نظرةٌ تأَمُّلِيَّةٌ في خروجِ سيِّدنا يوسفَ – عليه السَّلامُ – مِن السِّجنِ.
نظرةٌ تأَمُّلِيَّةٌ في خروجِ سيِّدنا يوسفَ – عليه السَّلامُ – مِن السِّجنِ:
.
إنَّ النَّاظِرَ المُتَأَمِّلَ في قصَّةِ سيِّدِنا يوسفَ – عليه السَّلامُ -؛ يجِدُ أنَّه جاءتْه ثلاثةُ فُرَصٍ ذَهَبيَّة للخرُوجِ مِن السِّجنِ أحدُها أكبرُ مِن أُختِها، ومع ذلك لم يُسارِعْ لاستِغلالِها أوِ التَّشَبُّثِ بِهِا؛ لأنَّها كانت فُرَصًا بِها شيءٌ مِن الدُّونِيَّةِ:
.
الفُرصةُ الأُولى: عندما رأى مَلِكُ مِصرَ رُؤياه المَشهورةَ، ولم يستَطِعْ أحدٌ مِن حضُورِه تأويلَها، فدَلَّ الملِكَ صاحِبُ السِّجنِ الذي خَرَجَ علَى يوسفَ – عليه السَّلامُ -، بأنَّ يوسُفَ يستطِيعُ تأويلَ الرُّؤى كما في قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45]، وكان ذلك مِن صاحِبِ السِّجنِ مَبنِيًّا عَلَى عِلْمٍ مُسْبَقٍ مِن حالِ يوسفَ – عليه السَّلامُ – لَمَّا أوَّلَ له رُؤيَاه مِن سنواتٍ في السِّجنِ لَمَّا كان مَعًا كما في قولِه: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41].فلَمَّا أُرْسِلَ صاحبُ السِّجنِ إلى يوسفَ – عليه السَّلامُ -، قال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف: 46] وقَصَّ عليه ما رآه المَلِكُ.
وهُنا تأتي الفُرصَةُ لكي يخرَجَ مِن السِّجنِ لو أرادَ؛ بحيث يُساوِمُ علَى خُروجِه مِن السِّجنِ مُقابِلَ تأويلِ الرُّؤيا، ومع ذلك لم يفعَلْ هذا بل قامَ بتأويلِ الرُّؤيا دُونَ أيِّ تَلَكُّؤ أو شُرُوطٍ، وهكذا ينبَغي علَى العالِمِ أوِ المُفتي أوِ المُصلِحِ ألَّا يُسَاوِمَ بعِلْمِه مِن أجلِ حاجةٍ دُنيَوِيَّةٍ أو مصلَحَةٍ شخصيَّةٍ.
ثُمَّ إنَّ يوسفَ – عليه السَّلامُ – لو فعَلَ هذا، لربَّما سَقَطَ مِن عَينِ المَلِكِ فيجعلُه مع سُوقةِ النَّاسِ مِن الخَدَمِ والهَمَجِ والرِّعاعِ، أو لرُبَّما أخَذَ مِنه الملِكُ ما يُريدُ ثُمَّ يُنَكِّلُ به بعدَها إذ عاقِبَةُ المُلُوكِ لا تُؤمَنُ، أو غير ذلك.
.
الفُرصةُ الثَّانية: أنَّه – عليه السَّلامُ – بعدَمَا قامَ بتأويلِ الرُّؤيا، وعلِمَ مِن التَّأويلِ أنَّ ثَمَّةَ كَرْبٌ سيَحِلُّ بالبِلادِ وأنَّ ذلك يحتاجُ إلى خطَّةِ إنقاذٍ حتَّى لا يَهلَكَ النَّاسُ والرَّعيَّةُ؛ كانَ باستِطَاعتِه – عليه السَّلامُ – أنْ يُساوِمَ علَى خُروجِه مِن السِّجنِ مُقابِلَ هذه الخطَّةِ، ومع ذلك لم يفعَلْ هذا بل قامَ بتأويلِ الرُّؤيا مَقْرُونَةً بخطَّةِ الإنقاذِ دُونَ أنْ يُطْلَبَ منه ذلك ابتِدَاءً، وهكذا ينبَغي علَى العالِمِ أوِ المُفتي أوِ المُصلِحِ ألَّا يُسَاوِمَ في مِثلِ هذا سِيَّمَا والأمرُ مُتَعَلِّقٌ بنجاةِ النَّاسِ وحياتِهم وما فيه سعادتُهم وسعادةُ أبنائهم، حتَّى وإنْ كان الرَّاعي ظالِمًا؛ لأنَّ الأمرَ عندئذٍ لن يكون مُتَوَقِّفًا علَى الرَّاعي وحدَه بل يَشْمَلُ الدَّولةَ والرَّعيَّةَ.
