ما جاء في “الأحاديث النبوية” عن “منكري السنة”
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي أناس يُنكرون سُنَّته وهديه وسبيله، ويدعون في الوقت ذات اتباعهم لكتاب الله تعالى! ومن الأحاديث التي حذرت من هؤلاء الأدعياء:
1- ما جاء عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ1، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ! فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ! وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ!) الحديث2.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي أقوام يُنكرون السنة النبوية ويزعمون أنهم يتَّبعون القرآن دون السنة! والاتكاء على الأريكة – في الحديث – يعني: أنَّ هؤلاء المنكرين للسُّنة من سيماهم التَّرف وحب الشهوات، وعدم المبالات بأحكام الشريعة والعلم الشرعي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أي: أنه صلى الله عليه وسلم (أوتي الكتابَ وحياً يُتلى، وأوتي من البيان، أي: أُذِن له أن يُبَيِّن ما في الكتاب ويعمَّ ويخصَّ، وأن يزيد عليه فيُشَرِّع ما ليس له في الكتاب ذِكر، فيكون ذلك في وجوب الحُكم ولزوم العمل به، كالظاهر المتلو من القرآن)3.
ويدلُّ عليه: قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]، حيث نفى الله تعالى عن نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم اتِّباعَ الهوى، وأتْبَعَ ذلك ببيان أنَّ كلَّ ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وكلَّ ما بلَّغه من أحكامٍ إنما بوحي من الله تعالى، ولَمَّا كان القرآن العظيم قد خلا من أحكامٍ بعينِها وأشارت إليها السُّنة وجاءت بها صريحة، وكذا أبانت السُّنة عمَّا في القرآن من إجمالٍ وتفصيل، وشرحت مقاصِدَه، وفصَّلت أحكامَه، دَلَّ ذلك بمنطوق القرآن أنَّ هذا كلَّه بوحيٍ من الله تعالى إلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، وليس بهوىً أو اجتهادٍ؛ لذا وجب على المؤمنين اتِّباعه فيه، بتنفيذ أوامره، والانتهاء عن نواهيه.
2- وفي رواية: (وَإِنَّ ما حَرَّمَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كما حَرَّمَ اللهُ)4. وجه الدلالة: أنَّ ما حرَّم رسولُ الله في السُّنة هو في التشريع كما حرَّم الله تعالى في القرآن؛ لأنهما وحي من الله تعالى، كما دلَّت الآيةُ الكريمة. ذكر ابن عبد البر رحمه الله أحكاماً فقهية استقلَّت بها السنَّة النبوية، ثم قال: (وقد أمر الله عز وجل بطاعته واتِّباعه أمراً مُطلقاً مُجملاً، لم يُقيَّد بشيء، ولم يقل: ما وافق كتابَ الله، كما قال بعض أهل الزيغ)5.
3- ما جاء عن أبي رافِعٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ!)6. قال الخطابي رحمه الله – شرح هذا الحديث: (يُحذِّرُ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُخالفة السُّنن التي سَنَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِمَّا ليس له في القرآن ذِكْرٌ على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تعلَّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السُّنن التي قد ضُِمَنْت بيانَ الكتاب؛ فتحيَّروا وضَلُّوا)7.
فهؤلاء المنكرون للسنة الذين سمُّوا أنفسهم – زوراً وبهتناً – بالقرآنيين؛ أشبهوا بفعلهم هذا الخوارج والروافض الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن وتركوا السُّنن التي فيها بيان القرآن؛ كما قال سبحانه – مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].
وهذان الحديثان الشريفان عَلَمٌ من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم؛ ولذا أورد البيهقي رحمه الله هذين الحديثين في كتابه “دلائل النبوة” تحت عنوان: (باب: ما جاء في إخبارِهِ بِشَبعانَ على أريكته يحتال في رَدِّ سُنَّته بالحوالة على ما في القرآن من الحلال والحرام دون السُّنة، فكان كما أخبر، وبه ابتدع مَن ابتدع، وظَهَرَ الضَّرَرُ)8.
