من هم التنويريون؟!
ما أكثر ما سمعت من يسأل (من هم التنويريون؟) وما أكثر ما سمعت من يقول لي (هل هناك كتاب يحدد من هم التنويريون وأفكارهم حتى يمكن الإحالة إليه؟).
والحقيقة أن الجواب كان دوماً سلبياً، وأنني لا أعرف كتابا علميا درس موجة التنوير في السعودية، وحلّل أطروحاتها علمياً.
ونحن اليوم في معرض الكتاب 1434هـ بالرياض أمام أول كتاب بحسب اطلاعي قدم استعراضاً وتحليلاً وتقييماً علمياً لموجة التنوير في السعودية، وعرف بها، وأهم أفكارها ومقولاتها، والتطورات التي لحقت بها خلال الحقبة السابقة، وهو كتاب الأخ الشيخ عبد الوهاب آل غظيف بعنوان (التنوير الإسلامي في المشهد السعودي) الصادر عن مركز تأصيل، الطبعة الأولى، 1434هـ، ويقع في (150) صفحة
يُلقيك المؤلف منذ الحروف الأولى من مقدمة الكتاب في موجة من جدل تعريف وتطورات مفهوم (النهضة) والأخطاء التي وقعت في تصور معناه، منذ البدء يشعر القارئ أن مفهوم (النهضة) مفهوم مركزي في كتاب يتحدث عن التنوير! يبدو أن المؤلف يريد أن يقول لنا إن التنوير في السعودية هو أحد الإجابات الخاطئة على سؤال النهضة.
وتتسم معالجة المؤلف لحركة التنوير في السعودية بإضافة بعد جديد لم يُعرَض بحسب اطلاعي في الدراسات الفكرية السابقة عن هذا الموضوع، وهو حركة التنوير في إطار ظروف ثورات الربيع العربي، وعلاقة ضغوط وشروط الوصول للسلطة في شرعنة مفاهيم (الليبروإسلامية)، كما يقول المؤلف في مقدمة كتابه: “في ظل المتغيرات الأخيرة ومع أجواء الربيع العربي، وتسنم كثير من الحركات الإسلامية سدة القيادة السياسية، بعد أن كانت مستضعفة، كان من أكبر الأخطار التي تواجهها، أن تتنازل عن خطابها الإسلامي، فتصل لنتيجة لا تختلف كثيراً عما قصده التغريب الصريح، فتضيع سنوات الكفاح والصبر على الأذى في مواجهة العلمانية والمادية” (التنوير الإسلامي؛ [ص:8]).
ومن المعروف في أدبيات التاريخ الفكري المعاصر أن التنوير الإسلامي (الليبروإسلامية) هو تيار عربي له رموزه المشهورون في مصر والعالم العربي، ولكن المؤلف حدد النطاق الجغرافي لدراسته بالسعودية فقط حيث يقول: “وهذه الورقة وقفة مع هذا الخطاب الفكري في نسخته السعودية” (التنوير الإسلامي؛ [ص:9]).
ومن الملحوظ في مقالات المؤلف التي يحيل لها في هوامش الكتاب أنه معني برصد ودراسة هذه الحركة منذ سنوات، فله مقالات كثيرة جداً عنها، وقد أعلن المؤلف النتيجة التي توصل لها في دراسته لهذه الحركة حيث يرى المؤلف أن حركة التنوير في السعودية هي “حركة تلبس المفاهيم الغربية لبوس الإسلام” (التنوير الإسلامي؛ [ص:8])، وينقل المؤلف نصاً عن أحد رموز حركة التنوير يبرهن من خلاله هذه النتيجة التي توصل إليها، حيث يقول أحد رموز حركة التنوير في السعودية طبقاً لنقل المؤلف: “ما نحن بصدده من التجديد الديني هو في أغلبه تغيير قسري خارجي، نعطيه مصطلحات تراثية، وشعارات إسلامية، لمحتوى غربي، وهو مع ذلك أحسن من الجمود” (التنوير الإسلامي؛ [ص:8]).
