سنرى اليوم هذا السُّلوك الإلحاديَّ مع أوَّل مُكوِّنٍ، ألا وهو: نزعة التَّدين، ونقصد بالتَّدين: إدراك الإنسان أنَّ له ولهذا الكون خالقًا مدبِّرًا، والرَّغبة في عبادة هذا الخالق والتَّقرُّب منه، والشُّعور بالحاجة إليه، وكذلك الُّلجوء إليه عند الشَّدائد
المنظور الإسلاميُّ يذكر وجود هذه النَّزعة كحقيقةٍ مسلَّمةٍ، وذلك في آيات كثيرة،كقول الله تعالى:”وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا” الإنسانُ عمومًا؛ لأنَّها فطرةٌ مزروعةٌ في كلِّ إنسانٍ،
في البداية، أنكر الملحد فطريَّة التَّديُّن، وقال: “بل إيمان النَّاس بِوجود خالقٍ أمرٌ مكتَسَبٌ بتأثير التَّربية، وتناقُل الأجيال لهذه الدَّعوة، ولو تُرِك الإنسان ونفسَه، فليس هناك ما يدعوه للإيمان بوجود خالقٍ”
ويقول لك الملحد: “هناك معتقداتٌ كثيرةٌ، يؤمن بها أصحابها مع أنَّها مجرَّد خرافاتٍ، كبابا نويل، الَّذي يأتي على عربةٍ من السَّماء، ليلة العيد -عيد الميلاد-، والتِّنِّين الَّذي ينفث النَّار…”
فأصالةُ التَّديُّن في النَّفس البشريَّة أمرٌ تؤكِّده دراسات الأنثروبولوجي (علم الإنسان)، والسُّوسيولوجي (علم الاجتماع)، وبات من المألوف في العديد من الدِّراسات التَّعبير عن فطريَّة التَّديُّن بأنَّ الدِّين أشبَهُ ما يكونَ بشيءٍ قد تمَّ تسليكه في الإنسان “religion is hardwired in humans” يعني: هو مُكوِّنٌ صميميٌّ في الإنسان، مختلِطٌ بلحمه ودمه كالشَّرايين والأعصاب، وهي حقيقةٌ ضاربةٌ في عمق التَّاريخ، لكنَّ ترديدهم المَرَضيَّ لمثل هذه العبارات، بمناسبةٍ أو بدون مناسبةٍ يدلُّ على نفسيَّاتٍ مُتصارِعةٍ، تُغالِب صوتًا عميقًا فيها وتحاول كَبْتَه، وإلَّا لَمَا احتاجوا إلى هذه الضَّوضاء، خاصَّةً وأنَّ الملحد لا ينتظر جزاءً أخرويًا على الاستعلانِ بمعتَقَدِه، ولا لديه دوافع أخلاقيَّةٌ مطلقةٌ تدفعُه إلى استنقاذ النَّاس مِن ضلال الإيمان بالله -حَسْبَ معتقده- ولفراغٍ يعصف بكثيرٍ من الملاحدة، بعد أن أنكروا هذا المكوِّن الِفطريَّ الَّذي يفرِض نفسه عليهم، بدأوا بتأسيس لونٍ من التَّجمُّعات الإلحاديَّة على نحوٍ طُقوسيٍّ مشابهٍ -إلى حدٍّ بعيد- التَّجمُّعاتِ الدِّينيَّة، مثل: ما يعرف بكنائسِ الملاحدة (كنائس الملحدين)atheist churches والَّتي بدأت بالانتشار في دولٍ متعدِّدةٍ، كأمريكا وكندا وبريطانيا في تعبير واعٍ أو غير واعٍ عن مكنُونٍ فطريٍّ، يبحث عن شكلٍ مِن أشكال التَّنفيس وصَدَق ابن القيِّم إذ قال:”إنَّ في القلب فاقةً -أي حاجةً- لا يسدُّها شيءٌ سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعثٌ -يعني تفرُّق- لا يلمُّه غير