التضليل الإعلاميالمقالاتشبهات وردود

لا تزال في إعلامنا الأسود المرباد بؤر بيضاء: برنامج قرار إزالة نموذجًا

سررت كثيرًا وأنا أتابع برنامج "قرار إزالة" في قناة صفا المباركة

وأنا في مرحلة الشباب، كنت أسمع أن الغرب الصليبي ومعه الصهيونية العالمية، عندما فكرا وانصب استشرافهما على إقامة أركان إمبراطوريتهما وتأسيس مشروع الهيمنة وبسط النفوذ، فتحا نداء ضميرهما العالمي المتوحش، وأطلقا له أعنة التحرير والتسابق والتشجيع التجاري المركنتيلي الجائع البشع.

ولا أنكر أنني يومها أي يوم أن حصل التماس مع هذه المعلومة التاريخية، كنت أقرؤها القراءة البسيطة العفوية الساذجة سذاجة غباء، تلك القراءة التي لم تكن لتتجاوز الأفق القريب، أفق حصر هذا النداء نداء التحرير والتشجيع والمتاجرة الحرة الاستباقية في دائرة اهتمام الغرب بتطوير إعلامه هو فقط، دونما أي استشراف مني يحيل على المقصود أصالة من دوائر وكيانات تقع في مرمى مشروع الهيمنة، والذي تذوقت معناه في ما استقبل من أيام العمر بالصوت والصورة والرائحة والطعم.

نعم لقد وقفت على عوز تلك القراءة البسيطة الساذجة، وأنا أتجول بين الأركان التي تؤثث مشهد إعلامنا العربي البئيس، ذلك المشهد الذي باتت الظلامية تحكمه في تشخيص متخن بالحيف والغبن والتدليس والزيف والزور، الذي كانت وظيفته ولا تزال هي تسوية السارق بالمسروق، والغاصب بالمغصوب، والظالم بالمظلوم، والقاتل بالمقتول، والمجرم بالبريء.

ولسنا في حاجة إلى التفصيل في جنس ولا نوع الطرف الغالب الأقوى المعتدي من معطوفات هذا التقابل، بقدر ما نحن في أمس الحاجة إلى فتح دفتي الاستغراب والتعجب من جهة العلم بأن أمر هذه التسوية كان ولا يزال موكولاً في تكليف لامس سقف التحريف والخيانة إلى إعلام عين المسروق، ونفس المغصوب والمظلوم والمقتول والبريء، ولعله تعجب واستغراب يحيل على ملحظ الفارق بين فهم الأمس واليوم، والذي شاركته أجيالي الهائمة بين الوهم وحسن الظن والوقوف دون استشراف ما وراء الأكمة، وقراءة المعلومة في سياق مذهب قائلها، وتجلية مآربه منها، والوقوف في يقظة وحذر ومسافة أمان تضمن تفادي الرمي والإصابة المباشرة القاتلة المردية.

نعم لقد اكتشفنا كجزء من “كل” جيلنا أن إعلامنا كان في عمق ذلك النداء ومخصوصه ومبتغى استثماره الأول والأخير، فلقد نما فينا الإحساس الصادق الذي لا يكاد ينفك عن المتابعة اليومية للأحداث الجارية وتغطية إعلامنا لها، بكون هذا الأخير لم ولن تتجاوز مهمته إقناع الشعوب المضطهدة والمستلبة أن الكلمة ليست لها، وأن مصيرها وضمان وجودها مرهون ومطبوع على طول خط الرجعة بالرق والتبعية، وأن عيش وحياة هذه الشعوب يبقى في الأول والأخير فضل وتفضل مشروط تجود به الأمم الغالبة لصالح المغلوبة، إذ لو شاءت أو استغضبت لضغطت على زر انفجارها الهلامي فأهلكت الحرث والنسل.

نعم إن إعلامنا مشغول حد الثمالة بملء جعبة المتلقي ببرامج الموضة والغناء والرقص والطبخ والسينما والرياضة والحوارات المتسفلة في نقيصة إقناعنا بحتمية الانهزامية وضرورة التبعية في رق إلى السيد الأبيض المتفوق في غلبة عسكرية وعلمية واقتصادية، طلبا للبقاء واستمطارا لعفوه ورحمته.

إن إعلامنا باختصار غير مخل ما فتئ يسعى بالغالي والنفيس إلى تربيب الغرب، ومن ثم الإقرار بحسناته علينا في المأكل والمشرب والدواء والهواء، ولا شك أنها مهمة من شأنها متى ما تحصلت وتغشت النفوس بحملها، أن تخلق قطيعة وشرخا عميقا في قوتنا النفسية، والتي كانت ولا تزال تستمد قوتها وأنفاسها من هدايات الإسلام الغالية، وإشراقات الإيمان الجماعي بوحدة الصف وتجانس المصير وتشاكل المقاصد العظمى، مقاصد حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

ويبقى أن نقول أن إعلامنا المستلب وإن سلمنا بسواده الأفقع، فإن الإنصاف يدفع إلى أن نقر ونقرر بأن سواده لا تزال تتخلل ظلاميته بؤر البياض المناهضة للتطبيع مع الهزيمة والانجراف وراء مشروع الاستلاب ومقصود الهيمنة، وتلك ولا شك حقيقة لا يؤثر فيها منطق العدد بين لازم القلة والكثرة، إذ الغاية من هذا الإقرار هو إفهام البعض بحقيقة أننا أمة قد تمرض لكنها لا ولن تموت.

وقد سررت كثيرًا وأنا أتابع برنامج “قرار إزالة” في قناة صفا المباركة، والذي كان موضوع حلقته “مخططات أمريكا لهدم الإسلام … وثائق تعرض لأول مرة”، ولعل الباعث على هذه المسرة هو درجة الفضح الكاشف، والجرعة الزائدة التي تمتع بها مقدما البرنامج من الفهم والتنزيل الحسن لهذه المخططات على مناطاتها المستهدفة من حصن الأمة، وكذلك التميّز الذي كان شعاره استيعاب دائرة الضوء الكاشف للأصول والأذرع والفروع الفاعلة والمحركة لتلك المخططات الدنيئة، وكيف أن لهذه الحلقات الثلاث الكبرى التي يشد بعضها بعضا، تأثر مباشر بالجبهة العلمانية العربية وقادة المشروع التنويري من المتعالمين في تربيض وتجاسر على الوحي هنا وهنالك، وامتدادات هذا الخليط النكد هنا داخل الأوطان العربية الإسلامية، ودور الكل الفاعل والمؤثر في تشكيل ملامح المشروع الأمريكي في المنطقة، بدءًا من التنظير والتخطيط، ووصولاً إلى التنفيذ والتفعيل، في استجابة وإنابة وولاء وعمالة واصطفاف إلى جانب الغاصب والسارق والمجرم الجلاد القاتل.

وهم من هم؟ هم الذين استمرؤوا حتى في القضايا الصغيرة الحلف زورًا لاغتصاب مال حرام، أو استصدار حكم باغ ظالم، أو شحن البغضاء في نفوس الناس وتجييشهم ضد الدين، باعتباره المسؤول الأول والأخير عن كل ما تشكوه الأمة وتعاني منه الشعوب من ضعف وجهل وتخلف.

وهكذا قدّم لنا البرنامج أولاً الخطوط العريضة للمؤامرة، التي انعقدت شراكها وقامت قومتها بتفكير وتدبير واقتراح وتشارك بين مؤسسات حكومية أمريكية على رأسها “البونتغون”، والعديد من الدُّمى التي أغلبها تعود أصوله إلى الإسلام انتساب أرض أو أبوة، كالكاتبة الصومالية “أيان هيرسي علي” والتي كانت قد طردت من هولاندا بتهمة التزوير، لتمنحها أمريكا جنسيتها، وتصير ضيفة معهودة الظهور على قنوات التلفزيون الأمريكي، والكاتب المصري “توفيق حميد” رئيس منظمة “إسلام من أجل السلام”، وهو ضيف عزيز على قناة “فوكس نيوز” ذات التوجه المعادي للإسلام والمسلمين، والكاتبة الكندية ذات الأصول  الهندية “إرشاد منجي”، والتي ألفت العديد من الكتب تدعو من خلالها وتنادي بضرورة إصلاح الإسلام ومراجعة نصوصه من الداخل، وطريد مؤسسة الأزهر “أحمد صبحي منصور” رئيس “جماعة القرآنيين” في أمريكا، والمعروف عنه فرط عدائه للسنة النبوية المطهرة…

وبعد استعراض مبتسر خاطف لبعض أفكار هؤلاء الشردمة من العرائس والدُّمى، يعطف البرنامج على النزول إلى الداخل الإسلامي، حيث يسترسل في تجلية الدور المنوط بفروع الأذرع السابق ذكرها، مزكيا هذا الترابط الوثيق حائدا به عن الرجم بالغيب ببعض خرجات هؤلاء الكسور والتوابع في الإعلام العربي المحلي البئيس.

وليس يدري المرء أي صفاقة تلك، وأي نوع تبعية واصطفاف ذلك، الذي يحمل مثالا لا حصرا شخصا  مصريا ك”توفيق حميد” إلى وضع برنامج خطة لتغيير عقيدة المسلمين بدءا بمناداته الصلفة في إحدى محاضراته تحت تصدية ومكاء الحاضرين من الأمريكيين والمتصهينين، إلى ضرورة هزم المسلمين عسكريا تمهيدا لهزمهم فكريا، يضاف إلى هذا الركام القمئ ما تقدمه الملحدة الهندية “إرشاد منجي” لمراكز الدراسات الإستراتيجية هناك في أمريكا من مقترحات وأطروحات تذهب مذهب القضاء على الإسلام واجتثاث عراه من نفوس وأفئدة ونواصي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ناهيك عما يقدمه المصري أحمد صبحي منصور زعيم القرآنيين بأمريكا من مناورات قذرة تستهدف إنكار السنة وإخراجها عن سياق التشريع وإلزاميته.

وربما أغنانا الإجمال في هذا المقام بالقول الذي مفاده :أن وظيفة هؤلاء ومقصودهم الأول بالوكالة هو هدم الإسلام من الداخل، سيما وأن أسيادهم بعد بلاء أمر وخَبْر مُر تَمْر وقفوا على حقيقة استحالة تقويض بنيان الإسلام أو المس بقواعده الرصينة عبر المواجهة الخارجية، وإن حُشر في منطق هذا النوع من المواجهة آخر صيحات السلاح برًا وبحرًا وجوًا.

كما وقفوا على حقيقة أن غرس وتوطين هؤلاء بيننا ودفعهم إلى الواجهة  والتمكين لهم، وملء نواصيهم بالشبه، وإشباع جيوبهم وأرصدتهم بالعملات الصعبة، وفتح الأبواب الموصدة أو التي كانت موصدة في وجوههم حتى الماضي القريب، من شأنه أن يشكل المانع القوي الذي يحول دون الاعتماد الحقيقي على الإسلام كدين للدولة يُصار إليه رسميا ومؤسساتيا في التشريع والتدبير والقضاء والاقتصاد والمعاملات.

وإنها والله لأم المعارك وأزكاها، تلك المعارك التي لن يهدأ ركزها ولن تستكين ولن تفزع إلى الهدنة والمسالمة، حتى تقضي مآربها فتقضي علينا، أو نقضي عليها ونئد فوضاها وضجيجها، فينحسم بغيها وتتوارى جسارتها وتفيء إلى الله، وتلك ولا شك من أسمى أمانينا وأعظم القربات بين أيدينا.

زر الذهاب إلى الأعلى