شبهات أخرىشبهات وردود

معجزة الإسراء والمعراج.. شبهات وردود (خطبة)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة الأحباب، يعيد شهر رجب إلى أسماعنا حادثة عظيمة من حوادث الإسلام العظام – وإن اختلف العلماء في ميعادها – وهي معجزة الإسراء والمعراج، هذه المعجزة التي أيد الله عز وجل به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فكانت دليلًا على صدق رسالته، وآية واضحة على نبوته.

أيها الإخوة الأحباب، تأتي معجزة الإسراء والمعراج ضمن هذه المعجزات التي أيد الله بها رسله وأنبياءه؛ فالله عز وجل يحكي عن إبراهيم؛ فيقول: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 68، 69]، فما كان للنار أن تترك جسد خليله عليه السلام، إلا لبيان معجزة هذا النبي، ولتكون آية على صدقه، ودعوة للإيمان بالله ونبيه.

ويحكي الله عز وجل عن نبيه موسى عليه السلام، فيقول: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، فما كان لعصًا أن تفلق البحر نصفين، لولا أن الله تبارك وتعالى أراد أن يظهر إحدى معجزاته على يد نبيه.

وهذا زكريا عليه السلام بلغ من الكبر عتيًّا، وكانت امرأته عاقرًا، لكن يظهر الله قدرته الفائقة، ومعجزته الباهرة؛ فيقول تبارك وتعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 38، 39].

وهذا عيسى عليه السلام يخرق الله بولادته من غير أبٍ سنة بشرية وقانونًا تعارف عليه الناس؛ لبيان نبوته وعبوديته لربه عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 20، 21].

تأتي معجزة الإسراء والمعراج في إطار معجزات الأنبياء؛ للتحدي، ولتقوية الحجة، ولرحمة الخلق، ولتأييد الرسل والأنبياء؛ قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].

أيها الإخوة الكرام، قد يقول قائل: الإنسان الآن يقطع المسافات في لمح البصر، ويستطيع أن يسافر من مكة إلى فلسطين في دقائق قليلة، فكيف تكون الإسراء والمعراج معجزة؟

ونرد عليه: لو كنت مكان أبي جهل وغيره من صناديد مكة لعرفت بأنها معجزة؛ فلم يكن الناس يعرفون – في هذا العصر – مركبة فضائية، ولا صاروخًا، ولا طائرة، بل إن الحاكم في مستدركه يروي ما حدث لبعض الناس، فقد ارتد بعضهم، وذهبوا إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال أبو بكر: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.

ونقول للقائل: إذا أنكرت معجزة الإسراء والمعراج، فهل تستطيع أن تنكر معجزة القرآن الكريم؟ فكلاهما من مصدر واحد، وكلاهما دليل على صدقه ونبوته صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24].

أيها الإخوة الكرام، إن معجزات الأنبياء كانت مثارًا لشبهات الملحدين، وتتلخص شبهتهم حولها بقولهم: إن المعجزات أمور خارقة للعادة، ونحن لا نؤمن إلا بقوانين العلم الحديث، فكل مسبب له سبب، وكل نتيجة لها مقدمات، تؤدي إليها حتمًا، والعقل الحديث بات مسلمًا بهذه القاعدة، فلا نعترف بمعجزة، ولا نقول بأنها آية أو علامة على صدق رسول، ودعوى نبي.

ونرد عليهم: هل تؤمنون بالله، أم لا؟

فإذا كنتم لا تؤمنون بالله، فدَعْكم من أمر المعجزات، وهيا بنا معًا نتعرف على دلائل وجوده، وأسس معرفته؛ فهي بينة ظاهرة واضحة.

أما إذا آمنتم بالله عز وجل، فهذه بعض الردود:

أولًا: فرق كبير بين الخالق والمخلوق، وبين أفعال الله وأفعال العبد، فالمعجزة هي فعل الله وتأييده لأنبيائه ورسله، فلا تقاس أفعال الله على أفعال البشر.