قال صاحب “عون المعبود” – في شرحه للحديث: (ولقد ظهرت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم ووقع بما أخبر به؛ فإنَّ رجلاً خرج من “البنجاب” من إقليم “الهند” وانتسب نفسه “بأهل القرآن” وشتَّان بينه وبين “أهلِ القرآن” بل هو من “أهل الإلحاد” والمُرتدِّين، وكان قبل ذلك من الصالحين، فأضَلَّه الشيطانُ وأغواه وأبعده عن الصراط المستقيم، فتَفَوَّه بما لا يتكلَّم به أهل الإسلام، فأطال لِسانَه في إهانة النبي صلى الله عليه وسلم، ورَدَّ الأحاديثَ الصحيحة بأسرها، وقال: هذه كلُّها مكذوبة، ومفترياتٌ على الله تعالى، وإنَّما يجب العملُ على القرآن العظيم فقط، دون أحاديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإنْ كانت صحيحةً متواترةً، ومَنْ عَمِلَ على غير القرآن؛ فهو داخل تحت قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، وغير ذلك من أقواله الكُفرية، وتَبِعَه على ذلك كثير من الجُهَّال وجعله إماماً وقد أفتى علماءُ العصر: بكفره وإلحاده، وخروجه عن دائرة الإسلام، والأمر كما قالوا)9.
4- الاقتصار على القرآن وحده من صفات المنافقين الخارجين عن السُّنة، فهم قوم لا خلاق لهم إذ ادَّعوا أنَّ في الكتاب بيانَ كلِّ شيء، فطرحوا أحكامَ السنة وهجروها، فأدى بهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله10، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منهم؛ كما جاء في حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه؛ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَيْنِ: الْقُرْآنَ وَاللَّبَنَ، أَمَّا اللَّبَنُ فَيَبْتَغُونَ الرِّيفَ، وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ فَيُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِين)11.
وسبب إنكارهم للسُّنة: أنهم تأوَّلوا القرآنَ على غير ما أُنزل؛ كما جاء أيضاً عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ قال: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ رضي الله عنه يقول: (هَلاَكُ أُمَّتِي في الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ). قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ! ما الْكِتَابُ وَاللَّبَنُ؟ قال:(يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ فَيَتَأَوَّلُونَهُ على غَيْرِ ما أنْزَلَهُ اللهُ، وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ فَيَدَعُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعَ وَيَبْدُونَ)12.
وأمثال هؤلاء يُردُّ عليهم بالسُّنن؛ كما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (سَيَأْتِي نَاسٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ؛ فإنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ)13.
وهذه الأحاديث من أعلامِ النبوة، وإخبارِه صلى الله عليه وسلم عمَّا سيقع في مُستقبل الأيام وحاضرِها، وقد صَدَّق الواقعُ المقال، فسمعنا دعوات باطلة إلى الاقتصار على القرآن وحده دون السُّنة، مُبرِّرين دعوتَهم الباطلة هذه بأدلة وحُجَجٍ باطلة، ومنها: حُبُّهم القرآن وحِفظُهم له، وأنَّ الله تكفَّل بحفظه دون السُّنة، فهو إذن النَّص الوحيد الثابت الذي لم يتبدَّل ولم يتغيَّر، وهذه كلُّها أدلةٌ واهية وحُجَجٌ باطلة، وإنما أردنا التَّنبيه على أنَّ هذه الأحاديث تُثبت بما لا يدع مجالاً للشَّك صِدْقَ ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن وقوعه في المستقبل، وبهذه الأحاديث يزداد المؤمنون ثباتاً على إيمانهم؛ إذْ أنهم قد تهيَّؤوا إلى سماعها حتى قبل أن ينطق بها أصحابها، بل قد استعدُّوا لمواجهتهم وتفنيد حُجَجِهم قبل أنْ يُعلنوا بها، وكلُّ هذا من تمكينِ الله تعالى لدينه وحِفظِه له.
5- ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلاَّ مَنْ أَبَى) قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قال: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)14. وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم الموجبة لدخول الجنة هي في التصديق بسنَّته، والعمل بها كالقرآن.