وباستعراض سريع لبنية وهيكل هذا الكتاب يتبين فوراً أن المؤلف قسمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول درس فيه (المفاهيم العلمانية الغربية) التي أثّرت في تكوين وتشكيل الفكر التنويري السعودي.
والقسم الثاني درس فيه (موقف التيار التنويري من الأحكام الشرعية).
والقسم الثالث درس المؤلف فيه (حراك التيار التنويري في المناخ السياسي المحلي) وعلاقته بالسلطة والتيارات الإسلامية. وهو تقسيم منطقي متماسك ينطلق من بحث الأسس الفكرية الآمرة، ثم يبحث نتائج هذه الأسس الفكرية الأجنبية على الأحكام الشرعية، وينتهي بتحليل علاقة هذا الفكر بالواقع والقوى الفاعلة فيه.
ومن الإشكالات المطروحة في التأريخ الفكري السعودي التساؤل حول لقب(التنوير) هل هو لقب يتبناه أصحاب هذا التيار؟ أم هو لقب أطلقه الخصوم؟
ومال المؤلف في كتابه (التنوير الإسلامي في المشهد السعودي؛ [ص:15]) إلى اعتبار هذا اللقب (التنوير) لقب أطلقه أصحاب هذا التيار على أنفسهم في مرحلة زمنية ثم تركوه، ويرى المؤلف أنه لم يكن لقب أطلقه الخصوم، وذكر المؤلف شواهد من داخل هذا التيار على استعمالهم لهذا المصطلح، وتسميتهم أنفسهم به.
وفي سياق الهويات التي أطلقت على هذا التيار عقد المؤلف فصلاً ناقش فيه خمسة ألقاب (العصرانية، العقلانية، الليبروإسلاميون، الإصلاحيون، الخطاب النهضوي) وفي هذا الفصل ملاحظة طريفة عرضها المؤلف وهي أن بعض المراقبين نظر إلى هذا التيار باعتباره تخفيفاً للعلمانية باتجاه الإسلام فسماهم (العلمانيون الجدد) وبعض المراقبين نظر إلى هذا التيار باعتباره تغييراً للإسلام باتجاه العلمانية فسماهم (الإسلاميون الجدد) [ص:16].
وفي فقرة بديعة حاول المؤلف فيها توظيف تقنية (سيميولوجيا الصورة)، وفيها نموذج بديع لقراءة كيف تعمل الصورة على إنتاج الدلالة وفق سنن أيقوني مسبق (إمبرتو إيكو)، أو ما يسمى أحياناً (خطاب الصورة)، وهو حقل غني بالدراسات حالياً، وفيه تفاصيل ليس هذا موضعها، لكن المؤلف في كتابه هذا التقط صورة رمزية عرضتها أحد أشهر المجلات التنويرية وقام بتحليل دلالاتها، حيث يقول المؤلف: “نشر هذا الموقع التنويري مقالاً وكانت الصورة الرمزية التي صممها الموقع لهذا المقال عبارة عن ميزان في أحد كفتيه (الحرية) وفي الكفة الأخرى (الشريعة)، ويبدو في الصورة كفة الحرية ثقيلة راجحة بكفة الشريعة، فكانت معبرة بخلاصة عن الوعي التنويري حيال هذه القضية” (التنوير الإسلامي؛ [ص:25]).
وهذه زاوية جديدة ممتعة في القراءة والتحليل وهو استكشاف العلاقة بين الحرية والشريعة في الخطاب التنويري من خلال الصور الرمزية التي ينشرونها، خصوصاً بعد تنامي الاهتمام السيميولوجي المعاصر بأهمية الصورة ودورها في إنتاج الدلالة عبر الصورة التلفزيونية والصور الإعلانية وغيرها، وما تختزنه الصورة من طاقة إيحائية شديد النفوذ في تشكيل الانطباعات لدى المتلقي النهائي.
