شبهات فقهيةشبهات وردود

شبهات حول تعدد الزوجات في الإسلام

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

أثار أعداء الإسلام من المستشرقين وأذنابهم المستغربين شبهاتٍ كثيرةً ومتنوِّعة حول نظام تعدُّد الزَّوجات، وكان الغرض منها الطَّعن في الإسلام والنَّيْل منه والانتقاص من مكانته، على الرَّغم من اكتظاظ بلادهم باللُّقطاء والمشرَّدين، وانحلال أُسَرِهم وتفكُّكِها، وتمزُّقِ أعراضِ نسائهم؛ سرًّا وجهرًا.

ومع ذلك كلِّه يتبجَّحون – بلا حياء ولا خجل – بشنَّ حملاتهم المسعورة ضدَّ الإسلامِ والقرآنِ والنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بشأن إباحة تعدُّد الزَّوجات، واضعين الإسلامَ في قفص الاتِّهام، وأنَّ في نظام التعدُّد اضطهادًا للمرأة، وجعلها كالسِّلعة في يد الرِّجال يستغلُّونها في إرضاء شهواتهم ونزواتهم!

وكان الأَوْلى بالمسلمين عمومًا، وبمَنْ تابع هؤلاء المستشرقين وغيرهم على آرائهم خصوصًا؛ أنْ يَرْبَؤوا بالإسلام عن وضعه في موقف المُتَّهم، وأن يُوَجِّهوا التُّهم إلى تلك المجتمعات التي انحلَّت أخلاقُها وفسدت فطرتُها، فأصبحوا أشبه بالبهائم التي يأتي أحدُها الأُخرى دون ضابطٍ أو قيد.

ونحن، وإن كُنَّا سنورد بعض شبهاتهم ضدَّ الإسلام، فليس من قبيل المتَّهم المُدافع، وإنَّما من قبيل إيضاح الحقِّ وبيانِه لمَنْ يلتبس عليه الفهم. وسنورد هذه الشُّبهات مقرونةً بالرَّدِّ عليها؛ ليتَّضح الحقُّ، ويظهر الصُّبح جليًّا، ويندحر الباطل، ويعلم المنصفون أنَّ الإسلام لا يُشَرِّع أمرًا إلاَّ وفيه مصلحة ظاهرة للعيان، ومن أبرز هذه الشُّبه ما يلي:

الشُّبهة الأُولى: أنَّ إباحة التَّعدُّد مسايرة للرِّجال في شهواتهم الجنسيَّة!

ردُّها: هذا الكلام مُجانب للصَّواب، وللتَّحقيق العلمي، والواقعُ يشهد بخلافه؛ وذلك أنَّ نظام التعدُّد الإسلامي أخلاقيٌّ إنساني قبل أن يكون إشباعًا لرغبةٍ جنسيَّة، وهناك مصالح كبيرة – تعود على الفرد والمجتمع – من تشريع نظام تعدُّد الزَّوجات في الإسلام، ولا مجال للإسهاب فيها هنا1.

وقد شهد شاهد من القوم بما يؤيِّد ويؤكِّد على أنَّ نظام التَّعدُّد في الإسلام له ارتباط وثيق بالأخلاق الفاضلة؛ إذ يقول (غوستاف لوبون): «إنَّ مبدأ نظام تعدُّد الزَّوجات الشَّرقي نظام طيِّب، يرفع المستوى الأخلاقي في الأُمم التي تقول به، ويزيد الأُسرة ارتباطًا، ويمنح المرأة احترامًا وسعادة لا تراهما في أوروبا»2.

ولو كان الإسلام يبيح التَّعدُّد مسايرةً للرِّجال في شهواتهم الجنسيَّة كما يزعمون؛ فلماذا كان التعدُّد في المسلمين – وهو مشروع عندهم – أقلَّ منه في النَّصارى – وهو محرَّم عليهم؟ حيث «لاحَظَ جميع الرَّحَّالة الغربيين – ونخصُّ بالذِّكر منهم (جيرال دي نيرفال) و(الليدي مورجان) – أنَّ تعدُّد الزَّوجات عند المسلمين – وهم يعترفون بهذا المبدأ – أقلُّ انتشارًا منه عند المسيحيين الذين يزعمون أنَّهم يُحرِّمون الزَّواج بأكثر من واحدة»3.