والتَّصديق بالسُّنة، إنما هو ركنٌ أصيل من أركان الدِّين، فليست المسألة مسألة أحكام وتشريعات، أو أوامر ونواهي، وإنما القضية أخطر من ذلك بكثير، إذْ هي قضية عقيدة في المقام الأول، إذْ أنَّ تصديق السُّنة إنما هو تَبَعٌ لتصديقِ النبي صلى الله عليه وسلم، وتصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم من ضرورات ومقتضيات الإيمان، إذْ كيف يؤمن بالقرآن العزيز وبالرسالة الخاتمة مَنْ شكَّ فيما يقوله النبيُّ الأمين صلى الله عليه وسلم؟!
ولعلَّ هذا المعنى هو ما فَطِنَ إليه صدِّيق الأُمَّة أبو بكرٍ رضي الله عنه في حادثة الإسراء والمعراج، حيث هُرِعَ إليه القوم يَقُصُّون عليه خَبَرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ظانِّين أنه سيشكُّ فيما يقول، مُحاولين بذلك زعزعةَ إيمانِ أبي بكرٍ رضي الله عنه، والتفريقَ بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يضرب مثلاً رائعاً في المتابعة والإيمان قائلاً: “إنْ كان قاله فقد صَدَقَ، وإنَّا لَنُصَدِّقُه فيما هو أبعد من هذا؛ لَنُصَدِّقُه على خَبَرِ السَّماء”15.
قال ابن القيم رحمه الله – مبيِّناً حال السُّنة مع القرآن، وأنها لا تُعارضه: (فما كان منها زَائِدًا على الْقُرْآنِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ من النبي صلى الله عليه وسلم تَجِبُ طَاعَتُهُ فيه، وَلاَ تَحِلُّ مَعْصِيَتُهُ.
وَلَيْسَ هذا تَقْدِيمًا لها على كِتَابِ اللَّهِ؛ بَلْ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَلَوْ كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُطَاعُ في هذا الْقِسْمِ لم يَكُنْ لِطَاعَتِهِ مَعْنًى، وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ، وَإِنَّهُ إذَا لم تَجِبْ طَاعَتُهُ إلاَّ فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ لاَ فِيمَا زَادَ عليه لم يَكُنْ له طَاعَةٌ خَاصَّةٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وقد قال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80].
وَكَيْفَ يُمْكِنُ لأحدٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ أَلاَّ يَقْبَلَ حَدِيثًا زَائِدًا على كِتَابِ اللَّهِ، فَلاَ يُقْبَلُ حَدِيثُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ على عَمَّتِهَا، ولاَ على خَالَتِهَا، وَلاَ حَدِيثُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ لِكُلِّ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ)16.
الأدلة على استقلال السُّنة بتشريع الأحكام:
من أهم الأدلة على استقلال السنة المطهرة بتشريع الأحكام ما يلي:
- عموم عصمته صلى الله عليه وسلم عن الزيغ والخطأ في التبليغ لكلِّ ما جاء به عن ربه، بأيِّ طريق من طرق الوحي، ومنه السنة التي جاءت مثبِتة ومُنشِئة لأحكامٍ سكت عنها القرآن17.
- عموم الآيات القرآنية الدالة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما يأمر وينهى، التي لم تُفرِّق بين السُّنة المُؤكِّدة أو المُبيِّنة أو المُستقِلَّة، وهي آيات كثيرة تفيد القطع بعمومها للأنواع الثلاثة، وعدم إخراج السُّنة المُستقِلَّة منها.
- عموم الأحاديث الدالة على حُجيَّة السنة، ولم تُقيِّدها بنوعٍ مُعيَّن. ومنها أحاديث تدل صراحةً على أنَّ في السنة ما ليس في الكتاب، يجب الأخذ بها كما يؤخذ بما في الكتاب18.
