشفه دون الخلق أجمعين؟ والعجيب أن يقول اليعقوبى إن هذا الأمر قد استمر طوال حكم الأمويين مع أنه يعود فيقول إن عبد الملك ذاته قد حج إلى البيت الحرام. فكيف نوفق بين هذين النقيضين؟ ثم هل يمكن أن يقدم عبد الملك على خطوة كارثية مثل هذه ولا يرتج العالم الإسلامى من أقصاه إلى أقصاه؟ وكيف لم يحاول الزبيريون اهتبال هذه الفرصة للتشنيع على هذا الغريم المزعج الخطير؟ وباستطاعتة القارئ العودة فى هذا الموضوع إلى كتابى: “دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل” فى الفصل الخاص بالأمور التاريخية فى تلك الموسوعة المفعمة بالأكاذيب والتلفيقات والأحقاد والتى تكاد ألا تترك شيئا فى الإسلام إلا وشككت فيه وفسرته تفسيرا مسيئا غير عائبة بحق أو حقيقة.
وهناك فى الفترة الأخيرة اتجاه بين قطيع من المستشرقين ومن يعدو لاهثا على آثارهم يتلخص فى إشاعة الاضطراب والتشكيك فى كل شىء يتعلق بالنبى محمد والدين الذى أتى به من حيث الجغرافيا والتاريخ والوقائع التى حدثت عندئذ. بل إن بعضهم لينكر أن يكون هناك شخص اسمه محمد أصلا، ومن ثم لم يكن هناك قرآن، بل هو نص اخْتُرِع اختراعا فيما بعد أيام الأمويين وصُنِعَت له سيرة واخْتُلِق له شخص اسمه محمد قيل على سبيل الزيف والبهتان إنه كان رجلا عربيا نزل عليه الوحى بالقرآن، مع أن شيئا من ذلك ليس له أى وجود كما يزعم هؤلاء المتاعيس. وهم يَرَوْن أن هذا هو التفكير الحداثى الذى يخرج على المواضعات البالية، متصورين أو موهمين قراءهم أن التفكير المنطقى شىء أكل عليه الدهر وشرب. وهم فى سبيل هذا يأتون بأمور تضحك الثكالى من فرط سخفها وتهافتها، ومع ذلك نجدهم يكتبون هذا السخف بكل وقار وتعاقل.
فزيدان لا يأتى بشىء جديد فى هذا الخلط الذى يمارسه بل هو حاطبٌ فى حبال أولئك الناس يقلدهم تقليدا مهزولا لغاية واضحة تمام الوضوح، إذ ما أسرع أن التقط الصهاينة الخيط فأَثْنَوْا عليه وأكبروا من شأنه ورحبوا أيما ترحيب به وبما قال لأنه يخدم دعاواهم وأطماعهم فى فلسطين، التى امتلخوها من أهلها العرب والمسلمين ويريدون أن يهدموا أمرها فى نفوسنا حتى تنسى الأجيال القادمة عروبة تلك الأرض المباركة وإسلاميتها ويتركوها لليهود. وهيهات ثم هيهات مهما كانت أحوالنا وأوضاعنا الآن فى غاية السوء والانحطاط.
أما إنكار الإسراء والقول بأنه كان فى المنام فكلام لا معنى له فى ضوء النص القرآنى الذى يقول: “سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا. إنه هو السميع البصير”، إذ لا يقال عن النائم إنه أُسْرِىَ به، كما لا يقال: أُسْرِىَ بروحه. ومن هنا لا يصح أن يقال إن فلانا أُسْرِىَ به إلا إذا كان هو نفسه الذى سرى، وكان مسراه فى اليقظة لا فى المنام. وبالمثل لا يقال عن الصور والأشباح التى يراها الشخص فى المنام إنه قد رأى آيات ربه. كذلك لا تُوصَف مثل هذه الرؤيا بأنها معجزة يسبّح القرآنُ جَرَّاءَها اللهَ عز وجل. ثم لو كانت مجرد رؤيا لما أثارت أحدا ودفعته إلى التكذيب لأن أحدا لا يفكر فى تكذيب خيالات النائمين، إذ ما أكثر الخيالات التى نراها فى المنام والتى كثيرا ما تصل فى الغرابة والإدهاش حدا بعيدا شاسعا، ورغم هذا لا ينكرها أحد لا من المحبين المرافئين ولا من المبغضين المعارضين.