وفي عدة فصول من الكتاب يستعرض المؤلف نماذج من الأفكار التنويرية الحالية، ثم يفاجئ القارئ بنص للشيخ سفر الحوالي يعالج فيه الإشكالية بذاتها وبنفس محدداتها قبل ظهورها في السجال السعودي بعشرين سنة! ومن أكثر النقول الحوالية التي أدهشتني نص نقله المؤلف للشيخ الحوالي في تفكيك تسييس مفهوم التوحيد/الشرك، ومن المدهش أن هذا التسييس لمفهوم التوحيد/الشرك طرح لاحقاً بنفس أضلاعه في الخطاب التنويري السعودي (التنوير الإسلامي؛ [ص:27]).
وهذا يعكس أولاً ريادة الشيخ سفر الحوالي من جهة، واستيعاب المؤلف الجيد لتاريخ الخطاب الإسلامي المقاوم للتغريب من جهة أخرى.
ومن أهم سمات وخصائص هذا الكتاب من وجهة نظري كقارئ هو غزارة وكثرة الإشكاليات التي عالجها برغم وجازة حجمه، فالكتاب لا يتجاوز (150) صفحة، ومع ذلك استوعب أسئلة وإشكاليات كثيرة جداً، حتى أنني هممت أن أضع بجانبي جدولاً وأجرد (المقولات التنويرية) التي ناقشها الكتاب، وأظنها بحاجة لفهرس خاص، فليت أحد القرّاء يوفر مثل هذا الفهرس، أو يستدرك في طبعة قادمة.
ومن هذه (المقولات التنويرية) التي عالجها الكتاب، وقدم لها تحليلاً لمدى علميتها، وفصل موضع الصواب من موضع الخطأ فيها، على سبيل المثال لا الاستقراء:
الفكر لا يواجه إلا بالفكر، الحرية قبل تطبيق الشريعة، الاحتجاج بالخلاف الفقهي في مواجهة النص، الدين الذي يعارض الحرية لا خير فيه، حريتك تنتهي عند حرية الآخرين، أنت حر ما لم تضر، الحرية لا تقيد بالشريعة ولكن تقيد بالقانون، لا تحذر من الحرية في مجتمع يفقد الحرية، إذا منعت مخالفك عن ما ترى أنه باطل فسيمنعك عن ما تفعله ويرى هو أنك على باطل، التفريق المطلق بين النص وفهم النص، فهم السلف خاص بمرحلة تاريخية، الطعن في معاوية رضي الله عنه، الخ الخ وهذه نماذج فقط، وفي الكتاب الكثير الكثير من المناقشات العلمية لمقولات فكرية رائجة في المجال التداولي التنويري.
وعقد المؤلف فصلاً طويلاً لتحليل ومناقشة التصور التنويري السعودي لمفهوم الديمقراطية، ولا أظن أنه يوجد كتاب مطبوع اليوم فيه مثل هذه التفاصيل والمسائل والمحاججات في دقائق الخلاف (السلفي-التنويري) حول الديمقراطية.
وهل المشروع التنويري: مشروع فكري معني بتفكيك التراث السلفي أساساً؟ أم مشروع سياسي معني بمعارضة الاستبداد الحكومي أساساً؟ هذا إشكال طرحه المؤلف في كتابه، واستشهد المؤلف في الجواب على هذا الإشكال بنص لأحد رموز التنوير في السعودية يقول فيه هذا الرمز التنويري: “هذا التيار أجندته ليست سياسية، لكنها ثقافية في المقام الأول، تقوم على نقد التيار السلفي، وتفكيك بنيته التقليدية، فهو تيار فكري ثقافي، أكثر منه سياسي، لذلك فهو إلى الآن غير معني بشكل مباشر بالإصلاح السياسي، بقدر عنايته بالإصلاح الثقافي، لذا لا توجد له مشكلة مع السلطة السياسية”.