- قال ابن القيم رحمه الله: (أَحْكَامُ السُّنَّةِ التي لَيْسَتْ في الْقُرْآنِ إنْ لم تَكُنْ أَكْثَرَ منها، لم تَنْقُصْ عنها، فَلَوْ سَاغَ لنا رَدُّ كلِّ سُنَّةٍ زَائِدَةٍ كانت على نَصِّ الْقُرْآنِ لَبَطَلَتْ سُنَنُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهَا إلاَّ سُنَّةً دَلَّ عليها الْقُرْآنُ، وَهَذَا هو الذي أَخْبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، ولابد من وُقُوعِ خَبَرِهِ)19.
- إذاً؛ فمثل هذه الأحاديث تدل بوضوح على أنه يوجد في السُّنة أحكام ليست موجودة في القرآن، (وهو نحو قول مَنْ قال من العلماء: ترك الكتابُ موضِعاً للسُّنة، وتركت السنةُ موضِعاً للقرآن)20.
- دلَّ الاستقراء على أنَّ في السُّنة أشياءَ لا تُحصى كثرة لم يُنَصَّ عليها في القرآن؛ كتحريم نكاح المرأة على عمَّتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكلِّ ذي ناب من السِّباع21، ومن ذلك ما جاء عن أبي جُحَيْفَةَ22رضي الله عنه قال: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلاَّ ما في كِتَابِ اللَّهِ؟ قال: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، ما أَعْلَمُهُ إلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلاً في الْقُرْآنِ، وما في هذه الصَّحِيفَةِ. قلتُ: وما في الصَّحِيفَةِ؟ قال: (الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ)23.
- السُّنة واجبة الاتِّباع ولو كانت زائدةً على ما في القرآن؛ لأنها وحي من عند الله، فلا تُعارِض القرآن، وذَكَرَ ابنُ القيم رحمه الله أن السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: (أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً له من كلِّ وَجْهٍ، فَيَكُونُ تَوَارُدُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ على الْحُكْمِ الْوَاحِدِ من بَابِ تَوَارُدِ الأَدِلَّةِ وَتَظَافُرِهَا.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ، وَتَفْسِيرًا له. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِحُكْمٍ سَكَتَ الْقُرْآنُ عن إيجَابِهِ، أو مُحَرِّمَةً لِمَا سَكَتَ عن تَحْرِيمِهِ… فما كان منها زَائِدًا على الْقُرْآنِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم تَجِبُ طَاعَتُهُ فيه، ولاَ تَحِلُّ مَعْصِيَتُهُ، وَلَيْسَ هذا تَقْدِيمًا لها على كِتَابِ اللَّهِ، بَلْ امْتِثَالاً لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ من طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَلَوْ كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُطَاعُ في هذا الْقِسْمِ لم يَكُنْ لِطَاعَتِهِ مَعْنًى، وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ، وَإِنَّهُ إذَا لم تَجِبْ طَاعَتُهُ إلاَّ فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ لاَ فِيمَا زَادَ عليه، لم يَكُنْ له طَاعَةٌ خَاصَّةٌ تَخْتَصُّ بِهِ)24.
نماذج من استقلال السُّنة بتشريع الأحكام:
من أهم النماذج الدالة على استقلال السنة المطهرة بتشريع الأحكام ما يلي:
- استقلَّت السُّنة بتحريم جميع القرابات من الرَّضاعة، باستثناء ما جاء في قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ ﴾ [النساء: ٢٣]؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ)25.
- الحُكم بشهادة رجلين أو شهادة رجل وامرأتين نَصَّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: ٢٨٢]. وجاء في السُّنة المُستقلِّة الحُكم بالشاهد واليمين؛ كما جاء عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ)26.
- تحريم استعمال أواني الذهب والفضة على الرجال والنساء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَشْرَبُوا في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ولا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ؛ فَإِنَّهَا لهم في الدُّنْيَا وَلَكُمْ في الآخِرَةِ)27. وقوله: (مَنْ شَرِبَ في إِنَاءٍ من ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ؛ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نَارًا من جَهَنَّمَ)28.
- تحريم لُبس الحرير والذَّهب على الرِّجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ عز وجلَّ أَحَلَّ لإِنَاثِ أُمَّتِي الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ، وَحَرَّمَهُ على ذُكُورِهَا)29.
- تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها، والمرأة وخالتها؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُجْمَعُ بين الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا)30.
- تحريم الحُمُر الأهلية؛ لما جاء عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنهما قال: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ)31.
- تحريم كلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ لما جاء عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ)32.
- سقوط الصلاة عن الحائض والنفساء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَلَيْسَ إذا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ ولم تَصُمْ)33. والحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كَانَ يُصِيبُنَا ذلك فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ)34.
- النهي عن قتل مسلم بكافر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ)35.
- حَدُّ شارب الخمر؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ؛ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ في الرَّابِعَةِ؛ فَاقْتُلُوهُ)36.
- حد الرجم؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قد جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ)37.
- حد الرِّدَّة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنِّي رسولُ اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)38.
- النهي عن زواج المُتعة؛ لما جاء عن عليٍّ رضي الله عنه؛ (أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يوم خَيْبَرَ)39. وهناك الكثير ممَّا استقلت به السنة المطهرة، ممَّا يضيق عنه المقام؛ إذ المقام ليس مقام بسطٍ وإسهاب، وإنما شرحٌ باقتضاب.
- ولمَّا ظهرت بوادر هذا الانحراف في عصر الصحابةرضي الله عنهم فكان موقفهم حازماً زاجراً؛ فقد جاء رجل إلى عِمران بن حُصين رضي الله عنه فسأله عن شيء، فحدَّثه، فقال الرجل: حدِّثوا عن كتاب الله، ولا تُحدِّثوا عن غيره! فقال عمران رضي الله عنه: (إنك امرؤٌ أحمق، أتَجِدُ في كتاب الله تعالى صلاة الظهر أربعاً لا يُجهر فيها؟ ثم عدَّد عليه الصلاةَ والزكاةَ ونحو هذا، ثم قال: أتجدُ هذا في كتاب الله مُفسَّراً؟! إنَّ كتابَ الله قد أبهمَ هذا، وإنَّ السُّنة تُفَسِّر ذلك)40.
الخلاصة:
نخلص ممَّا سبق ذِكره من أدلةٍ وأمثلةٍ على استقلال السُّنة بالتشريع للأحكام ابتداءً دون سابق ذِكرٍ لها في القرآن إلى ما يلي:
- التكاملِ التامِّ بين مصدَري التشريع الإسلامي؛ القرآن والسُّنة، فالسُّنة متكاملةٌ مع القرآن دون أنْ يكون في القرآن إفراط أو تفريط؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، فهي شارحةٌ لأحكامه، مُفصِّلةٌ لِمُجملِه، مُقيَّدةٌ لِمُطلقِه، مُخصِّصةٌ لِعامِّه، ناسخةٌ لبعض أحكامه، ثم هي مُستقِلَّةٌ بتشريعاتٍ لم يرد لها ذِكرٌ في القرآن.
- وَحدةِ المصدرِ لكلٍّ من القرآن والسُّنة؛ فهما من عند الله تعالى بوحيٍ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ممَّا أدَّى إلى عدم وجود تعارضٍ بينهما، وأنَّ أيَّ تعارضٍ قد يحاول المُشكِّكون والمُغرِضون إثارتَه إنما هو من قَبيلِ التعارض اللفظي المردود على صاحبه.
- كمالِ العنايةِ الإلهيةِ بسيِّدِ البشرية صلى الله عليه وسلم بأنْ نَسَبَتْ له سُنَّةً وتشريعاً مُسْتقِلاً في الظاهر؛ لِيزدادَ تشريفاً وتكريماً صلى الله عليه وسلم.
