لو سألتَ أتباعَ خُرافةِ التَّطوُّر: ما أوضحُ أمثلةِ التَّطوُّر عندكم؟ لقالوا لك: تطوُّر الحيتان يقولون: العظامُ الخلفيَّةُ في الحوت؛ ففي مؤخِّرة الحوت عَظْمَتان لا فائدة لهما، فواضحٌ أنَّهما بقايا عظام حوضٍ ورِجلين لحيوانٍ بريٍّ عاش قبل (52) مليون سنةً، ثم حصلت له طفَراتٌ عشوائيّةٌ وانتخابٌ طبيعيٌّ إلى أن تحوَّل إلى الحوت الذي نراه، وبقيت هاتان العظمتان شاهدتَيْن على الصُّدَفِيَّة واللاقَصديَّة، فلو كان اللهُ قد خَلَقَ الكائنات، فلماذا يضعُ في الحوت عظامًا بلا فائدةٍ؟! ولعلَّ أوَّل مَن وَصفَ هذه العِظام أنَّها بلا فائدةٍ كتاب (Biology by Curtis and Barnes) عام (1989) قائلًا أَنَّها: “useless vestiges” أي: (بقايا أثريّةٌ بلا فائدةٍ)، ثُمَّ تَبِعَهُ على وَصْفِ هذه العِظام أَنَّها (بقايا بلا فائدةٍ) معظمُ -إن لم يكن كُلُّ- كُتبِ عِلم الأحياء في الجامعات الغربيَّة، والمُعْتَمَدةِ كذلك في الجامعات العربيَّة، مثل كتاب (Glencoe Biology) وكتاب (Modern Biology) وكتاب (Biology By Raven and Johnson) وغيرُها، وغيرُها.
لا يكادُ يَخلو كتابُ علم أحياءٍ يدرُسُه طلاب الطِّب، والصيدلة، والتمريض، والأحياء، وطُلاَّبُ المدارس في البرنامج الدَّوليّ الـ آي جي “IG” والـ “SAT” سات، لا يكادُ يخلو مِن هذه الرُّسومات والعبارات المؤكِّدة على انعدام وظيفةِ هذه العِظام، وهذا كلُّه تحت عنوان: (أدلَّة التَّطوُّر).
ولا تكاد تستمِع لأحدِ عَرَّابي الخُرافة إلَّا ويَتكلُّم عن هذه العِظام -مُنتشيًا- كدليلٍ على التَّطوُّر، مثل (جيري كوين): [لدينا أعضاءٌ كثيرةٌ فاقدةٌ للوظيفة، والتي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال التطوُّر، وهذا أحدها، إذا نظرت إلى الهيكل العظميِّ للحوت في متحف التاريخ الطبيعيِّ، سترى عظمتيّ الأرجل هاتَيْن، لماذا هي موجودةٌ؟ لا يبدو أنَّ لها أيَّةَ وظيفةٍ] و(ريتشارد دوكنز): [الغريب أنَّك إذا نظرت بعمقٍ داخل الحوت، فستجد أعضاءً بلا فائدةِ، آثارًا لأرجلٍ خلفيَّةٍ، وهي عظامٌ صغيرةٌ تشكِّل بقايا أرجلٍ خلفيَّةٍ لأسلاف الحيتان، كانت تستخدمها للمشي].
ثمَّ ماذا حصل؟ عام (2014) نشَرتْ إحدى المجلات التَّطوُّريَِّة بل مجلَّةٌ تَسمَّت باسم الخرافة، وهي مجلّة إيفولوشن (Evolution) نشرت بحثًا بعنوان: (الانتخابُ الجنسيُّ يستهدف عظام الحوض لدى الدلافين والحيتان)، وفجأةً بعد هذا البحث امتلأت مواقع الأخبار بعناوينَ مثل: (تكاثُرُ الحيتان يعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على عظام الحوض).
معقولٌ؟! أيْ لها فائدةٌ؟ ليس فائدةً فقط، بل لا بُدَّ منها للتكاثر، ولولاها لما وُجِدت هذه الحيتان حتى قال هذا الموقع [USC New]: (دراسةٌ حديثةٌ قَلبَتْ مُعتقدًا تطوُّرِيًّا عريقًا رأسًا على عقِب، بإثباتها أنَّ عظام الحوض لها دورٌ مهمٌ في التَّزاوُج) وهذا موقع (Smithsonian) -المتعصِّب جدًّا للخُرافة- يُعَنْوِن: “الحيتان تستفيد مِن عظام حَوضِها”.