ولو افترضنا – جدلًا – أنَّ تعدُّد الزَّوجات في الإسلام مسايرةٌ للرِّجال في شهواتهم الجنسيَّة – كما يزعمون – فأيُّ غضاضة في ذلك ما دام أنَّه بطريقٍ مهذَّب مشروع، يلتزم فيه الرَّجل بحقوق نسائه، ويعترف بنسب أولاده، وهؤلاء النِّسوة ربَّات بيوت معزَّزات مكرَّمات في حياةٍ آمنة مستقرَّة؟ أذلك خير له، ولها، ولأسرته، وللمجتمع؛ أم يسلك بشهوته طريقًا أخرى، فتضيع المرأة والولد وتُحطَّم الأسرة ويهلك المجتمع 4؟

تقول (أني بيزانت) زعيمة التيوصوفية العالمية في كتابها «الأديان المنتشرة في الهند»: «ولكن كيف يجوز أن يجرؤ الغربيُّون على الثَّورة ضدَّ تعدُّد الزَّوجات المحدود عند الشَّرقيين ما دام البِغاء شائعًا في بلادهم؟ ومَنْ يتأمَّل، فلا يجد وِحْدَة الزَّوجة محترمةً إلاَّ لدى نفر قليل من الرِّجال الطَّاهرين، فلا يصحَّ أنْ يُقال عن بيئةٍ: أهلها موحِّدون للزَّوجة، ما دام فيها إلى جانب الزَّوجة الشرعية خدينات من وراء ستار.

ومتى وَزَنَّا الأُمور بقسطاس العدل المستقيم؛ ظهر لنا أنَّ تعدُّد الزَّوجات الإسلامي الذي يحفظ ويحمي ويغذِّي ويكسو النِّساء؛ أرجح وزنًا من البغاء الغربي الذي يسمح بأن يتَّخذ الرَّجل امرأة لمحض إشباع شهواته، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها أوطاره»5. فكيف بعد ذلك يزعمون أنَّ الإسلام أباح التَّعدُّد مسايرة للرِّجال في شهواتهم الجنسيَّة؟

الشُّبهة الثانية: أنَّ التعدُّد إهدار لكرامة المرأة، وإجحاف بحقوقها؛ حيث يشاركها غيرها في زوجها!

ردُّها:إنَّ الإسلام دائمًا في تشريعاته يعمل على تحقيق عدَّة مصالح في وقتٍ واحد، فهو يدفع أشدَّ الأضرار المُحقَّقة الوقوع بأخفِّها وأقلِّها ضررًا، ويُوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فيعمل على تحقيق مصلحة الجماعة واضعًا من المعايير ما يحول دون وقوع ظلمٍ أو ضرر بمصلحة الفرد، وهذا واضح تمام الوضوح في قضيَّة التَّعدُّد، فلَوْ وازَنَّا بين الضَّرر الذي يلحق بالزَّوجة الأُولى من جرَّاء زواج زوجها بثانيةٍ أو ثالثة، وبين الأضرار المترتِّبة على زيادة أعداد النِّساء وعدم زواجهنَّ؛ لوجدنا أنَّ تلك الأضرار أحقُّ بأن تُدفع، ولو وقع بعض الضَّرر بالزَّوجة الأُولى، والعقل السَّليم والمنطق القويم يقضي بذلك، فما بالنا إذا كان الإسلام في دعوته إلى التَّعدُّد قد راعى مصلحة الزَّوجة الأُولى، فوضع الضَّوابط والشُّروط التي ترفع عنها الضَّرر، والتي يجب على الرَّجل إذا أقدم على التعدُّد أن يلتزم بها، وإلاَّ فهو مُعَرَّض لغضب الله سبحانه وتعالى، مُستحقٌّ لعقابه في الدُّنيا والآخرة.

