علم أصول الفقه وأثره في مواجهة الشُّبُهات
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
(فإن أصول الفقه علمٌ عظُم نفعُه وقدْرُه، وعلا شَرَفُه وفخره؛ إذ هو مثار الأحكام الشرعية)1، ومأخذ الأدلة النقلية.
وهو من العلوم التي امتازت به هذه الأمة عن سائر الأمم والشرائع2.
ولما كان الواقع المعاصر مليئًا بأمواج من الضلالات والانحرافات، وكان علم أصول الفقه يؤصِّل لدَرْءِ ذلك ودفعه، كان من الحسن بيانُ أثره الشريف وتَجْلِيَتُه في مواجهة تلك الانحرافات.
تعريف علم أصول الفقه وأهميته:
علم أصول الفقه هو: (معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد)3.
وقيل: (القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية)4.
وعلم أصول الفقه من العلوم التي يتوقف فَهمُ أحكام الشريعة، وحسن إعمال نصوصها على إدراك حقائقه؛ إذ به يقف الناظر على أدلة التشريع، وقواعد الشريعة، ومرادات الشارع، وطرق نصب الأدلة، واستعمال الدلالات ومراتبها ووجه كل مرتبة؛ فكما يقول الغزالي: (قبلة المجتهد: مقاصد الشرع)5.
وذلك توصلًا لفَهم مراد الله وامتثاله؛ (فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الوراثة النبوية، وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتى عُدَّ ألفٌ بواحد)6.
لذا انبرى علماء الأصول لتقعيد هذا العلم تأصيلًا لمسائله، وإفصاحًا عن قواعده، استمدادًا من نصوص الوحيين، ولغة العرب التي نزل بها القرآن؛ فبلغوا تحريراتٍ في علوم لم يتسنَّ لأربابها الوصول إليها7؛ يقول الشاطبي: (… حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث؛ وهو أول درجات بوابة فقه الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب.، ثم قيَّض رجالًا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعًا ونصبًا، وجرًّا وجزمًا، وتقديمًا وتأخيرًا، وإبدالًا وقلبًا، وإتباعًا وقطعًا، وإفرادًا وجمعًا، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهَّل الله بذلك…)8، وما ذلكم الجهد وتلكم العناية إلا صيانةً لشريعة الله، ونصرةً لدينه، وذبًّا عن حِيَاضِه9.
فأضحى علم أصول الفقه أداةً لفَهم مراد الشارعِ، وحصنًا وحفظًا للشريعة أن يُتجاسَرَ عليها بالباطل10؛ يقول القرافي: (لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير)11.
من سمات الشبهات المعاصرة:
- لا يتأثر في كثير من طرحها إلا من كان قليلَ العُدَّة ضعيف الحُجَّة.
- أكثر نَفَثات تلك النزعة مستفادة من كبرائهم الأقدمين؛ فلم يكن لمن سلف إلا مَحْضُ الإعادة والتكرار.
- مرابطة أربابها على تثوير القضايا التي لها أصداء عالية في المجتمعات ووسائل الإعلام؛ كالقضايا المتعلقة بالمرأة والحرية.
- أن كثيرًا من تلك النداءات لا تباشر الطعن في الإسلام، وإنما تنقضه تدرجًا؛ عروةً عروةً؛ توصلًا إلى هدم كليات الشريعة بجزئياتها.
خطورة الشبهات على إيمان المرء:
الشُّبَهُ الباطلة والمقالات الفاسدة تختلف عوائدها باختلاف الناس؛ فأما أصحاب البصيرة والعلم فيزدادون يقينًا وبصيرةً، إذا رأوا ما عارَضَ الحقَّ من الشُّبَهِ، واتضح لهم فسادها، وأما من قَصَرَتْ عُدَّتهم، فتلتبس عليهم، ويعتقدونها على علاتها، فمن كانت هذه حاله، فلا يُؤمَن أن يكون صيدَ رماحها، فتتمكن شبهة في نفسه فتخطف قلبه، ثم لا يستطيع ردها؛ فإن (اقتحام الشبهات داعية الغوايات، وسبب الضلالات)12.
