عمل المرأة.. هل هو قضية؟
يكاد عمَل المرأة في بلادنا أن يصبحَ قضيَّة، وهو ليس كذلك؛ إذ كَثُر ويكْثُر حوله الجَدَلُ والأَخْذُ والرَّدُّ، فمِن قائل: إنَّ المرأة خُلقَتْ لعملٍ جليلٍ، لا ينبغي أن يُزاحِمَه في حياتها شيء سواه، وألا يؤثِّرَ عليه شيء غيره، فهو منَ الأهمية والخطورة، بحيثُ تفرد له المرأة النصيب الأكبر مِن حياتها، والحظ الأَوْفى مِن وقتِها وجُهدها، وجلَدها وصبرها وتصبرها، ويعني به هذا القائل: منزلها، ومَن فيه من رجُل وأولاد، يَحْتَاجون إلى رعايتها وعنايتها، واهتمامها وتدبيرها.
ومِن قائل: إنَّ بلادَنا تَمَرُّ بمرحلة تطوير شاملٍ ونهضة، قلَّ أن يوجدَ لها نظيرٌ في كلِّ مجال من مجالات الحياة، وهذا التطوير وتلك النهضة في أمسِّ الحاجة إلى كلِّ جُهد من كلِّ قادرٍ على بذْل الجهد؛ أي: إنَّ البلادَ في هذه المرحلة مِن تاريخها أحْوَج ما تكون إلى مُشارَكة كلِّ فرْدٍ فيها – رجُلاً كان أو امرأة – في البِناء، وتشييد صُرُوح تلك النَّهْضة العِمْلاقة، فلماذا نَحْرِم البلادَ مِن جُهُود بناتها وخبرتهنّ، وحماسهن للعمَل والإسهام في نهضة الوطن، وهنَّ قادِرات على ذلك راغبات فيه؟
وفي رأيي المتواضِع: أنَّ كِلا القائلين بحاجةٍ إلى مُراجَعة قوليهما، والنظَر فيما يتَّصِف به قول كليهما مِن تعميم وإجمال، كما أنَّ القولَيْنِ يبْدوانِ وكأنهما طرفان لا يلْتَقيان، إنَّهَمُا بِمَثابة القَوْل بِوُجُوب إبْقاء الكأْس ملأى أو إبقائها فارِغة، وكأنَّه لا يجوز أن يوضَع في الكأس نصفها فقط، فلا تكون فارغة ولا تكون ملأى، مع أن هذا هو ما يُسَمَّى بالحَلِّ الوَسَط، وما أحوجنا إلى الحلِّ الوَسَط في كثيرٍ مِنْ أُمُورِنا وخلافاتنا، التي لا سبب لها إلا الإفراط أو التفريط في الغالب الأعم.
أُريدُ أنْ أقول: إنَّ عَمَل المرأة بالمفهوم المتعارَف عليه في المجتمع الحديث مطلوب، ولكن بضوابطه الشرعية المعتبَرة؛ ذلك أنَّ هذه البلاد التي شرَّفَها اللهُ بتَطْبيق شريعته، والاحتكام إلى كتابه وسُنَّة نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – تختلف عن غيرها، ومن منطلق ذلك الاختلاف فإنَّه لا ينبغي قياسُها على ذلك الغير، ولا النظر إلى ما يحدث عند ذلك الغير على أنه ما ينبغي أن يحدث لدينا بخيره وشرِّه، وحلْوه ومُرِّه، كلا، بل إنَّ ذلك الاختلاف يفْرض علينا نَمَطًا مُعَيَّنًا منَ التصَرُّف، ويوجب علينا نوعًا محدَّدًا منَ المُمارَسة، ينْطلقان منَ الصِّفَة الشرْعِيَّة لهذه البلاد، باعتبارها مشرق نُور الإسلام، ومطبقة شريعته، وحامِلة دعوته.
ودَعْني – أخي القارئ – أَضْرب لك مثَلاً واقعيًّا حيًّا للنَّمَط المُعَيَّن والنَّوْع المُحَدَّد، اللذَيْن قصدتهما، ذلك المثَل الواقعي الحي للتَّصَرُّف المعيَّن والممارسة المحددة هو تعليم الفتاة في بلادنا، بكُلِّ ما يحتاج إليه من مدرسات ومديرات، ومراقبات وكاتبات وناسخات… إلخ، فقد تَمَّتْ هذه التجربة الرائدة بنجاحٍ منقطع النظير؛ أعني: أننا جَمَعْنا بين تعليم المرأة وتشغيلها في مهنة لا يقوم بها غيرُها، فحَقَّقنا بهذه التجربة أكثر من هدَف، وسددنا بها أكثر من ثَغْرة، وأثْبَتْنا للعالَم أجْمع أنه لا تناقُض ألْبَتَّة بين الالتزامِ بالإسلام وتطبيق أحكامه، وبين الرُّقِي والتقدُّم، وإسهام القادِرين والقادرات في دفع عجَلة ذلك التقدُّم في البلاد، وأريد أن أقول أيضًا: إنَّ ما يقوله البعضُ مِن كون عمَل المرأة الأساسي هو في البيت تدبيرًا لِشُؤُونه ورعاية للزوج والأولاد؛ أي: إنَّ وظيفتَها الأساسية هي (الزوجية والأمومة) – لا مجال للاعْتِراض عليه؛ باعتباره قولاً صحيحًا، ينْبَثق من الفطرة التي فطَر الله الناس عليها، وأنه هو الأصْل والقاعدة المتَّفِقة مع سُنَّة الله في الكون، لكن ذلك لا يمنع من أن تضيف المرأة – إذا كانتْ قادِرة – إلى تلك المُهمة الجليلة مُهمَّة أخرى من تلك المهِمَّات التي تؤديها لأمتها وبلادها وبنات جنسها؛ من تعليم، أو تطبيب، أو صيدلة، أو تمريض، أو ما شابَه ذلك، لكنني أُرَكِّز هنا على ألاَّ تتعارَض هذه الأعمال مع المهمة الأساسية لها؛ فالبلادُ قبلَ أن تكون بحاجةٍ إلى الطبيبة، والمعلِّمة، والمُمَرِّضة، والصيدلانِيَّة… إلخ – فهي أحوجُ ما تكون إلى الحاضِنة والمرَبِّية، والأم الرؤوم، التي تُخْرِج لنا القادَة والروَّاد والمصْلحين.
إننا نستطيع أن نسدَّ الثَّغْرة التي قد تنتج عن عدم مُشاركتها في أيِّ مجال من تلك المجالات التي ذكرتُها، لكنَّنا لن نستطيعَ أبدًا أن نسدَّ الثَّغرة التي تنتج عن تَخَلِّي المرأة عن رسالتها الأولى، وعملها الأصلي، وهو الزوجية والأمومة.
أَجَل – أخي القارئ – إنَّ الأُمَّهات لا يُستقدمن ولا يستأجَرْن.