وعلى هذا؛ فإنَّ إباحة تعدُّد الزَّوجات ليس فيه امتهان للمرأة أو إهدار لكرامتها؛ بل هو صيانة لها، بحيث تكون زوجةً فاضلة بدلًا من أن تكون خليلة خائنة، ويلتزم الرَّجل حقوقها بدلًا من أن تكون ضائعة مشرَّدة، يقول (لوي): «ليس نظام التَّعدُّد دليلًا على انحطاط المرأة أو على شعور الرَّجل بضعفها ومهانتها. ومن ناحيةٍ ثانية: لأَنْ تُشاركها زوجةٌ أو ثلاثٌ فقط أهون عليها من أن يشاركها بائعات الهوى كلُّهن فيه»6.

ومن ناحيةٍ ثالثة: لا ينطوي التَّعدُّد على ظلمٍ للزَّوجة؛ لأنَّ الإسلام حدَّه بشروط، وأحاطه بقيود من شأنها استئصال كلِّ معنًى للظُّلم فيه، وإنْ وقع ظلمٌ عليها فهو خطأ مَنْ يتعامل بالتَّشريع، وليس قصورًا في التَّشريع ذاته، وعلاجُه يكمن في إصلاح النُّفوس التي تُمارس التَّشريع لا بإلغائه. ومن ناحيةٍ رابعة: لا يصحُّ منع التَّعدُّد خشيةَ سوء معاملةٍ مُتوقَّع، وإذا حصل شيء من ذلك كان بمقدور الزَّوجة رفع الظُّلم والضَّرر عنها بطلب الطَّلاق من القاضي7.

ومن ناحيةٍ خامسة: أليست الزَّوجة الثَّانية امرأة هي الأُخرى؟ فأيُّ الحالين حينئذٍ تُهدر فيها كرامة إحداهما: أن تكون أيِّمًا لا زوج لها، مشرَّدة لا مأوى لها، أم أن تكون كلتاهما شريكتين في حياةٍ زوجية منتظمة، لكلِّ واحدةٍ حقوقها، وعلى كلِّ واحدةٍ واجباتها؟8.

«فيا ليت شعري كم جرَّت هذه الدَّعوى على النِّساء من الويلات، تُبقي الفتاةَ عانسًا في بيت أهلها حتى يذهب عمرها، ولو تقدَّم لخطبتها مَنْ هو مرضيُّ الدِّين والخُلُق وكامل الأخلاق والأوصاف، وليس له ذنب إلاَّ أنَّه عنده زوجة، وكم من امرأة رغبت عن الزَّواج بسبب هذه الدَّعوى، وذهبت تبحث عن الأخدان، فوقعت في جريمة الزِّنا، فجرَّت العار والخزي على نفسها في الدُّنيا والآخرة، وقد يعلق بها حَمْل فتلد ولدًا ليس له أب يعيش مشرَّدًا في المجتمع، أو تعلق بها الأمراض التي يتعثَّر أو يتعذَّر علاجها، فتنقلها إلى المجتمع، فلو سَلِمَ النِّساء من هذه الدَّعوى الظَّالمة لتزوَّجن زواجًا شرعيًا، وعِشْنَ في كنف أزواجٍ يقومون عليهنَّ، ويحقِّقون ما تريده المرأة من حقوقٍ وواجبات»9.

الشُّبهة الثَّالثة: أنَّ التَّعدُّد فيه اعتداء على مبدأ المساواة بين الجنسين، فَأُعْطِيَ الرَّجلُ هذا الحقَّ، وحُرِمت المرأة منه!

