منهج الملحدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الكريم، وآله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين؛ أما بعد:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مُهلِكات: شحٌّ مُطاع، وهوًى مُتَّبَع، وإعجاب المرء بنفسه»؛ (الطبراني في المعجم الأوسط (5754)).
وبتتبُّع نهج الملحدين نجد أن ضلالهم نابع عن اتباع الهوى، فهم لا يأخذون من النصوص إلا ما وافق ما عندهم، ثم لا يبالون بعد ذلك بعلامات الضعف التي تطعن بصحة المروي؛ كالشذوذ والعلة، والاضطراب وعدالة الراوي، وأحيانًا يجتزئون مقطعًا من النص، فيفصلونه عن سياقه، ثم يؤوِّلوه على ما يوافق هَواهُمْ، وإن لم يجدوا خمَّنوا وافتروا، مستخدمين مغالطة “رجل القش” وغيرها من المغالطات المنطقية لإثبات دعاويهم الباطلة، وإليك نماذجَ من افتراءاتهم.
لا شكَّ أن أساس الدين وركنه الأول الشهادتان، وقد قُرِنا لتتم الدعوة والرسالة، ولئلا يكتفي المرء بواحدة منهما، فالذي يقر بوحدانية الله سبحانه وتعالى، ولا يؤمن برسالة رسوله هو “ربوبي”، ولا حظَّ له في الإسلام، إن لم يشهد الشهادة الثانية، فالإسلام طريق ومنهج، أنزله الله تعالى وبيَّنه رسوله الكريم، وهذه حقيقة مهمة، وقاعدة أساسية ينبني عليها ما بعدها، وقد أدرك الملاحدة هذه الحقيقة، فتدرجوا لهدم الدين وتشكيك العوام، باجترار تهمٍ باطلة على رسول الله الكريم، مستخدمين مغالطة “الشخصنة” لعلهم ينجحون فيما عجز عنه عبدالله بن أُبَيٍّ، كي يضلوا الناس عن الطريق، هذه التهم تطول شخصه الشريف بالتشكيك في سلامته العقلية، وهو أمر عجِز معاصروه من أسلافهم كـ”أبي جهل” والنضر بن الحارث عن إثباته، ولو وجدوا لذلك أضعف مستند، لاتخذوه دليلًا وبرهانًا، والقرآن الكريم حافل بالرد على هؤلاء، ويكفيك مطلع سورة القلم:
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 – 4]،
أو الطعن في شرفه وعدالته، مستخدمين عدة مغالطات منطقية كـ”الحكم المتسرع”، و”الاحتكام إلى الجهل”، وكلها تهم باطلة:
{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]،
وقد ردَّ العلماء على تلك التهم، وفنَّدوها بالدليل والبرهان.
وبعضها يطول المنهج والطريق؛ كادعاء التعسير والمشقة، وهو أمر نفاه القرآن الكريم؛
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال أيضًا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، ولكن مع هذا التيسير والرحمة لم تترك الشريعةُ المسلمَ سدًى – كما يريد الملاحدة – بل جاءت لتهذيب خُلُقِه وربطه بربِّه، فالإنسان خُلِقَ لغاية عظيمة، بيَّنها الله في كتابه؛
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57].
هذا المقصِد غاب عن أذهان الملحدين، فتخرَّصوا وانغمسوا في شهواتهم وأهوائهم الباطلة، فالملحد مادي بطبعه، ولا يؤمن إلا بما يحسه بأحد حواسه الخمسة.
أما عن مراجع الملحدين، فأهمها ما نُسب لمعروف الرصافي، وما كتبه المستشرقون كـ”باتريشيا كرون”، وكل الآراء الشاذة والأحاديث المنحولة، وهم بارعون في استخدام المغالطات المنطقية، والتلبيس على الناس؛ لذا جاء الأمر بالإعراض عنهم؛
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وفي الختام أوَدُّ أن أُرْشِدَ المسلم إلى أثرين عظيمين، رُوِيا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛
أولهما: “ما آمن بالله من سكن الشك قلبه”، ومعلوم أن الشك المراد هنا هو الذي لا يوصل صاحبه إلى يقين، أما استخدام الشك كمنهج علمي للبحث والاستدلال، ثم التوصل لنتائج يقينية فلا بأس به، ولا ينافي التسليم “أساس الإيمان”؛ فالله تعالى يقول: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94].
أما الأثر الثاني فقوله: “إن الحق لا يُعرَف بالرجال، اعرِفِ الحق تعرِف أهله”، وهذا أثر عظيم يبطل مغالطة “المنشأ”، ويوضح مسلك معرفة الحق وهو طلبه والبحث عنه، فلا تقصر – أخي المسلم – في طلب العلم؛ وتذكَّر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ»؛ (صحيح مسلم (6299)).