فإن أكثر الشُّبَهِ يَرُوج أمرها على معظم الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ولا يعرف حالها إلا الناقد البصير من الناس، وقليلٌ ما هم13.
وجوب الرد على الشبه وإبطالها:
لما كان من سنن الله الماضية أن يتسلط فِئامٌ من السفهاء على دين الله وشريعته؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]، كان واجبًا على من أُوتُوا العلم أن ينهضوا لحُرُمات الإسلام، ويدرؤوا أصحاب الضلالات14؛ (فإن وطأة الأهواء شديدة، وسُبُلَه متكاثرة؛ لكثرة المضلِّين المفتونين الرابضين بيننا، الْمُنْطَوِين على رشحٍ أصاب ضمائرهم بآراءٍ ساقطةٍ، يخزي بعضها بعضًا)15.
يقول ابن تيمية: (فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرةً تقطع دابرهم، لم يكن أعطى الإسلام حقَّه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين)16.
أثر علم أصول الفقه في درء ومواجهة الشبهات:
لا تقتصر فائدة علم أصول الفقه على الفروع الفقهية والأحكام العملية، بل يحتاجه كل من ابتغى فهم نصوص الوحي والاستدلال بها، فإن هذا العلم عبارة عن قواعد للفهم والاستدلال الصحيح، وعدة لكل من رام دَرْءَ سهامِ المسيئين إلى الشريعة من الجَهَلَة والظَّلَمَة.
فمن أحاط بأصول الفقه تأصيلًا وتطبيقًا، فإنه يُبْرِز الوجه المشرق للشريعة الربانية، ويكون داعيًا للإسلام، مرغِّبًا فيه، ذابًّا عنه شُبَهَ الأعداء والمبطلين17.
وعليه؛ فيمكن بيان أثر علم أصول الفقه في درء ومواجهة الشبهات في جملة أمور:
الأول: جُلُّ الشُّبُهات لا تقوم على منهجية وقواعد منضبطة في التلقي والأخذ، فطريقتهم ركوب العشواء وخَبْط الظلماء، وهذا خلل في مدارك العقل، وأصول النظر، وهو موصِّل إلى التردي في مهاوي التخبط والسفسطة؛ فيكون الإيراد بحسب ما يخطر للنفس من الخيالات الفاسدة، والمعاندات الجاحدة، بلا منهج ضابط ولا تقعيد حاكم18.
فترى كثيرًا منهم يُورِد الأدلة جُزَافًا، ولا يعلم أن ذلك الدليل ربما عاد على قولته بالإبطال، ثم هو يأتي باستدلالات بَلْهاء، لا تؤازرها قاعدة من اللغة العربية، ولا حتى مستقيمات الأنظار العقلية، بينما تجد الأصول قد انضبطت فيها مصادر التلقي والأخذ والفَهم19؛ فقد حرر الأصوليون أصول الأدلة ودرجاتها، وطرائق الاستدلال والاستنباط وتراتيبها، ومراتب الأخبار؛ القطعي منها والظني، وما يفيده كل منهما، وما اتُّفق عليه، وما اختُلف فيه من تلك الأدلة والأخبار، وما صحَّ دليلًا، وما لم يصح، فتستقيم للناظر الأدلة والدلالات والاستدلالات، ولا تضطرب عنده مدارك النظر وأصوله.
الثاني: منشأ كثير من الشُّبَهِ هو التحريف لدلالة النص والتبديل لمعانيه وغاياته؛ فيُفهم فهمًا سقيمًا.
أما علم الأصول، فمنذ تدوينه، وعلم الدلالة ركنٌ ركين فيه لا يُستغنَى عنه، وجزء مكين من مباحثه لا ينفصل منه، فتَتَابَعَ الأصوليون على تقعيده وتأصيله، وأسْهَبُوا في شرحه وتفصيله، بما لم يسبقهم إليه أحد، حتى ظهرت الدلالات اللفظية والمعاني الشرعية واضحة جلِيَّة كما أرادها الشارع الحكيم، محروسة عن أفانين التأويل وألاعيب التعطيل20.
فأورث ذلك فَهْمَ النصوص وإدراك مراميها، وإحكام دلالاتها، والغوص في أعماق معانيها، والوقوف على حكمها وأسرارها؛ فإنه كلما كان قاصدُ الامتثال أكثرَ فهمًا وإدراكًا للمراد، كان أصدق امتثالًا، وأقرب لإصابة الحق21.
الثالث: قدر كبير من الشبهات منشؤها وسببها اعتقاد قائليها أن الشريعة ليست سَمْحَة، ولم تنطوِ على المحاسن ولا المصالح، ولم تأتِ بالتيسير.
وهذا فَهمٌ مرسل؛ فقد عُنِيَ أصول الفقه بمباحثَ تجلَّى من وراءها محاسن الإسلام، وأن هذه الشريعة قد بلغت كمالها في تشريعها وإعجازها، وأوامرها ونواهيها وأخلاقها، وتأتي إعمالها وتحكيمها في كافة الأزمان والأحوال، وثباتها ورسوخها أمام معاول الهدم والعبث22.
ومن تلك المباحث والمسائل مثالًا لا حصرًا: قولهم في ترتيب الواجبات والمستحبات لتقديم الأقوى دليلًا والأكثر نفعًا على ما سواه، وموانع التكليف، وعوارض الأهلية، وبيان الرخص واعتبار الشرع التخفيف فيها، وأبواب الأقيسة الكاشفة عن حِكَمِ الشريعة وأسرارها بالتأمل في عِلَلِ الأحكام ومقاصدها، وقولهم في الاستصلاح بالكشف عن المقاصد الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية، وتنزيل كل مقصد في منزلته عند التزاحم، ومعرفة المصالح والمفاسد، ومعرفة المعتبر منها في الشرع والْمُلْغَى، ومعرفة درجات المعتبر لتقديم ما يستحق التقديم23.
الرابع: أن من بواعث الشُّبَهِ اتباع الهوى24، و(إذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل، لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى)25، و(الهوى يُعمي ويُصِم، وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حُجَّة تُوجِب صدقَه، ويرد ما خالف هواه بلا حُجَّة تُوجِب ردَّه)26.
أما علم أصول الفقه، فيؤصِّل لفهم النصوص والقول في الشريعة وفق قواعد الاستدلال المنضبطة، دون التفات لنزعات النفس وما تهواه وتشتهيه.
وقد عاب علماء الأصول من جعل هواه دليلًا ومستندًا لحكم شرعي؛ لذا توارد نكيرهم على من قال بالاستحسان حين فهم منه القول في الشريعة تخرصا وتحكمًا، ولا قائل به أحد من الفقهاء، فمما قيل فيه من التعريفات المراجعة: (ما يستحسنه المجتهد بعقله)، ووردت عبارة الشافعي نقدًا لذلك: (من استحسن فقد شرع)27.
وذكر الشاطبي أنه مما رُدَّ به ذلك الحد أنه (لو فُتِحَ هذا الباب لبطلت الحُجَجُ، وادعى كل من شاء ما شاء، واكتفى بمجرد القول)28.
وقال الشنقيطي: (المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرد عقله في تحسين شيء، وما لم يعبر عنه، لا يمكن الحكم له بالقبول حتى يظهر ويُعرَض على الشرع)29.
الخامس: أن علم الأصول يُعِين على ضبط أصول الحِجاجِ، وطرائق الجدل والمناظرة، ومنهج نصب الأدلة30، فيجعل الناظر والمحقِّق فيه أهلًا للدفاع عن شريعة الله تعالى بإكسابه مَلَكَةً استدلالية، وحجة بيانية.
وعليه: فلا يصح أن يتقحَّم مَن كان مُزجى البضاعة في نزاعات مع أرباب الباطل، فيسيء من حيث أراد الإصلاح؛ فرُبَّ شبهةٍ عرجاءَ وأدلة باطلة أنهضها حجة واهية من متعالم مكسور ولج سور الشريعة بجهل وسَفَهٍ.
السادس: أصول الفقه يؤصِّل أن الشريعة مُهَيمنة صالحة لكل زمان ومكان وأمة، وأنها شريعة تساير كل عصر وحال، مصونة من تطرق التغيير والتبديل، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، وتواترت أدلة الشريعة بتقريره31.
وأما الشبهات فمنشأ كثير منها فرض أن الشريعة تناسب القرون الأولى، وليس يتأتى تحكيمها وإعمالها في العصر الحاضر32.