ردُّها: لطالما تُنادي الحركات النِّسوية بإلغاء نظام تعدُّد الزَّوجات – صراحةً أو تلميحًا – بحجَّة أنَّ التَّعدُّد فيه اعتداء على مبدأ المساواة بين الجنسين، فينبغي أن يُمنع كلُّ ما فيه مسٌّ بكرامة المرأة وتكريس للتَّمييز بين الجنسين، وفي ذلك تقول (إحدى نساء الحداثة في المغرب)، وهي فاطمة المرنيسي: «يسود الاعتقاد – مبدئيًّا حسب تأويل الفقهاء – أنَّ للرِّجال والنِّساء ميولات غريزيَّة متشابهة؛ غير أنَّ للرِّجال الحقَّ في أربع شريكات لإرضاء هذه الميولات، في حين أنَّ على المرأة الاكتفاء برجلٍ واحد في أفضل الأحوال، وأحيانًا بأقلَّ من ربع رجلٍ. ويمكن أن نتساءل عمَّا إذا كان الخوف من الوضعيَّة المعاكسة – امرأة بأربعة أزواج – هو أساس الافتراض الذي توصف المرأة بموجبه بالنَّهم الجنسي والذي يُشكِّل محور البنية العائليَّة»10.

وربَّما يُلقي الشَّيطان في روع كثير من النِّساء هذه الشُّبهة، من باب المساواة والعدل بين الجنسين، وهي شبهة خطيرة يُشَمُّ منها رائحة الاعتراض على شرع الله تعالى وقَدَرِه، وأظنُّ أن كثيرًا من النِّساء تتساءل في نفسها: لماذا لا يُبيح الإسلام للمرأة تعدُّد الأزواج؟

وقد حصل أنْ وجَّهت إحدى طالبات الجامعة سؤالًا للدكتور مصطفى السِّباعي رحمه الله؛ إبَّان حديثه لطلابه عن موضوع تعدُّد الزَّوجات، قالت: «إذا كانت المبرِّرات التي ذكرتموها تبيح تعدُّد الزَّوجات، فلماذا لا يُباح تعدُّد الأزواج عند وجود المبرِّرات نفسِها بالنِّسبة إلى المرأة؟

وكان جوابي فيه شيء من التَّلميح فهمته تلك الفتاة، وتفهمه أمثالها من النِّساء، وهو أنَّ المساواة بين الرَّجل والمرأة في أمر التَّعدُّد مُستحيلةٌ طبيعةً وخِلْقَة؛ ذلك لأنَّ المرأة في طبيعتها لا تحمل إلاَّ في وقتٍ واحد، مرَّة واحدة في السَّنة كلِّها. أمَّا الرَّجل، فغير ذلك، فمن الممكن أن يكون له أولاد متعدِّدون من نساءٍ متعدِّدات، ولكن المرأة لا يمكنها إلاَّ أن يكون لها مولود واحد من رجلٍ واحد. فتعدُّد الأزواج بالنِّسبة إلى المرأة يُضَيِّع نسبة ولدها إلى شخص معيَّن، وليس الأمر كذلك بالنِّسبة إلى الرَّجل في تعدُّد زوجاته.

وشيء آخر: وهو أنَّ للرَّجل رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالَم، فإذا أبحنا للزَّوجة تعدُّد الأزواج، فلمَنْ تكون رئاسة الأسرة؟ أتكون بالتَّناوب؟ أم للأكبر سنًّا؟ ثم إنَّ الزَّوجة لمَنْ تخضع؟ أتخضع لهم جميعًا، وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم؟ أم تخصُّ واحدًا دون الآخرين، وهذا ما يُسخطهم جميعًا. إنَّ السُّؤال فيه من الطَّرافة أكثر ممَّا فيه من الجِدِّية!»11.

«فتعدُّد الأزواج بالنِّسبة للمرأة مُستقبح عقلًا، وحرام شرعًا، ومستحيل طبيعةً وواقعًا، فلا يقول به إلاَّ مَنْ كان إباحيَّ النَّزعة، مدنَّسَ السُّمْعَة، فاسدَ الخُلُق، عديمَ الغَيرة، مُلوَّث الشَّرف»12.

الشُّبهة الرابعة: أنَّ التعدُّد سبب للنِّزاع الدَّائم بين أفراد الأسرة، ويؤدِّي إلى تشرُّد الأولاد!

