(مِنْ) في أوّل سورة البيِّنة تبعيضية!
(16) زعم البحيري: أنَّ (مِنْ) في أوّل سورة البيِّنة تبعيضية، قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]، وقال: هذا في رأيي أو نظري. بل وألصق هذا الكلام بشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -.
– الرَّدّ: في نِقاط سريعة كالتَّالي:
1- أنَّ (مِن) هُنا بيانية وليست تبعيضية، وهو قول عُمُوم المُفسِّرين، كما في قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، فهل الأوثان بعضها رجس وبعضها ليس برجس؟! طبعاً كلا، فلا يستطيع ذلك الدَّعِيّ أنْ يقول أنَّ (مِن) هُنا تبعيضية، وإلَّا يكون بذلك أباح اجتناب البعض دون البعض، أو أثبت الرِّجْسِيَّة للبعض دون البعض، فمن ثَمَّ لا ينتقي على هواه ويقول ((مِن التَّبعيضية في نظري))؛ لأنَّ هذا يُحدِّده أهل اللُّغة والتَّفسير، وليس الذين لا يدرون الكوع من الكرسوع.
أمَّا ما ذكره ذلك البحيري عن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فهو كلام مُقتطعٌ من سِياقه، حيث قال الشيخ – رحمه الله -: «فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ الْكِتَابِ، بَلْ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَا كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا جَاءَ تَفَرَّقُوا. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ وَذِكْرِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَلَمْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ حَتَّى بُعِثَ. فَهَذَا مَعْنًى بَاطِلٌ فِي الْمُشْرِكِينَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا أَيْضًا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ فَقَالَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ}. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ وَيُقِرُّونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَهُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ لَمْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كُفَّارًا. بَلْ كَانَ الْإِيمَانُ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ تَفَرُّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ فَيَقُولُ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ: كَانَ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ»1. انتهى
وبهذا يتَّضح معنى كلام شيخ الإسلام – رحمه الله -، وأنَّه لم يتعرَّض للتَّبعيض بالمعنى الذي فهمه ذلك الدَّعِيّ، وأنَّ الشيخ كان يُبيِّن معنى الانفكاك في الآية كما في السِّباق واللِّحاق النَّصِّيِّ، وحتى إذا قُلنا أنَّ الشيخ يقول بأنَّ (مِن) تبعيضية، فقد وضَّح – رحمه الله – معنى التَّبعيض المُراد، وأنَّ المؤمنين منهم هُم الذين كانوا يعلمون بنبوته قبل أنْ يُبعث ويُؤمنون بذلك، وللمزيد أنظر النِّقاط التَّالية.
2- على افتراض أنَّ (مِن) تبعيضية، فهذا لا يُنافي القول بكُفر أهل الكتاب الذين لم يُؤمنوا بالإسلام بعد البعثة للتَّالي:
أ- ما سبق ذِكره من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله -: وأنَّ المؤمنين منهم هُم الذين كانوا يعلمون بنُبُوَّته قبل أنْ يُبعث ويُؤمنون بذلك، ويُؤيِّد ذلك قول الله – عزَّ وجلَّ -: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:82، 83، 84]
ب- أنَّ التَّبعيض يُمكن حمله على الذين آمنوا بسيدنا موسى – عليه السلام – وماتوا على ذلك في عصرهم، وبالحوارين أصحاب سيدنا عيسى عليه السلام -، وهذا واضحٌ، ولا داعي آنذاك أنْ نوقع التَّبعيض على أهل الكتاب المُعاصرين لنا. فقد قال الله – تعالى -: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
وقال – عزَّ وجلَّ – {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
وهذه الآيات تُوضِّح ما ذكرنا بغير ما إبهام، والله وليّ التَّوفيق.
ج- أنَّ الذين كفروا بمحمد ﷺ، بعضهم مِن أهل الكتاب وبعضهم من المُشركين، والباقون أسلموا وأطاعوا.
3- قول الله – عزَّ وجلَّ – {لَمْ يَكُن الَّذِينَ} إلى قوله {مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}؛ أغفلها ذلك البحيري ولم يذكرها؛ لأنَّ فيها إدانة له مِن وَجْهٍ، وحتى لو قُلنا بأنَّ (مِن) للتَّبعيض؛ لأنَّه عندئذٍ سيكون المعنى: لم يكن الذين كفروا من اليهود والنَّصارى والمشركين تاركين كفرهم حتى تأتيهم العلامة التي وُعِدوا بها في الكُتُب السَّابقة وهي رسول الله محمد ﷺ.
4- آخر السُّورة فيها تقسيم غاية في الوُضُوح والبيان حيث قال الله – عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6، 7]. فالذين كفروا مِن أهل الكتاب والمُشركين بالبيِّنة فهُم شرّ البرِيَّة ومأواهم النَّار، والذين آمنوا منهم بالبيِّنة فهُم خير البرِيَّة ومأواهم الجنَّة، بكل بساطة، فليست ميكانيكا ولا لوغاريتمات هي.
([1]) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت728هـ): مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن قاسم، مجمع الملك فهد بالمدينة ، ج16، صـ487 و 488.