السابع: كثير من الشبه مبنية على عدم التثبت والتعمية والكذب.
وعلم الأصول من العلوم الشرعية الصحيحة، فيدعو إلى الصدق والتثبُّت، وهذا جلِيٌّ في مباحث الأدلة من كتب الأصول؛ ذلك حين يتحدثون عن الأدلة ونقل الأخبار ومراتبها، وثبوت القراءات القرآنية المتواترة، والتفصيل في القراءة الشاذة، وذكرهم دليل السنة وتطرقهم لفصول حديثية دقيقة، وتفصيلات الروايات، وما يحتج به منها وما لا يحتج، وأحوال الرواة وسماعهم وأدائهم، فحين يتعرض الأصوليون لذلك تجد في صنيعهم أدق معايير التثبت والتبين؛ كل ذلك بلوغًا لحقائق العلم والوقوف على الثابت المستقر، وألَّا يُعزَى إلى الشريعة ما ليس منها.
الثامن: أن كثيرًا من الشبهات مبنية على المعاندة والمكابرة، فيكون قصد المتكلم بها الممانعة وركوب الخلاف منازعةً وإظهارًا للغلبة وليس قصدًا للصواب33، والمعاندة والمكابرة فوات عقليٌّ، وحاجز يحجب عن إصابة الحق وامتثاله؛ لذا قَلَّ أن يهتدي إلى طريق الحق من كانت هذه سبيله.
يقول ابن جزي: (الخصم إذا تبين عناده، سقطت مكالمته)34.
أما النظر الأصولي المستقيم، فيحمل لواء الانقياد للحق والاتباع للدليل؛ فهو يرمي إلى تحقيق ذلك وبذل الوسع في تحصيله، وصدق العزم على اتباع الصواب على كل حال، دون أن يكون في نفس الناظر شائبة هوى في غير الحق35.
التاسع: كثير من الشُّبَه قامت على الجرأة على الشريعة، وعدم التعظيم لنصوص الوحي.
أما علم أصول الفقه، فإن من قواعده الممهَّدة، وأُسُسِه الموطَّئة للتعامل مع الأدلة والنصوص، هي التعظيم والتوقير لشريعة الله ونصوصها، واعتقاد كمالها وعصمتها؛ وهذا فرع عن ذلك.
لذا قام النكير على الأقوال الشاذة والمتروكة المقولة جهلًا وسفهًا36؛ وذلك تعظيمًا للشريعة وألَّا يُنسَب لشرع الله ما ليس منه.
العاشر: جملة كبيرة من الشُّبَهِ منشؤها عدم التسليم لله، والتعالي على شريعته وأمره.
أما فطاحلة الأصول، فكانت قِبْلَتهم الأولى هي إصابة مراد الشارع وامتثاله؛ فإن من متين مباحث علم الأصول دلالات خطاب الشارع؛ ومن رؤوسها: مسائل الأمر والنهي ومراتبها؛ لامتثالها والعمل بموجبها؛ فإن (الغاية من النصوص هو العلم والعمل بها، فالاتباع الحقيقي للدليل الشرعي يكون باتباع مدلوله، والعمل بمعناه، وتطبيق مراد الله المستفاد من هذا النص؛ وهذا ما دعا العلماء والأصوليين إلى العناية بمباحث دلالة الألفاظ؛ لأنه بها يُعرَف مراد الله ومراد رسوله، وبها يتحقق مقصود الشارع من الأوامر والنواهي والأخبار، وهو الامتحان الحقيقي للإيمان، فالإيمان بالنص بلا معنًى لا يحمل في الحقيقة أي إيمان؛ لأن الابتلاء أن تؤمن به وبمعناه كما يريده الله، وأن تسعى لتحقيق المقصود منه بالائتمار به إن كان أمرًا، أو اجتنابه إن كان نهيًا، أو تصديقه إن كان خبرًا)37، وهذا من لازم التسليم لشرع الله؛ فإن (أكمل الناس تسليمًا أكملهم إيمانًا)38.
الحادي عشر: أن كثيرًا من الشبهات قائمة على الجهل والقول على الله بغير علم؛ قال الشيخ بكر أبو زيد واصفًا حالهم: (اندلعت قضية التعالم في الوجود، لا سيما في صفوف المسلمين، وهي رمز للعدول عن الصراط المستقيم، وأضواء التنزيل، ووسيلة القول على الله العزيز الحكيم، فتجسَّدت أمامنا أدلة مادية قامت في ساحة المعاصرة على ما ذر قرنه من الخَوضِ في الشريعة بالباطل، وما تُولَّد عنه من فتن تغلي مراجلها على أنقاض ظهور الركالة)39.
ومما عُلِمَ ضرورةً عند ذوي العقول أن تحدُّثَ المرء فيما لا يعرف ولا يُحسن: جهل مُغرِب وسَفَهٌ مطبِق.
لكن علماء الأصول حَمَوا حصن الشريعة بتقعيد علم أصول الفقه؛ فكشفوا به سبل الغاوين، ونقضوا طرق المبطلين، فلا يتقحَّم متقحِّم إلا بيَّنوا سبيله، ونقضوا حُجَّته40.
الثاني عشر: ترِد بعض الشبهات بسبب الخطأ في فهم الخطاب؛ فإن (معظم الأغاليط والاشتباهات ثارت من الشغف بإطلاق ألفاظ دون الوقوف على مداركها ومآخذها)41.
وأكثر آفات الناس من الألفاظ، ولا سيما في بعض المواضع التي يعز فيها تصور الحق على ما هو عليه والتعبير المطابق، فيتولد من ضعف التصور وقصور التعبير نوعُ تخبيطٍ، ويتزايد على ألسنة السامعين له وقلوبهم بحسب قصورهم وبعدهم عن العلم42.
يقول ابن حزم: (والأصل في كل بلاء وعَمَاء وتخليط وفساد: اختلاط الأسماء ووقوع اسم واحد على معانٍ كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني التي تحته؛ فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والإشكال، وهذا في الشريعة أضرُّ شيء وأشده هلاكًا لمن اعتقد الباطل إلا من وفَّقه الله تعالى)43.
ولما كان الحال كذلك، كان لعلم الأصول بكافة فصوله وأبوابه قَدَمُ السبق في ضبط أصول فهم الخطاب، وتحرير معاني النصوص وتفسيرها، وبيان مجملها وإيضاح مُشكِلها، وتحقيق المعنى المراد منها.
الثالث عشر: غلب على كثير من أصحاب الشُّبَهِ نزعة المعارضة للنصوص بحجة العقل وموجبه؛ وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات الصحيحة، وجدتَ من الجهليات الفاسدة44.
أما الأصوليون، فإنهم لم يغفُلوا منزلة العقل ويُهملوها؛ إذ هو أداة الفهم واستنباط المعاني، فأفردوا كتبًا لباب الاجتهاد، وبيَّنوا أثر العقل ومحله في ذلك؛ كنصب الأدلة، وإعمال الأقيسة، وتحقيق مناطات الأحكام الشرعية، ونحو ذلك45.
مع ذلك فقد جعلوا له حدًّا ومعيارًا ضابطًا؛ فلا يجاوز حدَّه، ولا يتعدى طَوره، فلا يستقل بتشريع أو ينفرد بنظر مُنْبَتٍّ عن أصول وقواعد الشريعة؛ لعدم اهتدائه إلى دقائق ذلك، وإدراك حقائقه تفصيلًا46.
الرابع عشر: اعتماد أصحاب الشُّبَهِ بتَّ النصوص بعضها عن بعض؛ وهذا يؤول إلى:
- التصديق ببعض النصوص دون بعض؛ فكانوا كأهل الكتاب الذين قال الله فيهم: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].
- واتباع المتشابه، فكانوا كالذين في قلوبهم زيغٌ؛ الذين قال الله فيهم: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7].
أما أهل الأصول، فإن منهجهم قائم على تأليف النصوص، ورد المتشابه إلى المحكَم، فتلقَّوا نصوص الوحي بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والباطل؛ حيث جعلوها عِضِين47، وأقروا بعضها، وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين48.