ونجد ذلك مبثوثًا في توصيات الجمعيات النِّسوية المعنيَّة بحقوق المرأة، وحقوق الإنسان، فها هي جمعية (اتِّحاد العمل النِّسائي بالمغرب)، وكذلك (الرابطة الدِّيمقراطية لحقوق المرأة بالمغرب)؛ تبثَّان عريضةً تُطالبان فيها بحقوق المرأة المسلوبة كما يزعمون، وممّا جاء في البند السَّادس من العريضة – في شكل نصيحة موجَّهة إلى الأُم: «لا تقبلي أن تكون لابنتك ضرَّة، فزواج الضرَّات يُسبِّب مشاكلَ عائليَّة، وعدم استقرار الأسرة، وضياع حقوق الأبناء… وإن الزَّواج بواحدة هو زواج المودَّة والرَّحمة!»13.

وتسوِّغ الحركة النِّسوية الحداثيَّة مطلبها بمنع التعدُّد بحجَّة: أنَّ له آثارًا سلبيَّة على المرأة وعلى الأطفال بحرمانهم من حياة مستقرَّة وأُخوَّةٍ متراحمة، ومن أجل ذلك يطالبون صراحةً بإلغاء نظام التعدُّد في قولهم: «إنه يجب إلغاء تعدُّد الزَّوجات؛ لأنَّ هذا لا يُنقذ المرأة فقط، ولكن أيضًا مستقبل الأطفال؛ لأنَّ رجلًا يلد أطفالًا هنا وهناك ويتركهم؛ سيصبح المشكل مشكل مجتمع بكامله، ويجب أن يُطبَّق القانون بصرامة في كلِّ لحظةٍ أخطأَ أو ظلمَ فيها رجل، ونعرف كم هم ظالمون الرِّجال في مجتمعنا!»14.

ردُّ الشُّبهة: ليس من الإنصاف، بل ليس من العقل؛ أن نحكم بإبطال حُكْمٍ شرعي – كتعدُّد الزَّوجات – بمجرَّد الوهم، ثم إنَّ التَّنافس بين بني الإنسان أمر طبيعي في بني آدم وبنات حواء، حتى الإخوة الأشقَّاء قد يحصل خلافٌ بينهم لأبسط الأُمور.

وما من مجتمعٍ – صغيرًا كان أو كبيرًا – إلاَّ وهو عرضة للنِّزاع، وما من أسـرة تجمـع أفرادًا إلاَّ ويدبُّ فيها الخلاف بين حينٍ وآخر، فإن لم يكن بين الإخوة والأخوات، فبين الزَّوج وزوجته، أو بين الزَّوج وأحمائه، أو بين الزَّوجة وأحمائها، إذًا فالنِّزاع متوقَّع سواء توحَّدت الزَّوجة أم تعدَّدت.

وربَّما تعيش الضرَّتان أو الضَّرائر تحت سقفٍ واحد في مودَّة وانسجام، ولا تكاد تُفرِّق بين الشَّقيق من أولادهنَّ وغير الشَّقيق؛ لِمَا ترى من مظاهر الحبِّ أو التآلف بينهم جميعًا، بينما بجوارهم – في نفس الدَّار – شقيقان أو شقيقتان أو أشِقَّاء في شجارٍ دائم، أو خلاف بنت مع أُمِّها أو ولدٍ مع أبيه، وهكذا 15.

ولا يمكن لعاقلٍ أو منصفٍ أن يُصدِّق بأنَّ التعدُّد يُفضي إلى تشرُّد الأبناء؛ وذلك لأسبابٍ أربعة:

  1.  أنَّ السَّلف الصالح قد عَدَّدوا بصورة واسعة ولم تُعرف عنهم ظاهرة تأذِّي الزَّوجة بزواج الرَّجل من أُخرى، أو ظاهرة تشرُّد الأبناء وضياعهم، وإنَّما عُرِفت هذه الرُّوح – في عصرنا – بعد أن ضَعُفت العقيدة في النُّفوس، وانعدمت التربية الإسلاميَّة، وانحرفت التصوُّرات الإسلاميَّة الصَّحيحة عن مسارها، وفي مقابل ذلك انتشر الجهل بأحكام الإسلام وتعاليمه وآدابه.
  2.  من المعلوم – بداهةً – أنَّ ظاهرة التَّشرُّد في الأولاد تعود إلى عوامل طبيعيَّة لا علاقة لها بالتَّعدُّد؛ كالخلاف بين الأبوين، أو الانحراف الأخلاقي أو السُّلوكي، فلا يصحُّ جَعْلُه دليلًا لإبطال حُكْمٍ شرعيٍّ ثابت.
  3.  أنَّ التَّحلِّي بالأخلاق الفاضلة، والتَّخلُّق بروح الإسلام، والاحتكام إلى الكتاب والسُّنَّة جدير بالقضاء على هذه الأوهام والوساوس والشُّبهات التي يروِّجها أعداء الإسلام، وأعداء المرأة، ومَنْ قلَّدهم في ذلك 16.
  4.  أمَّا مُطالبتهم منع التعدُّد بدعوى ما ينشأ بين الإخوة غير الأشقَّاء من مشاكل واضطرابات في العلاقات القائمة بينهم، فهذا يدفعنا إلى ردِّ التساؤل بتساؤلٍ آخر: هل إذا مات عن المرأة زوجُها أو طلَّقها وقد أنجبت منه أولادًا، هل تُمنع هي الأُخرى من الزَّواج برجلٍ آخر، بحجَّة ما قد ينشأ بين أولادها من زوجها السَّالف، وبين أولادها من زوجها في المستقبل من مشاكل؟ إنَّ هذا المنطق منطق أعوج غير مستقيم، حيث نمنع خيرًا محقَّقًا، بسبب خوفٍ من أوهامٍ صاغتها عقولهم السَّاذجة، وصدَّقتها ضمائرهم المزيَّفة.

«ولا شكَّ أنَّ أكثر ما يقع من مشاكل سببه عدم الاسترشاد بمبادئ الشَّريعة الإسلامية في العمل بتعدُّد الزَّوجات، واحتكام النَّاس في ذلك إلى أهوائهم، فنشأ التَّباغض بين الزَّوجات، والتَّنافر بين الأبناء، والاضطراب في البيت كلِّه.

ولم يكن مطلب الحركة النِّسوية بمنع تعدُّد الزَّوجات ينبني على آثاره السَّلبية المذكورة؛ وإنَّما ينبني على أنَّ في تشريعه إذلالًا للمرأة، ولو كانت الحركة تتقيَّد بالنَّهج الدِّيمقراطي – الذي تتشدَّق به وتجعله مُنطلقًا لها – لأعارت اهتمامًا لرأي النِّساء اللاَّتي لم يُكتب لهنَّ الزَّواج في مسألة التَّعدُّد؛ ولنفَّذت استبيانًا تسألهنَّ فيه: هل يقبلن الزَّواج برجلٍ متزوِّج؟ أم يُفَضِّلْن البقاءَ «عانسات» في بيوت آبائهنَّ يأكلن شبابهن ويفنين أعمارهن؟ لا شكَّ أن أكثر مَنْ يتحرَّج من التَّعدُّد في واقعنا من النِّساء هنَّ المتزوِّجات؛ يخشين أن يشاركهنَّ نساء أُخريات أزواجهنَّ. وأمَّا غير المتزوِّجات العفيفات، فلا يرين حرجًا في ذلك»17.

الشُّبهة الخامسة: أنَّ التَّعدُّد يُفضي إلى الفقر والبطالة؛ نظرًا لكثرة الأولاد!

ردُّها: التَّعدُّد ليس سببًا للفقر؛ ذلك أنَّ العنصر البشري دعامة رئيسة للقوَّة الاقتصاديَّة، وفي الوقت الذي نجد فيه أعداءَ التعدُّد يدعون إلى منعه؛ نجدهم ينادون بخروج المرأة إلى العمل لتعويض النَّقص في الأيدي العاملة، وللمساهمة في التنمية الشاملة في المجتمع!

وهذه أوروبا لم تتقدَّم صناعيًا واقتصاديًا إلاَّ بفضل كثرة عددها واتِّحادها، وهذه الصِّين يرهبها العالَمُ كلُّه؛ لكثرة عددها، والأمر ذاتُه ينطبق اليوم على الهند التي ناهزت تعداد الصِّين، وهل تأخَّرت بعض البلاد إلاَّ لقلَّة عدد سكَّانها؟ ثم أيُّهما أَوْلى، كَثْرة النَّسل مع الصِّيانة في البيت، والرِّعاية في الأسرة؟ أم كثرة اللُّقطاء في الشوارع، وإيداعهم دور الحضانة والملاجئ؟

والتعدُّد لا يفضي إلى تشرُّد الأبناء؛ لأنَّ الواقع المعاصر يؤكِّد أنه غالبًا ما ينتشر في الأوساط الرِّيفية الفقيرة، والتي تحتاج إلى كثرة الأبناء للمساعدة في كسب رزق الأسرة، ورغم قلَّة التعدُّد في البيئات المتحضِّرة المُترفة إلاَّ أنَّ ظاهرة تشرُّد الأبناء في المدن ظاهرة للعيان، وتعود إلى عوامل اجتماعيَّة لا علاقة لها بالتعدُّد، مثل الخلافات الزَّوجية، وضعف الروابط العائلية، وعدم رسوخ القواعد الدِّينية في الحفاظ على وحدة الأسرة18.

والأُمَّة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى العنصر البشري؛ لأنَّها أُمَّة الجهاد، ولا سيَّما بعد الهجمات الصَّهيونية المتتابعة على أُمَّتنا مستهدفةً تاريخها ووجودها، وعزَّتها وكرامتها، وشخصيَّتها المستقلَّة 19.

الشُّبهة السَّادسة: أنَّ نظام التعدُّد مظهر من مظاهر تخلُّف الإسلام، ولا يليق بروح العصر الحديث الذي أعطى المرأةَ حقوقَها!

ردُّها: هذا ادِّعاء كثيرًا ما تبنَّته الحركة النِّسوية بحجَّة «أنَّ العمل بتعدُّد الزَّوجات يعود إلى ما قبل انخراط المرأة في الحياة العامَّة. أما وقد تحرَّرت من وضعها العام السابق، وأصبحت قادرةً – بفضل ثقافتها – على مناهضة الحَيْف الممارَس عليها، فينبغي أن يُمنع كلُّ ما فيه من مسٍّ بكرامتها وتكريسٍ للتَّمييز بين الجنسين»20.

وكيف يكون نظام التعدُّد مظهرًا من مظاهر تخلُّف الإسلام، أو لا يليق بروح العصر الحديث، وقد ظهر بصورة واضحة في الشُّعوب المتقدِّمة حضاريًّا، على حين أنَّه قليل الانتشار أو منعدم في الشُّعوب البدائية المتأخرة، كما أجمع على ذلك علماءُ الاجتماع، ومؤرِّخو الحضارات، وعلى رأسهم: (وستر مارك، وهوبهوس، وهيلير، وجنربرج)21.

بل يرى كثير منهم أنَّ نظام التعدُّد سيتَّسع نطاقه، ويكثر عدد الشُّعوب الآخذة به، كلَّما تقدَّمت المدنيَّة واتَّسع نطاق الحضارة؛ فليس صحيحًا الزَّعم بأنَّ نظام تعدُّد الزوجات مرتبط بتأخُّر الحضارة، بل عكس ذلك تمامًا ما نراه جليًا على أرضِ الواقع22.