ثانيًا: هذه القوانين العلمية من الذي خلقها؟ من الذي يسر للإنسان فهمها، والعمل بمقتضاها؟ إن الإنسان تعود على رؤية هذه القوانين، فقال بارتباط المسبب بالسبب، ولو أذن الله عز وجل بأن يلد الجبل ولدًا، لكان الناس مرتبطين بهذه القوانين، وكرروا قولهم بوجود أسباب ومسببات.

ثالثًا: أن العقل من صنع الله، والله عز وجل جعل له حدودًا، فطريقه محدد، يضل إذا زاغ عنه، ويتيه إذا سلك غيره واتبع سواه؛ في الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند ضعيف، لكن معناه صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله؛ فإنكم لن تقدروا قدره)).

رابعًا: إن الله عز وجل قد يبرز ما لا يستطيع عقل الإنسان أن يعلم حكمة الله منه (الصغير الذي يعاني من آلام متواصلة، الظلم الكثير الذي يقع على عباده الصالحين، وجود الشرور في هذا العالم)، والعلة في ذلك: هو اختبار التسليم؛ [انظر: عبدالرحمن بن الجوزي، صيد الخاطر، تحقيق: محمد الغزالي، ط3، يناير 2009م، ص35، 56، 204، 215].

خامسًا: العلم الحديث – الذي اعتبره البعض إلهًا من دون الله – تتخلف قوانينه عن التحقق، ويعلن علماؤه عجزهم عن تفسير بعض ظواهره، فهذه مركبة الفضاء كولومبيا، تتوافر جميع أسباب نجاح التجربة، لكن تنفجر المركبة قبل هبوطها على الأرض، ويعجز العلماء عن معرفة السبب، وغفل هؤلاء أن السبب الرئيس هو توجيه النظر إلى قدرة الله، ولفت الانتباه إلى عظمة الله وقدرته، والإعلان إلى الاحتياج الدائم إليه تعالى؛ [انظر: طه جابر العلواني، معالم منهجية في التدبر والتدبير، ط1، القاهرة: دار السلام، 1431ه/ 2010م، ص196، 197].

سادسًا: المعجزات ليست كل تعاليم الأديان، لكن تعاليمه – في معظمها – دعوة إلى العمل والأخذ بالأسباب وبذل الجهد؛ لاكتشاف سنن الكون، واستشراف سننه وقوانينه؛ [انظر: محمد الغزالي، ركائز الإيمان بين العقل والقلب، ط3، القاهرة: دار الشروق، 1427ه/ 2006م، ص242].

هذه بعض الردود على منكري المعجزات، ومدعي عدم تحققها، واتهام أصحابها بالبعد عن الحق، وتعاليم العلم، الدافعة إلى التجربة والمشاهدة، الرافضة لكل تعليم إلهي، ومعلم رباني.

الخطبة الثانية

أيها الإخوة الأحباب، بعض الناس يدَّعون أنهم أصحاب كرامات، وتظهر على أيديهم خوارق للعادات، ويزعمون الولاية؛ رغبة في توافد الناس إليهم، وطلبًا لإشباع شهواتهم، وتلبية لرغباتهم.

أيها الإخوة، الله عز وجل حدد أوصاف الأولياء في قوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63].

وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته)).

فها هم أولياء الله، وتلك أوصافهم: يقول العلماء: “الأولياء يستترون من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض”؛ [انظر: السيد سابق، العقائد الإسلامية، القاهرة: الفتح للإعلام العربي، د. ت، ص215]، وقال الشافعي رضي الله عنه: “إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب”؛ [أبو العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية، ط1، القاهرة: دار السلام، 1426ه/ 2005م، ص508].

فلا مجال لادعاء الولاية بشيء ليس على حقيقته، ولا من طبيعة الصدق، ولا يتحلى به الصادقون.

الله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، اللهم ثبت قلوبنا على دينك، وارزقنا طاعتك يا أكرم الأكرمين.

المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى