لذا نقولُ للمُلحدِ: إن كانت الضَّروراتُ العقليَّةُ لا وجودَ لها، فكيف تُفسِّرُ اقتناعَ الناس كُلِّهم بها، بما يَدلُّ أنَّها مُكوِّنٌ عقليٌّ راسِخٌ لديهم؟ بلْ وعملَكَ أنتَ والنَّاسِ في الواقعِ بها؟
يُجيبُكَ المَنظُورُ الإلحاديُّ فيقولُ: بما أنَّ الإنسانَ جاء بالتَّطوُّرِ الدَّاروينيِّ، والمحرِّكُ في هذا التطوُّرِ هو الانتِخابُ الطبِيعيُّ والطَّفَراتُ العشوائيَّةُ الَّتي تُحقِّقُ للكائنِ العيشَ والبقاءَ، فما الَّذي يضمنُ أنَّ هذه الطَّفَراتِ طَوَّرتْ لنا عُقولًا قادرةً على الوصولِ إلى حقائقِ الأشياءِ؟ بلْ هذهِ العُقولُ يُمكنُ أن تُضلِّلَنا، وتجعلَ بعضَ الأمورِ مُسَلَّماتٍ عقليَّةً بالنَّسبةِ لنا معَ أنَّها مجرَّدُ وَهْمٍ في الحقيقةِ، وإنَّما تَخدَعُنا عُقولُنا لتُحقِّقَ لنا البقاءَ!
إذن، فالإلحادُ يَصِلُ بصاحبِهِ إلى أبعدَ مِنْ إنكارِ المُسلَّماتِ العَقليَّةِ، يَصِلُ بِهِ إلى التَّشكيكِ في مِصْداقيَّةِ العقلِ البشريِّ نفسِهِ. نقولُ للمُلحِدِ: إلحادُكَ إذَنْ يُقِرُّ بأنَّ عقلَكَ يمكنُ أن يُضلِّلَكَ، وأن لا يَكتشِفَ الحقيقةَ، فكيفَ تَثِقُ بعَقلِكَ إذَنْ؟! العقلِ، ويَتَّهِموا المُتَدَيِّنينَ بامتهانِ العقلِ بينما حقيقةُ الأمرِ أنَّ الإلحادَ يقودُ -في النهايةِ- إلى هدمِ مَوثُوقيَّةِ العقلِ نفسِهِ! المُلْحدُ يَعِيبُ علينا إيمانَنَا بالنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والَّذي عُرِفَ بالصِّدقِ، معَ أنَّنا لم نَبْنِ إيمانَنَا على قولِهِ عن نفسِهِ أنَّهُ رسولُ الله فحسْب؛ بل ببراهينَ خارجيَّةٍ على صِدْقِهِ ونُبوَّتِهِ. وفي الوقتِ نفسِهِ يُصدِّقُ المُلْحدُ عَقلَهُ المَشكُوكَ في مِصدَاقيَّتِهِ وقدرتِهِ على الدَّلالةِ على الحقيقةِ لمُجرَّدِ أنَّ عقلَهُ قالَ له: صدِّقنِي! [لا أحد يملك الحقيقة المطلقة]
كيفَ خرجَ الإلحادُ مِن هذا المَأْزقِ؟ مَأْزقِ الاعتمادِ على عَقلٍ يُمكِنُ أن يُضَلِّلَ عن حقائقِ الأشياءِ؟ أَجابَكَ الإلحادُ فقالَ: ومَن قالَ أنَّ للأشياءِ حقائقَ مُطْلقةً أصلًا، حتَّى تُضَلِّلَنَا عقولُنَا عنها؟! قالُوا: بل ليسَ هناكَ شيءٌ اسمُهُ حقائقُ الأشياءِ، وإنَّما هي قراءةُ حَواسِّ الإنسانِ لها، كأنَّ الشَّيءَ بلا لَوْنٍ ولا مانعَ مِن أن يَرَاهُ كلُّ إنسانٍ بلَوْنِهِ الخاصِّ، ولا سبيلَ لأحدٍ أن يُخطِّئَ الآخرَ؛ لأنَّه لا يَستطِيعُ أحَدٌ أن يدَّعِيَ أنَّ الآخرَ خالفَ (الحقيقةَ)، لأنَّ كلَّ ما يُسمَّى (حقيقةً)، إنَّما هو مُنتَجٌ عَقليٌّ بشريٌّ لا قِيمةَ مُطْلَقةً لهُ مُستقِلَّةً عن أشخاصِنَا.
التَّسلسلُ الَّذي أدَّى إليه إنكارُ وُجُودِ اللهِ انتهى باعتبارِ كلِّ شيءٍ نِسْبيًّا، وهو الَّذي أَوجَدَ البيئةَ المناسبةَ لمَقُولاتٍ مثلِ: أنَّ الحقيقةَ لا يمتلكُهَا أحدٌ، وأنَّه ليسَ هناكَ حقيقةٌ مُطْلَقةٌ، وأنَّ الحقيقةَ نِسْبيَّةٌ. هي نِسْبيَّةٌ عندهُم لأنَّ القَوْلَ بإطلاقِ الحقيقةِ، وبأنَّ للأشياءِ حقيقةً، يستلزمُ التَّسليمَ بوُجودِ سُنَنٍ هناك مَن سَنَّها، وضروراتٍ عقليَّةٍ هناكَ من فَطَرَ الإنسانَ على ما يُشبهُ البرمجةَ الَّتي تقبلُهَا، وهم لا يُريدونَ أن يُسلِّموا بهذا كُلِّهِ.
[هل الأشياء دليلٌ على الله أم أنَّ اللهَ هو الدليل على كلِّ شيءٍ؟] بهذا -إخوانِي- تظهرُ تَبِعاتُ الإلحادِ حينَ أَنكَرَ كُلًّا من العِباراتِ المفتاحيَّةِ التِّسعةِ في المقدِّمةِ الإيمانيَّةِ القائلةِ: خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ بالحقِّ، ووَضَعَ لهُ بحكمتِهِ سُنَنًا ثابتةً، وفَطَرَ الإنسانَ على فِطْرةٍ تُنتِجُ له مُسَلَّماتٍ عقليَّةً بديهيَّةً ضروريَّةً، يَنطلِقُ منها عقلُ الإنسانِ لاكتشافِ حقائقِ الأشياءِ.فلَدَى المُلحِدِ: لا اللهَ، فلا خَلْقَ، ولا حكمةَ، ولا سُنَنَ ثابتةً، ولا فِطْرةَ، ولا مُسَلَّماتٍ عقليَّةً ولا عقلًا إنسانيًّا موثوقًا، ولا حقًّا، ولا حقائقَ مُطْلَقةً، ولا نتائجَ علميَّةً موثوقةً يمكنُ
تَعمِيمُها واستنتاجُ قَوَاعدَ منها، ولا لُغَةَ تَخاطُبٍ عقليٍّ مُشتركةً، ويَنفَرِط عِقْدُ كلِّ شيءٍ.. ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [القرآن 18: 28]، وهذه كُلُّها نتائجُ الالتزامِ بإنكارِ اللهِ تعالى، والَّذينَ تَوقَّفُوا عندَ دَرَكةٍ من دَرَكاتِ هذا الهبوطِ فإنَّما همْ تَعَامَوْا عنْ لوازمِ وتبعاتِ إلحادِهِم، وتناقضُوا معَ مُعتَقداتِهِم.
ممَّا سبقَ -إخوانِي- يَتبيَّنُ أنَّهُ لا تقومُ حقيقةٌ بغيرِ الإيمانِ بوجودِ اللهِ تعالى، الَّذي لهُ الكمالُ المُطْلَقُ، والَّذي أوْجدَ في الإنسانِ حقائقَ مُطْلَقةً، لا يَتوَصَّلُ إليها بنفسِهِ.
ومنْ هنا نَفهَمُ العبارةَ العميقةَ لأهْلِ العِلْمِ: (العِلْمُ باللهِ أصلٌ للعلمِ بكلِّ مَعلومٍ)؛ فمن لم يُدرِكْ وُجُودَ اللهِ تعالى فلن يَتمكَّنَ بُرهانيًّا أن يؤسِّسَ لنظريَّةٍ معرفيَّةٍ متماسكةٍ، وهذا معنى كلامِ ابنِ القيِّمِ الَّذي مُختصَرُهُ: فإنكارُ صانعِ الكَوْنِ وجَـحْدُهُ في العقولِ والفِطَرِ، بمنزلةِ إنكارِ العِلْمِ وجَـحْدِهِ لا فرْقَ بينهما، بل دلالةُ الخالقِ على المخلوقِ عندَ العقولِ الزَّكيَّةِ المُشرقةِ والفِطَرِ
لصَّحيحةِ أظْهرُ منَ العكسِ؛ يقصدُ أنَّ الاستدلالَ بالخالقِ على الخَلْقِ، أَوضَحُ من الاستدلالِ بالخَلْقِ على الخالقِ. ثمَّ قالَ ابنُ القيِّمِ: “وسَمعتُ شيخَ الإسلامِ -تقيَّ الدِّينِ ابنِ تيميةَ- يقولُ: كيفَ تَطلُبُ الدَّليلَ على مَن هو دليلٌ على كلِّ شيءٍ؟ وكانَ كثيرًا ما يَتمَثَّلُ بهذا البيتِ: وليسَ يَصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتاجَ النَّهارُ إلى دليلِ”