معالم تربوية في وصايا لقمان
الحمد لله ذي النعم الضافية، والآلاء الباقية، عمّ علمه كل ناحية؛ فلا تخفى عليه خافية، واستوى عنده السر والعلانية. وأشهد ألا إله إلا الله شهادة موقن يرجو بها النجاة من الحامية، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ذا الخلق القويم والنفس الزاكية، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولي الألباب الثاقبة والهمم السامية.
أيها المؤمنون!
حكمة الوالد ورشاد رأيه منحة ربانية من جُلل السوابغ، ورحمة متجذرة العروق، وارفة الظل، يانعة الثمر، ينعم أهل البيت بحسن منظرها وصفاء مخبرها وطيب غلتها، ويأرزون إليها في استلهام الرشد وسداد النظر وحسن التوجيه والتعامل الأمثل مع ظروف الحياة ومصاعبها. وبات من نفيس القول ورائق عاقبته ما فاهت به أفواه أولئك الحكماء من وصايا الأولاد؛ إذ قد اجتمع فيها كمال المحبة والنصح والعلم؛ فمن القلب منبعها، وعلى الصدق والقناعة والمعرفة والتجربة مبناها. وأحسن تلك الوصايا ما أودعه الله كتابه المسطور، ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ ﴾ [يوسف: 3]. وذلكم – يا رعاكم الله – نبأ وصية لقمان الحكيم لابنه التي نعتها العلماء بأنها بالغة النفع جداً. وصية أخذت بمجامع القلوب في جمال أسلوبها وقوة مضمونها؛ لتستبين من خلالها رؤية المربي الراشد في أولاده حين يُعدِّهم صالحين في أنفسهم مصلحين في مجتمعهم، وتلك غاية كل أب طموح يرجو ثواب ربه ويخشى عقابه.
أيها المسلمون!
إن جمال أسلوب الخطاب التربوي مما يحمل على قبوله، وذاك ما سلكه لقمان في وصيته لابنه. ومن معالم هذا الأسلوب حسن مصاحبة الأب ولدَه؛ أخذاً من دلالة حال الموعظة وتعدد الوصايا والاحترام الذي يعامل به الوالدُ ولدَه حين خاطبه – بتكرار – بلغة راقية تجمع بين الحنان والتلطف وعلاقة البنوة الخاصة: ﴿ يا بُنيّ ﴾. وهذا خطاب الأنبياء لأبنائهم في القرآن وإن كانوا مخطئين، بل كفرة!. والإقناع سمة مطردة في وصايا لقمان؛ فلا تجد فيها أمراً ولا نهياً إلا وهو مقرون بأداة إقناع متنوعة، كذكر السبب أو تصويره بصورة حسية أو ضرب المثال والتشبيه: ﴿ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13] ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14] ﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19]. ومن بديع سبك تلك الوصايا حسن عرضها بصورة الموعظة المتدرَّجِ فيها بتقديم الأهم فالذي يليه؛ إذ قُدِّم حق الله المقرون بحق الوالدين ثم حق النفس ثم حق الغير. إن حسن المصاحبة والإقناعِ وبراعةَ التوجيه من أخص صفات نجاح المربي وأسرارِ قبول الولد نصيحتَه.
معشر المؤمنين!
إن تلك الوصايا قد جمعت أمهات الحِكم التي يتفرع منها غيرها. ومضمون تلك الوصايا راجع إلى إدراك وتحقيق غاية العبودية التي لأجلها خلق الله الثقلين، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. وذلك بإعداد الفرد المؤمن المبارك الذي يسعى في تزكية نفسه ونجاة غيره؛ ومن هنا عَظُمَ أثرها على الفرد والمجتمع، وبات تعاهد المربي لها من أهم ما يجب رعايته في تربيته ولده.
أيها المؤمنون!