الإقبال عليه، وفيه مرضٌ لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده” قالوا: نزعة الإيمان بالخالق ليست بالضَّرورة أن تكون مطابقةً للحقيقة، بل قد تكون مجرَّد توهُّم أنتجته العشوائيَّة، قد تكون صفةً انتخبتها الطَّبيعة لتساعد الإنسانَ على البقاء، وسنبحث عن سببٍ ماديٍّ لنزعة التَّديُّن، وبدأتْ بالفعل تتشكَّل مجالاتٌ معرفيَّةٌ خاصَّةٌ لدراسة هذه الظَّاهرة فقد تفرَّع عن علم الأعصاب الـ(Neuroscience)، ما بات يعرف بـ (neurotheology)، أي: علم اللَّاهوت العصبيّ؛ وهو مجالٌ بحثيٌّ يسعى للكشف عن طبيعة الصِّلة بين الجهاز العصبيّ وظاهرة التَّديُّن، بل بلغ الأمر إلى التَّفتيش عن جينٍ مسؤولٍ عن نزعة التَّديُّن هذه فقد نشر عالم الجينات الأمريكي دين هامر “Dean Hamer” كتابًا سنة 2005 بعنوان:(The God Gene: How Faith Is Hardwired into Our Genes) يعني: (الجين الإلهي: كيف ضُمِّن الإيمانُ في جيناتنا)، بدايةً، لاحِظ أنَّ هؤلاء الملحدين لم يبحثوا عن تفسيراتٍ ماديَّةٍ لقناعة بعض النَّاس بوجود التِّنِّين، ولا لأمثلة الملحدين السَّخيفة الَّتي يضربونها؛ ليقولوا أنتم تفترضون وجود إلهٍ، وأيُّ إنسانٍ قد يفترض شيئًا آخر، كوحش الإسباغيتي الطَّائر، أوالإبريق الدَّائر في الفضاء لأنّه فرقٌ -كلَّ الفرق- بين هذه المعتقدات والأمثلة السَّخيفة، وفي المقابل نزعة التَّديُّن الأصيلة، شديدة العمق في الجنس البشريِّ سنرى في حلقةِ (الشُّعور بالإرادة الحرَّة) بُطلان محاولة تقديم تفسيرٍ ماديٍّ جينيٍّ لكلِّ شيءٍ وتحوُّله إلى سخافةٍ مُبتَذَلةٍ ومع ذلك نقول: فلنفترِض جدلًا أنَّكم وجدتم جيناتٍ لنزعةِ التَّديُّن، وأخرى للضَّروراتِ العقليَّة، ومجموعةً ثالثةً للأخلاق، ورابعةً للغرائز، وخامسةً للشُّعور بالغائيَّة، ومجموعةً سادسةً من الجينات للإرادة الحرَّة، وهو ما يبدو متناقضًا طبعًا، كأنَّنا نقولُ: جيناتٌ تجبرك على أن تكونَ حرًا! لكن، فلنفترض.. فلنفترض أنَّكم وجدتُم هذا كلَّه، ما هذه الحُزمة المتناسَقة الموجَّهة الَّتي تجعل النَّاس مؤمنين بوجود خالق، محبِّين لعبادته، مُلتجِئين إليه، مالكين لضروراتٍ عقليةٍ يفهمون بها مُرادَه، ونزعةٍ أخلاقيِّةٍ منسجمةٍ مع أوامِره، وشعورٍ بالغائيَّة يدفعهم للبحث عن مراده والالتزام به، وإرادةٍ حرَّةٍ يختارون بها طاعته أو معصيته، وغرائز تضمَن استمرار جنسهم في هذه الأرض خلال فترة اختبارهم…؟ حتَّى لكأنَّ عشوائيَّتكم تعبُّد ربَّنا! إن وجدتم هذه الحزمة، فما هو إلَّّا دليلٌ آخرٌ على عِظم هذا الخالق، الَّذي أودَعَها في البشر، وكامَلَ بينها وجعلها منسجمةً مع أوامره الشَّرعيَّة