حسنًا ممتازٌ هل اعترفَتْ هذه المواقع إذَنْ بأنَّ هذا يُضعِف خُرافةَ التَّطوُّر، بعد انهيار دليلٍ كانوا يُعوِّلون عليه كثيرًا؟ لا، بلا شكٍّ! بل حَشَرَتْ كلماتٍ تطوُّريَّة: تطوُّريٌّ “evolutionary”، وتَطوَّر “evolved” في مَطْلع مقالاتِها، وعَزَتْ للتَّطوُّر الفضلَ في هذه العظام ووظيفتها.
ومع ذلك، نحبُّ أنَّ نقول لهذه المواقع الكثيرة الَّتي نشرَت الخبَ، فالورقةُ العِلميَّة لمجلَّة إيفولوشن (Evolution)، الّتي أثارت هذه الضَّجّة لم يكن موضوعُها إثباتَ أنَّ عظامَ الحوض أساسيَّةٌ في التَّزاوج، بَلْ هذه حقيقةٌ مسلَّمٌ بها معروفةٌ مُنذ القِدَم، كما يتَّضِحُ مِن مقدَّمات هذه الورقة.
مقدمة الورقة العلمية تَنُصُّ على أنَّ كثيرين توهَّموا أنَّ هذه العِظام بلا فائدةٍ، وأنَّ ذلك ليس صحيحًا؛ لأنَّها مُهِمةٌ للتَّزاوج وبدأوا يشرحون أهمِّيتها المعروفةَ -أصلًا- للتَّزاوُج، وأسماءَ أبحاثٍ علميَّةٍ، (11) بحثًا علميًّا تُفصِّل في هذه الأهميَّة، ووضع الباحثون رسمًا يبيِّن ارتباط هذه العظام بالأعضاء التّناسليَّة في الحيتان.
عام (2018) -أي قبل شهورٍ أو أسابيع من الآن فقط- أصدرت الطَّبعة الخامسة من كتاب (Essentials of Biology) مِن مطبوعات (ماك جرو هيلز) “McGraw-Hill’s” العالميَّة المعروفة، وللأمانة لم يُكرِّروا نَفس الكِذبة، كفى، فرائحتُها قد فاحَتْ، فماذا فعلوا؟ هل اعترف المؤلِّفون بأنَّ هذهِ العِظام أساسيَّةٌ لبقاءِ الحيتان، وتجدُ كتابَ الـ (2018) يكرَّرُ كِذبةً أُخرى عن البُرُوزات في مؤخِّرة الأَفاعي، فيدَّعي أنَّها بقايا تطوُّرِيَّةٌ بلا فائدةٍ، بقايا لأرجلِ كائنٍ رباعيِّ الأطراف تطوَّرَت عنه الأفاعي، نفسُ الكِذبة التي تُكرِّرها كتبٌ أخرى مُعتمدةٌ، مع أَنَّه مُكتَشَفٌ -أيضًا- منذ (40) عامًا على الأقلِّ، في أبحاثٍ عِلمِيَّةٍ منشورةٍ أنَّ هذه البُروزات: خطَّافاتٌ أو سبيرز “spurs” تساعدُ الأفاعي أثناء التَّزاوج وفي الصِّراع بين الذُّكور، وليست أَرجُلًا بلا فائدةٍ، كما يروِّج مُحتَقِرو عُقول النَّاس. ربَّما علينا أنْ ننتظرَ (130) سنةً أخرى؛ لتُخبِّئَ الكتب هذه الكِذبة، وتطوي صفحتَها، ريثما تكون قد اكتشفتْ كِذْباتٍ جديدةً تُبقي الخرافةَ معلَّقةً على جُسورها فلا تسقط، وهكذا يَبحثُ أتباعُ الخرافة عن أيِّ بروزٍ في أيِّ كائنٍ ليقولوا: “بقايا تطوُّرِيَّةٌ بلا فائدةٍ”.