إن أصول تزكية النفس مما حوته تلك الوصية دائرة بين صحة المعتقد ومراقبة الله وبر الوالدين وإقام الصلاة وحسن الخلق القائم على الصبر والتواضع والاعتدال في الفعل والقول. أما صحة المعتقد فهو ملاك الأمر الذي به فلاح الدنيا والآخرة حين يفرد الخالق بالتوحيد؛ فلا يعبد غيره، ولا يُشرَك معه؛ ولذا صدِّرت الوصية به: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13] ﴿ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]. التوحيد تخليص من رق عبودية العباد لعز عبودية رب العباد، وهو أكبر سبب لانشراح النفس وسعادتها واطمئنانها، كما أنه أعظم مخلِّص من وضر الأوهام والمخاوف. ومن شأن ذلك أن تصفو الحياة به، وتفسدَ إن خلا منها. ثم تأتي الوصية بالوالدين بعد الوصية بالتوحيد: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾ [العنكبوت: 8]، وصيةً وعهداً يُسأل عن القيام بها، وهل حفظها أو لا؟ وصيةً لا تبرؤ عهدتها إلا بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما وإجلالهما، والقيام بمئونتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه، بالقول والفعل. والسبب الذي أوجب البرَّ حسنُ الوفاء ومقابلةُ الإحسان بالإحسان. وأيّ إحسان يكافئ إحسان الوالدين؟! يقول رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ“ رواه مسلم. ويبقى ذلك الواجب متحتماً وإن كان الوالدان كافرين ملحَّين على ولديهما بالكفر: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]. وإتْباعاً لقضية التوحيد الكبرى وتأكيداً عليها وتطبيقاً لها في الحياة نجد الوصيةَ بمراقبة الله عبر تصوير لقمان الحسي لعلم الله وقدرته الذي أحاط بكل شيء علماً؛ لعلمه أن تلك المراقبة هي أعظم حافز لفعل الطاعات وأمنع حاجز عن مقارفة المآثم والإصرار عليها على مدى الزمان واختلاف المكان والحال ودنوِّ الحرام وبعده وتيسره وتعسره: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16]. إحاطةٌ بأصغر شيء في الوجود ﴿ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ﴾ [الأنبياء: 47] في جوف مصمت ﴿ فِي صَخْرَةٍ ﴾ [لقمان: 16] أو مساحة شاسعة ﴿ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [لقمان: 16] ومع ذلك ﴿ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ﴾ [لقمان: 16]؛ فلا تخفى عليه، ولا تعجزه. وتأتي بعد ذلك الوصية بالصلاة: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17]؛ إذ هي رباط ما بين العبد وربه، والعلامة الفارقة بين الإيمان والكفر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ“ رواه مسلم، والناهية عن السوء: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]. ولم تكن وصية لقمان بها إلا بلفظ الإقامة: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [الإسراء: 78]؛ إذ لا يظهر أثر الصلاة إلا بالإقامة الجامعة بين خشوع القلب والجوارح، لا الأداءِ الذي لا يتعدى حركات البدن الظاهرة.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فاعلموا أن…
أيها الإخوة في الله!
وفي سياق وصايا لقمان نجد التربية على نفع الآخرين وترك الأثرة؛ فليس من خلق المؤمن الانكفاءُ على ما حازه من فضل وتركُ الآخرين في غيهم سادرين، بل لا بد من أمرهم بالخير ونهيهم عن ضده: ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [لقمان: 17]. وذاك طريق غاصٌّ بالأذى والمكاره؛ لتعارضه مع رغبات الناس وشهواتهم؛ ولذا لابد من توطين النفس بحَسَنِ الأخلاق الذي تجمل به ويكون صفة راسخة فيها، خاصة في موطن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلعمر الله! إن تلك الأخلاق من أعظم ما يحمل على قبول الدعوة والتوجيه. وفسادُ من لم يتحلَّ بها أكثر من صلاحه. والمتأمل لتلك الأخلاق في وصية لقمان يجد أن أصولها التي تنبع منها أكثر الصفات الحميدة إنما هي الصبرُ والتواضعُ واعتدالُ الأفعال والأقوال. وقُدِّم الصبر؛ لاقتران الإيمان به، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ؛ مَنْ لَا صَبْرَ لَهُ لَا إِيمَانَ لَهُ” رواه اللالكائي، ومن صخر الصبر تتفجر الخيرات: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “وجدنا خير عيشنا بالصبر”. والصبر على الدعوة وتحمّل الأذى فيها من المشاق التي تحتمل بالعزيمة الصادقة: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
عباد الله!
والتواضع خلق يستجلب به العبد محبة المولى. والناس مجبولة على محبة صاحبه، فالتواضع نعمة لا يُحسد عليها. وتأملوا كيف رغّب لقمان ابنه في التحلي بهذه السجية: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، نهاه عن الكبر والعجب بملمحين يُفهَم بها ما عداها من صور الكبر والعجب، فمجرد إمالة الوجه وعبوسه تكبراً والمشي على الأرض إعجاباً وبطراً كفيل بحصول المقت من الله؛ إذ بهذين التصرفين استُحِقَ وصفُ المختال الذي تكبّر بفعله والفخور الذي تكبر بقوله. وختم لقمان وصيته بإغراء ابنه على لزوم الاعتدال في الأفعال والأقوال فيما يكثر وقوعه ويعظم أثره على المرء، وذلك بلزوم أمرين: السكينة حال المشي: لا عجلةً ولا تماوتاً. مِشيةٌ تدل على الوقار والعقل والهدف المحدد، ولا تحمل على أذى أو تضييع لمقصود. والأمر الآخر: القصد في القول: ففي الغض من الصوت أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب، أو شاك في قيمة قوله أو قيمة شخصه يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والصراخ. وتأملوا في تنفير لقمان ابنه من رفع الصوت حين عقّب نهيه عن ذلك بأن ذلك من صنع الحمير؛ فلا تليق مضارعتها في ذلك الصنيع.
وبعد – معشر المربين – دونكم وصايا لقمان العشر: التوحيد، بر الوالدين، مراقبة الله، إقام الصلاة، الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، الصبر على المصائب، عدم التكبر والعجب، السكينة في المشي، غض الصوت. تعاهدوها في أنفسكم؛ لتكونوا قدوة لأولادكم، ثم تعاهدوها فيهم تظفروا بتربية راشدة تقرُّ بها العين وتَبرؤ بها الذمم وتُبنى بها الأمم وتقود لما وراءها من خصال الخير.
اللهم…