أثر المعرفة بمقاصد الشريعة في مواجهة الشبهات:
إذا استقرَّ عند المرء أن الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح للمكلَّفين، وأنها مشتملة على الخيرات والبركات، والعدل والإحسان، وأنها قد نَهَتْ عن كل ما ينافي ذلك ويضاده من الشرور والمفاسد، وأنها جاءت لتكون هدًى ونورًا ورحمةً للناس؛ إذا أحكم المسلم هذا الأصل على قدر رفيع، استيقن (حفظ الشريعة، وعصمتها عن التغيير والتبديل)49.
(فالمضطلع بأصولها، المستشعر أنها تنزيل من حكيم حميد، نزل بها الروح الأمين على قلب أكمل الخليقة لنجعلها نورًا نمشي به في الناس، يتجنب مصارع الضلال، ولا يُلِمُّ بشيء من التصورات الباطلة إلا نسف غبارها نسفًا، فيستبين سبيل الحق الذي لا غبار عليه)50، ويطرح كل مقالة فاسدة شبَّه بها المبطلون، حتى وإن عَرَضَتْ شُبهة لم يدرك جوابها تفصيلًا، فقد أدرك جوابها إجمالًا51.
الخلاصات والنتائج:
يمكن إجمال خلاصات ونتائج ما مضى قوله في أمور؛ منها:
- أن علم أصول الفقه من العلوم جليلة القدر، عظيمة الأثر، متعدية النفع.
- من المهم بيان آثار العلوم في بعض المسائل، وإعمالها في القضايا المعاصرة.
- من المهم إخراج بعض العلوم من ساحة النظرية إلى ساحة التطبيق؛ لتتجلى فائدتها، وتُجنى ثمرتها.
- أن جمهور مسائل الأصول تعزز الإيمان في قلب المرء ويطمئن لذلك؛ فيستقر لديه أن هذه الشريعة كاملة عظيمة، لم يألُ علماؤها جهدًا في القيام بحقها، وتأصيل القواعد التي تحمي سورها من الناكبين عن سواء الصراط.
- من أهم السبل للتعامل مع الشبهات ومواجهتها هي حسن التأصيل والتقرير المتين للحق.
- أن شريعة الله محفوظة من التغيير والتبديل، وإن طاشت إليها أيدي المبطلين.
- أن الله قد قيَّض لهذا الدين أفذاذًا، قاموا له بما استطاعوا؛ فنصروه ونزَّهوه عن تحريف الغالين، ودفعوا عنه تأويل الجاهلين والمبطلين.
- أن الدفاع عن شريعة الله حمل وأمانة؛ فيستدعي ذلك عُدَّة وبصيرة وجَلَدًا.
- أن الدفاع عن شريعة الله لا ينحصر في فئة خاصة من الناس، بل على كل من آتاه الله مَكِنةً وبصيرة أن يدرَأَ عنها لُوثات الباطل، وأوضار الضلال.
هذا، ونسأل الله أن يجعلنا من حُماة شريعته، وأنصار كلمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- التمهيد للإسنوي (43). ↩︎
- ينظر: الوجيز في أصول الفقه الإسلامي للزحيلي (1/ 35). ↩︎
- قواعد الأصول ومعاقد الفصول للقطيعي (48)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (1/ 44). ↩︎
- أصول الفقه لابن مفلح (1/ 15). ↩︎
- حقيقة القولين (103). ↩︎
- مدارج السالكين لابن القيم (1/ 65). ↩︎
- ينظر: الإبهاج في شرح المنهاج لعبدالكافي السبكي وولده عبدالوهاب (15). ↩︎
- الموافقات (2/ 93)، وانظر: الرسالة للشافعي (50)، والبرهان للجويني (1/ 169)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 468). ↩︎
- ينظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية (180)، ومجموع الفتاوى له (1/ 246)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 45). ↩︎
- ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام (2/ 337)، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/ 111). ↩︎
- نفائس الأصول (1/ 100). ↩︎
- الغياثي للجويني (334). ↩︎
- ينظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم (2/ 890)، ومفتاح دار السعادة له (1/ 394-396)، ومجموع الفوائد واقتناص الأوابد ضمن مجموع مؤلفات السعدي (21/ 224). ↩︎
- ينظر: فيض القدير للمناوي (4/ 185). ↩︎
- الردود لبكر أبو زيد (11). ↩︎
- درء تعارض العقل والنقل (1/ 357). ↩︎
- ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله للدكتور عياض السلمي (21، 22). ↩︎
- ينظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (3/ 310)، وشرح الأصبهانية له (60). ↩︎
