لماذا نحن هنا في هذه الحياة
الشُّعور بالغائيَّة، رحمةٌ وعذاب: رحمةٌ في المنظور الإيماني؛ لأنَّه يدفع الإنسان دفعًا إلى البحث عن الجواب، فينجذبُ إلى الدِّين الحقِّ، الَّذي يجيب عن هذه التَّساؤلات، إجاباتٍ شافية، تروي العطش، تقنع العقل، فيتَّصل الإنسان بربه، ويستمدُّ من نور الوحي الخالص، ويصبح كمركبةٍ كانت تائهةً في الفضاء، ثمَّ اتَّصلت بمصدرها وغايتها، فأصبحت تسير وفق خطَّةٍ مرسومةٍ، لترسوَ بأمان.
لكنَّ هذا المكوِّنَ الفطريَّ في المقابل عذابٌ للملحد؛ لأنَّه يثير تساؤلاتٍ لا جواب لها، وإذا حاول الجواب، فإنَّه سينتهي بالشُّعور بالعدَمِيَّة، واللَّامعنى، واللَّاقيمة. وليم بروفاين “William Provine”، بروفيسور تاريخ علم الأحياء، من جامعة كورنيل “Cornell University”، هو شخصٌ ملحدٌ، إلى ماذا قادَه إلحادُه؟ تعالوا نرَ… يقول بروفاين: “لا آلهة، لا حياة بعد الموت، لا قاعدة مطلقة للأخلاق، لا معنى نهائي للحياة،ولا إرادة حرة للإنسان.
هذه كلها مرتبطة بعمق بالمنظور التطوري.
أنت هنا اليوم وسترحل غدًا، وهذا كل مافي الأمر”. إذن، بروفاين يقول لك مثل ما قال الأوَّلون ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ ويقرُّ بأنَّ هذا يعني انعدامَ أيِّ معنى أو غاية للحياة.
العلم التَّجريبي، يحاول معرفة الغاية من وجود الأشياء والظَّواهر الطَّبيعيَّة حولنا حَسْبَ الإلحاد، استكشف كما تريد واسأل كما تريد، لكن، ليس من حقِّك أن تسأل عن الغاية من وجودك أنت أيُّها المستكشف.
عندما نتكلَّم في أحكامٍ شرعية، فكثيرًا ما يُعتَرَضُ علينا بمقولة: (الإنسان استكشف المريخ، وأنتم لا زلتم تتكلَّمون في هذه الأمور)، بل السُّؤال موجَّهٌ لكم أنتم أيُّها الجاهلون! هل يُعقل أن يستكشف الإنسان القمر والمريخ، ويتكلَّم عن المجرَّات التي تبعد عنَّا مليارات السَّنوات الضوئيَّة، ثمَّ يجهلُ نفسه التي بين جنبيه، والغاية من وجودها؟ قد يَخدعُ الإنسان نفسه فترةً من الزَّمن لكن، ماذا بعد ذلك؟ ماذا اختار بعضهم كبديلٍ عن هذه المهمَّة الصَّعبة؟ مهمَّة إيهام النَّفس بأنَّ للحياة غاية، وهي لا تؤمن بما بعد الموت.