وبهذين الأمرين – تأويل الرُّؤيا وخطَّة الإنقاذِ – يكونُ ليوسفَ – عليه السَّلامُ – مِنَّةٌ في رَقَبَةِ الملِكِ ورَعِيَّتِه، ومِن ثَمَّ تأتي الفُرصَةُ الثَّالثة:
.
الفُرصةُ الثَّالثة: بعدَ هذا الذي قدَّمَه يوسفُ – عليه السَّلامُ – أرادَ المَلِكُ أنْ يُكافئ يوسفَ – عليه السَّلامُ – بإخرَاجِه مِن السِّجنِ كما في قولِه: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50]، وهذه أعظمُ فرصةٍ للخرُوجِ إذ هي بطَلَبٍ مِن ملِكِ مصرَ نفْسِه دُونَ طَلَبٍ مِن يوسفَ – عليه السَّلامُ -، ومع ذلك لم يُسارِعْ يوسفُ – عليه السَّلامُ – في تلبيَةِ الطَّلَبِ أوِ الخروجُ؛ إذ كيفَ يخرُجُ وهو مُتَّهَمٌ بما لم يفعَلْ ويكون خُرُجُه بِمِنَّةٍ مِن ملِكِ مِصرَ عليه، ويَظَلُّ في نَظَرِ أكثرِ النَّاسِ مُتَّهَمًا خَرَجَ بكفَالَةٍ، بل طَلَب يوسفُ – عليه السَّلامُ – مِن رسولِ ملِكِ مِصرَ أنْ ينظُروا في قضيَّتِه التي دخلَ السِّجنَ مظلومًا بسببِها أوَّلًا كما في قولِه: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50].
فلَمَّا جمَعَ الملِكُ النِّسوةَ وامرأةَ العزيزِ وسألَهم، وظَهَرَتْ بَرَاءةُ يوسُفَ وأنَّه سُجِنَ مظلومًا، عَظُمَ في عَيْنِ الملِكِ وأمَرَ للمَرَّةِ الثَّانِيةِ بأنْ يُحضِرُوا له يوسفَ – عليه السَّلامُ – مِن السِّجنِ ولكنَّه قال هنا: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54]، والفَرْقُ بيْن هذا وبيْنَ ما قالَه في المَرَّةِ الأُولى؛ أنَّه قال في المَرَّةِ الأُولى: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] فقط مجَرَّدَ إحضارٍ مِن السِّجنِ، أمَّا في المَرَّةِ الثَّانيةِ قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54] أي جيئوني به أجعله من خلصائي وأهل مشورتي، بل تَطَوَّرَ الأمرُ إلى أنْ جعلَه علَى خزائنِ الأرضِ.
.
وبهذا يكونُ قد تَمَّ خروجُ سيِّدِنا يوسفَ – عليه السَّلامُ – مِن السِّجنِ بعدما ظَهَرَتْ براءتُه، وأيضًا له مِنَّةٌ في رقَبَةِ المَلِكِ ورِقابِ أهلِ مِصرَ، بل وأصبَحَ عزيزَ أهلِ مِصرَ، {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].
ولو أنَّه – عليه السَّلامُ – سارَعَ إلى أيٍّ مِن الفُرَصِ الثَّلاثِ، ما كان تَمَّ له شيءٌ مِن هذا الذي تَمَّ، والفضلُ للهِ أوَّلًا وآخرًا، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبحان الله وبحمده – سبحان الله العظيم