والحقيقة مع أن هذا التوصيف للتنوير من الداخل التنويري نفسه، إلا أن المؤلف لم يستغله ويستثمره لإدانة التنوير، بل قام المؤلف بعملية فكرية أدق، وأكثر تركيباً، ذلك أن المؤلف استعار نموذجاً فكرياً من فهمي جدعان وقام بتوظيفه في قراءة التنوير في السعودية، وهذا النموذج الذي نقله المؤلف عن فهمي جدعان كان جدعان يصف فيه علي عبد الرازق: “أنه يمارس فضيلة الشجاعة في المنطقة الأقل خطراً، فلم يجرؤ على مهاجمة رغبة (سلطان مصر) في التحلي بثوب الخلافة لحماية سلطانه بستار الدين، فلم يجد أمامه إلا أن يثير المعركة مع الأوساط الدينية، فبدلاً من أن يتصدى لخصمه الحقيقي ويقول له إن شروط الإمامة غير متوافرة فيه، تصدى لهذه الأوساط الدينية وزعم أن فكرة الإمامة باطلة أصلاً، فأصابت الرمية الإسلام نفسه، لا السلطان” (نفس المصدر؛ [ص:117]).
وبعد أن نقل المؤلف هذا النموذج الفكري الجدعاني في قراءة معركة عبد الرازق، قال المؤلف: “وما أصدق هذا التوصيف على كثير من التنويريين”.
كما من أخص خصائص الكتاب من وجهة نظري عناية المؤلف بدراسة الاتساق الداخلي للطرح التنويري، فيأتي المؤلف بمقولات للتنويريين في موقف، ويقارنها بمقولاتهم في موقف آخر، ويوضح ما يرى أنه تناقض، ومن أمثلة ذلك أن الطرح التنويري في المسائل الشرعية يحتج بالنسبية ويتقبل الخلاف، وفي مسائل الحداثة السياسية يبدي وثوقية ويقينية حاسمة ولا يقبل الخلاف فيها، ومن ذلك أن المؤلف ينقل عن التنويريين أنهم كانوا يقولون في تبرير الديمقراطية: “الشعوب لن تختار غير الشريعة”.
ولما وقعت ثورات الربيع العربي كتبوا يقولون “الشعوب لم تخرج لأجل تحكيم الشريعة”. ومثل هذا كثير جداً في الكتاب، بل برغم أن المؤلف كان مستحضراً إبراز هذه المفارقات على طول الكتاب، إلا أنه لم يكتفِ بذلك، بل عقد فقرة خاصة أيضاً في آخر الكتاب سماها (المعيار المزدوج) [ص:121] ساق في شواهد إضافية على مشكلة التناقض في الأفكار والمواقف، وهذا في الحقيقة يربك القارئ فعلاً حول حجم وكمية هذه التعارضات والارتطامات الداخلية في الفكر التنويري كما أبرزها المؤلف، وهي بحاجة فعلاً لرصد وجمع وتأمل ومحاولة تفسير لسبب هذا الإفراط في إنتاج التناقضات: هل هو بسبب إشكاليات في بنية الفكر نفسه؟ أم بسبب الارتباط الساخن بالأحداث في الفكر التنويري؟ أم بسبب عدم الاتفاق في أصول فكرية معينة؟ أم لأسباب أخرى؟.
وبرأيي أن معرض الكتاب الحالي بالرياض 1434هـ تضمن دراستين فكريتين في غاية الأهمية، يقدمان مادة علمية ونقدية ضرورية لكل من أراد فهم تيارات الساحة الفكرية السعودية، وهما: كتاب (الليبراليون الجدد) لأحمد القايدي، وكتاب (التنوير الإسلامي) لعبد الوهاب آل غظيف.
والمدهش أن كِلا المؤلفين ما زالا في العشرين من العمر! إلا أنهما فاجآ الساحة الفكرية المحلية بهذين الكتابين الممتعين وبزغ هذان الباحثان في هذا المعرض، فأسأل الله أن يثبتهما على طريق الحق والسنة، ويبارك في هذا اليقظة الإسلامية المباركة، بالمزيد من الباحثين المبدعين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه..
مراجعة لكتاب: التنوير الإسلامي في المشهد السعودي، عبد الوهاب آل غظيف، مركز تأصيل، الطبعة الأولى، 1434هـ