- (وَمِثْلَهُ مَعَهُ): أراد بذلك السُّنة التي أُوتي. انظر: (صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 358). ↩︎
- رواه أحمد في (المسند)، (4/ 130)، (ح 17213)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4604). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 117)، (ح 4604). ↩︎
- معالم السنن، (4/ 298). ↩︎
- رواه الترمذي، (5/ 38)، (ح 2664)؛ والحاكم، في (المستدرك)، (1/ 191)، (ح 371). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (3/ 64)، (ح 2664). ↩︎
- جامع بيان العلم وفضله، (2/ 366). ↩︎
- رواه الشافعي في مسنده، (ص 233)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4605)؛ والترمذي، (5/ 37)، (ح 2663) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 118)، (ح 4605). ↩︎
- معالم السنن، (4/ 298). ↩︎
- دلائل النبوة، (8/ 26). ↩︎
- عون المعبود شرح سنن أبي داود، (12/ 233). ↩︎
- انظر: الموافقات: (4/ 17). ↩︎
- رواه أحمد في (المسند)، (4/ 155)، (ح 17457)؛ والطبراني في (الكبير)، (17/ 296)، (817). وحسنه محققو المسند، (28/ 636)، (ح 17421). ↩︎
- رواه أحمد في (المسند)، (4/ 155)، (ح 17451)؛ وأبو يعلى في (مسنده)، (3/ 285)، (ح 1746)؛ والبيهقي في (شعب الإيمان)، (3/ 104)، (ح 3009). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (6/ 647)، (ح 2778). ↩︎
- رواه الدارمي في (سننه)، (1/ 62)، (رقم 119). ↩︎
- رواه البخاري، (6/ 2655)، (ح 6851). ↩︎
- انظر: تفسير مقاتل بن سليمان، (2/ 247)؛ تفسير الطبري، (15/ 112). ↩︎
- إعلام الموقعين، (2/ 307، 308). ↩︎
- انظر: منزلة السنة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية، (ص 484). ↩︎
- انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 381). ↩︎
- إعلام الموقعين، (2/ 309). ↩︎
- الموافقات، (4/ 17). ↩︎
- المصدر نفسه، (4/ 16). ↩︎
- أبو جُحَيْفَةَ: صحابي معروف مشهور بكنيته، روى عنه أصحاب الكتب الستة، صَحِبَ علياً رضي الله عنه، وتُوفي سنة (74 هـ). انظر: تقريب التهذيب، (2/ 338). ↩︎
- رواه البخاري، (3/ 1110)، (ح 2882). ↩︎
- إعلام الموقعين، (2/ 307-308). وانظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، (1/ 107). ↩︎
- رواه البخاري، (2/ 935)، (ح 2502)؛ ومسلم، (2/ 1071)، (ح 1447). ↩︎
- رواه مسلم، (3/ 1337)، (1712). ↩︎
- رواه البخاري، (5/ 2133)، (ح 5310)؛ ومسلم، (3/ 1637)، (ح 2067). ↩︎
- رواه مسلم، (3/ 1635)، (ح 2056). ↩︎
- رواه النسائي، (8/ 190)، (ح 5265)؛ والبزار في (مسنده)، (8/ 80)، (ح 3078). وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي)، (3/ 400)، (ح 5280). ↩︎
- رواه البخاري، (5/ 1965)، (ح 4820)؛ ومسلم، (2/ 1028)، (ح 1408). ↩︎
- رواه البخاري، (4/ 1544)، (ح 3982)؛ ومسلم، (3/ 1541)، (ح 1941). ↩︎
- رواه مسلم، (3/ 1534)، (ح 1934). ↩︎
- رواه البخاري، (1/ 116)، (ح 298). ↩︎
- رواه مسلم، (1/ 265)، (ح 335). ↩︎
- رواه البخاري، (3/ 1110)، (ح 2882). ↩︎
- رواه أحمد في (المسند)، (2/ 519)، (ح 10740)؛ والترمذي، (4/ 48)، (ح 1444). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/ 131)، (ح 1444). ↩︎
- رواه مسلم، (3/ 1316)، (ح 1690). ↩︎
- رواه مسلم، (3/ 1302)، (ح 1676). ↩︎
- رواه مسلم، (2/ 1027)، (ح 1407). ↩︎
- رواه ابن المبارك في (مسنده)، (ص 143)، (رقم 233)؛ والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه)، (1/ 116)، (رقم 233)؛ وابن عبد البر في (جامع بيان العلم)، (2/ 368)، (رقم 1232). ↩︎