- ينظر: المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها للدكتور عبدالله القرني (5-6). ↩︎
- ينظر: المنهج الدلالي الأصولي وأثره في حفظ الشريعة للدكتور محمد التركي (12). ↩︎
- ينظر: تعظيم النص الشرعي مكانته ومعالمه للدكتور حسن بخاري (85). ↩︎
- ينظر: نظرات في الإسلام للدكتور محمد عبدالله دراز (6-7)، ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للدكتور محمد الجيزاني (23)، ولمحات من محاسن الإسلام لمحمد العرفج (23). ↩︎
- ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله للدكتور عياض السلمي (20-21). ↩︎
- ينظر: ترياق للدكتور مطلق الجاسر (44). ↩︎
- الموافقات للشاطبي (5/ 221) ↩︎
- منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/ 302). ↩︎
- يقول الشيخ يوسف الغفيص في محاضرة له بعنوان تكوين الملكة الأصولية: (الشافعي خَشِيَ أن يقود الاستحسان إلى التحكم والتخرُّص في الشريعة، لا سيما وأن بعض الأحناف قالوا: إنه معنًى يقع في نفس المجتهد لا يمكنه الإفصاح عنه، وهم لا يقصدون أنه تقدير من عنده، وأنه تخرص وتحكم، وإنما قصدوا أن المعنى الذي نقل عن القياس الجلي: ليس مسمًّى بوجه معين، ومن الأوجه التي حملت الشافعي ألَّا يقبل دليل الاستحسان هو عدم انتظامه بقانون ومعيار واضح). ↩︎
- الاعتصام (3/ 67). ↩︎
- مذكرة في أصول الفقه (200)، وللاستزادة ينظر: الاستحسان ليعقوب الباحسين (14) وما بعدها. ↩︎
- ينظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للدكتور محمد الجيزاني (23). ↩︎
- ينظر: غاية الأماني في الرد على النبهاني للألوسي (1/ 91). ↩︎
- ينظر: الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان لمحمد الخضر حسين (6/ 5) ضمن موسوعة الأعمال الكاملة، وأصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله للدكتور عياض السلمي (21). ↩︎
- ينظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (232). ↩︎
- التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 261). ↩︎
- ينظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للمعلمي (2/ 395). ↩︎
- ينظر على سبيل المثال: المغني لابن قدامة (9/ 472)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 17)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 425) ↩︎
- التسليم للنص الشرعي والمعارضات الفكرية المعاصرة لفهد العجلان (68). ↩︎
- مدارج السالكين لابن القيم (2/ 438). ↩︎
- التعالم (24) ضمن المجموعة العلمية. ↩︎
- ينظر على سبيل المثال: رد الأصوليين على من أنكر الإجماع: في كتاب البرهان للجويني (1/ 675) وما بعدها، وقواطع الأدلة للسمعاني (1/ 462)، وروضة الناظر لابن قدامة (441).
ومن أنكر القياس: في كتاب شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 269)، وأضواء البيان للشنقيطي (4/ 812). ↩︎ - شفاء الغليل للغزالي (420). ↩︎
- ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (3/ 471). ↩︎
- الإحكام (8/ 101). ↩︎
- ينظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 169). ↩︎
- ينظر: التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه للدكتور عايض الشهراني (1/ 139). ↩︎
- ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 96). ↩︎
- قال الراغب الأصفهاني في المفردات (571) في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ [الحجر: 91]: (أي: مفرَّقًا). ↩︎
- ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/ 270)، وأعلام الموقعين لابن القيم (1/ 102). ↩︎
- الموافقات للشاطبي (2/ 93). ↩︎
- السعادة العظمى لمحمد الخضر حسين (24/ 56) ضمن موسوعة الأعمال الكاملة. ↩︎
- ينظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (10/ 129)، ومجموع الفوائد واقتناص الأوابد ضمن مجموع مؤلفات السعدي (21/ 227). ↩︎