لماذا لا بد من خالق؟
في الحلقتينِ الماضيَتينِ بيَّنَّا أنَّ دليلَ وجودِ الخالقِ هو: كلُّ شيءٍ؛ لأنَّ وجودَ الكائناتِ وإتقانَها لا بُدَّ لهُ مِنْ خالقٍ وبيَّنَّا أنَّ هذا دليلٌ قاطعٌ لصاحبِ القلبِ والعقلِ السَّليمَيْن.
وذَكرْنا أنَّ نقاشَنا للشُّبُهاتِ ليسَ جُزءاً مِن الدَّليلِ، فإذا أحسَستَ بتعقيدٍ في نقاشِها، فهوَ لصُعوبةِ مَهمَّةِ تَوضيحِ الواضِحاتِ لِمَن ينُاقشُ في المُسلَّماتِ، وليسَ لأنَّ إثباتَ وُجودِ اللهِ عمليَّةٌ مُعقَّدةٌ قالَ اللهُ تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بل لَّا يُوقِنُونَ﴾ “أَمْ خُلِقُوا”: أنتَ أيُّها الإنسانُ مَا الَّذي خَلقَكَ؟ أيْ: مَا الَّذي أَوجدَكَ بعدَ أنْ لمْ تَكُنْ؟
مَا الاحتِمالاتُ المطرُوحَةُ؟
1- أنْ يكونَ العَدَمُ (اللَّاشيءُ) هوَ الَّذي أَوْجدَكَ.
2- أنْ تكونَ أنتَ أَوْجدْتَ نَفْسَكَ.
3- أنْ يكونَ هُناكَ مَن أَوجدَكَ.
القِسمانِ الأَوَّلانِ واضِحَا البُطلانِ، فالعَدَمُ لا يُوجِدُ شَيئاً وأنتَ -أيُّها الإنسانُ- بعدَ أنْ تُوجَدَ، لا تَستطيعُ أنْ تزِيدَ في بَقائِكَ يومًا واحِدًا ولا تمنعَ هَرَمَ نَفْسِكَ ومَوتَها، هذا وأنتَ مُكتَمِلُ الجسمِ والعَقلِ، فكيفَ تُوجِدُ نَفْسكَ مِن عَدمٍ ابتداءً؟
فَبقِي الخِيارُ الثَّالثُ: أنَّكَ أُوجِدتَ بِسببٍ خَارجٍ عَنكَ.
مَا يَنطَبِقُ عليكَ أيُّها الإنسانُ، يَنطَبِقُ على السَّماواتِ والأرضِ.
ليسَ الجِنسُ البَشَريُّ هو مَن أوجَدَ السَّماواتِ والأرضَ بعدَ عدَمِها، ولا هيَ أوجَدَتْ نفسَها، ولا أوجَدهَا العدَمُ؛ فلا بُدَّ لها مِن خالقٍ.
ببساطةٍ، هذا الخَالقُ -بهذهِ الصِّفاتِ- هو المُسمَّى في المَنظومةِ الإسلاميَّةِ بـ(اللهِ) لذلكَ فالإيمانُ بوجودِ اللهِ ليسَ مجرَّدَ قضيَّةٍ عاطِفيَّةٍ تسليميَّةٍ، بل قضيَّةٌ بُرهانيَّةٌ استِدلاليَّةٌ عَقليَّةٌ، بالإضافةِ إلى أنَّهُ قضيَّةٌ فِطريَّةٌ -كما بيَّنَّا في سلسلةِ (الأدلَّةِ الفِطريَّةِ على وجودِ اللهِ) إيمانُنا بوجودِ اللهِ مُنطلِقٌ مِنَ استخلاصِ العِلمِ اليقينيِّ مِنَ المقدِّماتِ الضَّروريَّةِ، فإنَّنا لا نقولُ: نحنُ لا نعلَمُ مَن أحدثَ الكونَ، فنفترضُ وجودَ اللهَ لحلِّ ذلكَ، لا، وإنَّما نقولُ: إنَّ الاستِدلالَ العَقليَّ الضَّروريَّ يَدُلُّ على أنَّ الكونَ لا بُدَّ لهُ مِن خالقٍ أزَليٍّ ليسَ لهُ خالقٌ، وعلى بعضِ صِفاتِ هذا الخَالقِ أيضًا ونحنُ لا نقولُ: إنَّا وَجدنا السِّلسلةَ في الأسبابِ تَستمرُّ إلى ما لا بِداية فرغِبْنا في وضعِ حدٍّ لها، فافترَضنا وجودَ اللهِ تكاسُلًا مِنَّا عنِ التَّفكيرِ، لا؛ وإنَّما يقومُ استِدلالُنا على استِحالةِ التَّسلسُلِ في الأسبابِ إلى ما لا بِدايةٍ، لأنَّ نتيجَتَهُ الضَّروريَّةَ: انعدامُ الوجودِ أصلًا، وهو خِلافُ الحِسِّ والعقلِ. وعندما يقولُ الملحدُ: العِلمُ قدْ يكشِفُ مُستقبَلًا سببَ الحياةِ، فإنَّنا نقولُ: مهما اكتشفَ العِلمُ فإنَّهُ لنْ يكشِفَ أنَّ العدمَ أوجَدَ الحياةَ، أو أنَّ الحياةَ أوجَدتْ نَفْسها، أو أنَّ سببَ الحياةِ مُتسلسِلٌ إلى ما لا بِدايةَ.
لا يكشِفُ العِلمُ عمَّا يُناقضُ هذهِ البَدهيَّاتِ العقليَّةَ؛ لأنَّ نقضَ البَدهيَّاتِ العقليَّةِ يؤدِّي -أصلًا- إلى إلغاءِ العِلمِ التَّجريبيِّ -كما بيَّنا في الحلقةِ الخامسةِ.