ولذلك فهي مهمة صعبة جدًا أن تقنع الناس بأن الحياة جديرة بالعيش، وبالتالي أرى أن الطريقة الوحيدة الممكنة للتعامل مع الأمر، هي إلهاء وتشتيت الناس فأن أشغل نفسي بهذا، فصناعة الأفلام إلهاء رائع، تذكَّر وأنت تقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَاَلذِّين نَسُوا اَللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أَنْفُسَهُمْ﴾ ] نسوا الله فأنساهم الغايةَ مِن خَلْقهم، وأنساهم العمل لما ينفعهم، واهتمُّوا بكل شيءٍ، إلَّا بأنفسهم الَّتي بين جنبيهم، أسلوبٌ آخر للالتفاف على الشَّعور بالغائيَّة هو ما اتَّبعه البروفيسور الملحد، لورانس كراوس “Lawrence Krauss”، كراوس هذا، نشر قبل شهورٍ كتاب (أعظم قصَّةٍ رويت حتَّى الآن، لماذا نحن هنا)، ويا للمفارقة بين العنوان والمضمون! فالكتاب هو محاولةٌ لتسهيل فكرة العدميَّة على الملحدين، محاولةٌ لتخفيف ألم سؤال الغاية من الوجود والمصير بعد الموت ألقى كراوس محاضرةً في جامعة كونواي “conway” بنفس مضامين الكتاب، وبعد أن شرح دقَّة القوانين الَّتي تحكم الكون -دقَّةً مذهلةً-، قال: “العالَم الذي نتواجد فيه، استثنائيٌ جدًا، لكنه صدفة”، الملحد الفرنسي الشَّرِس جان بول سارتر “Jean-Paul Sartre” لم يتحمَّل الاستمرار في هذه المخادعة، وبعد سنواتٍ طويلةٍ أمضاها في محاربة مبدأ وجود الله، علا صوت فطرته وشعوره بالغائيَّة فقال: “لا أشعر أنِّي وليد الصُّدفة نقطةٌ من التُّراب في هذا الكون، بل أرى نفسي شخصًا محسوبًا حسابُه، معَدًّا لغاية، سَبق تقديرُه.
باختصار، كائنًا لا يمكن أن يوجده في هذه الحياة إلَّا خالقْ، وإنَّ ما أعنيه باليد الخالقة هو الإله”، ثُّم ترك سارتر إلحاده واعترف بوجود الله لكن، للأسف على غير ملَّة الإسلام. الملحد ستيفن هوكينغ “Stephen Hawking”، القائل كما ذكرنا من قبل: “الجنس البشري هو مجرَّد وسَخٍ كيميائي، موجودٍ على كوكبٍ متوسط الحجم”، هو أيضا القائل في نفس السِّياق: “إنَّنا عديمو الأهميَّة تمامًا، بحيثُ لا يمكنني أن أُصدِّق أنَّ هذا الكون كُلَّه موجودٌ مِن أجلنا”. كذلك تجد في مواقع الملحدين كلامًا نصُّه الحرفيُّ: “صورتنا الجديدة عن علم الكون تخبرنا أنَّنا أتفه مما كنا نتصوُّر في الكون، ليست لنا قيمة على الإطلاق، فلماذا سيكون هكذا كونٌ -نحن فيه عديمو الأهمية لهذه الدرجة- قد خُلِقَ لأجلنا” في التَّصوُّر الإسلامي، نحن مخلوقون لغايةٍ عظيمة: عبادةِ الله تعالى وتكوين علاقة المحبَّة بيننا وبينه، وأن تَظهر فينا آثار صفاته، آثار كرمه، وإنعامه، ورحمته، وعفوه، وهدايته وإحسانه، فغايةٌ كهذه، تستحقُّ تسخير الكون، لصالح مَن كُلِّفَ بها قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [القرآن:45:13] بينما الملحدون يقولون لك:”لا، بل نحن أحقر وأحطُّ مِن ذلك”، ومع ذلك، يعتقد البعض أنَّ الإلحاد يحترم الإنسان لسانُ حالِ الملحدين يقول غايتنا في الحياة، أن نقنع النَّاس بأنَّه لا غاية للحياة الإنسان في ظِلِّ الإلحاد وسَخٌ كيميائي، تافه، لا يستحق أن يوجد الكون من أجله، أصوله حيوانيَّةٌ منحطَّة، عقله مشكوكٌ في مصداقيَّته -كما بيَّنَّا-، حياته بلا معنى، بلا أخلاق مطلقة، بلا غاية، بَل مجرد تساؤله عن الغاية والمصير، تساؤلٌ تافه، ومَن قال بغير ذلك من الملحدين فإنَّه يخالف إلحادَه، ولا ينسجم مع نفسه، ومع ذلك، يعتقد البعض أنَّ الإلحاد يحترم العقل والإنسان فالحمد لله الَّذي كرَّمنا بمقام العبوديَّة له، ولم يجعلنا من المهانين الَّذين امتنعوا عن هذا المقام، فأهانوا أنفسَهم بأنفسِهم. ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