«فتعدُّد الزَّوجات المُقنَّن وفقًا لتشريعاتٍ عادلة وحكيمة – كما هو في النظام الإسلامي – مظهر للسُّموِّ الحضاري، وبالمقارنة بتعدُّد العشيقات، والفوضى الجنسية المعروفة في الأنظمة الرَّأسمالية، وبفكرة الشيوعية الجنسيَّة التي نادت بها الأنظمة الاشتراكية ضمن حتميَّة الشّيوعية الثَّانية المزعومة، فإنَّ تعدُّد الزوجات بالطريقة الشرعية الإسلامية هو الأرقى، بلا منازع»23.

الخلاصة:

إنَّ هؤلاء النَّاحبين على حرمان المرأة المسلمة من كلِّ حقوقها، هم الذين سلبوا المرأة كلَّ الحقوق، وأيُّ حقٍّ أعظم من حقِّها في تكوين الأسرة واحتضان الأطفال؟ هذا الحقُّ الطَّبيعي الذي فُطرت عليه. نعم، لقد أوجد الإسلام الحلَّ عن طريق تعدُّد الزَّوجات بالشُّروط التي وضَعَها، والتي تكفل للمرأة حقوقها، فهل أوجدوا هم البديل؟

وإذا ما أردنا أن نسير وراء ذوق الأوروبيين، فإنَّ بعض قوانينهم تُبيح تبادل الزَّوجات24! فأين هم النَّاحبون، وأين هم المطالبون بحقوق المرأة المسلمة؟ الأجدر بهم أن يسعوا لإنقاذ المرأة الغربيَّة من الأوحال التي تمرَّغت بها، وأن يفتِّشوا لها عن بيتٍ زوجيٍّ وأسرة وأطفال، بدل التنقُّل كلَّ يوم وليلةٍ بين الأَسِرَّة 25!

  1. انظر: “المصالح المترتبة على التعدد” في كتاب: التمايز العادل بين الرجل والمرأة في الإسلام (ص669-682). ↩︎
  2. حضارة العرب (ص279). ↩︎
  3. لمرأة بين الفقه والقانون (ص177). ↩︎
  4. انظر: دحض الشبهات الواردة على تعدد الزوجات في الإسلام (ص314-315). ↩︎
  5. المصدر السابق (ص181). ↩︎
  6. تعدد الزوجات، لعطية محمد سالم (ص94)، ضمن سلسلة محاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة. ↩︎
  7. انظر: أحكام الأحوال الشخصية، لحسن خالد (ص42)؛ تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة عن المرأة من وجهة نظر إسلامية (ص45). ↩︎
  8. انظر: دحض الشبهات الواردة على تعدد الزوجات في الإسلام (ص317). ↩︎
  9. إتحاف الخلان بحقوق الزوجين في الإسلام (ص331-332). ↩︎
  10. الجنس كهندسة اجتماعية، لفاطمة المرنيسي (ص34). ↩︎
  11. لمرأة بين الفقه والقانون (ص73-74). ↩︎
  12. تعدد الزوجات في الإسلام (ص30). ↩︎
  13. مشروع الحركة النسوية اليسارية في المغرب (ص52). ↩︎
  14. صحيفة (8) مارس المغربية، حوار مع الطاهر بن جلون، عدد (17)، أبريل (1985م). ↩︎
  15. انظر: دحض الشبهات الواردة على تعدد الزوجات في الإسلام (ص320). ↩︎
  16. انظر: نظام الأسرة في الإسلام، لمحمد عقله (1/257)؛ المرأة بين الفقه والقانون (ص90)؛ إتحاف الخلان بحقوق الزوجين في الإسلام (ص328-330). ↩︎
  17. مشروع الحركة النسوية اليسارية في المغرب (ص55-56). ↩︎
  18. انظر: تعدد الزوجات، لعطية محمد سالم (ص67)؛ تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة عن المرأة من وجهة نظر إسلامية (ص47). ↩︎
  19. انظر: الإسلام عقيدة وشريعة (ص209)؛ أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية (ص43). ↩︎
  20. مشروع الحركة النسوية اليسارية في المغرب (ص52-53). ↩︎
  21. نظر: حقوق الإنسان, د. علي عبد الواحد وافي (ص123). ↩︎
  22. انظر: حقوق الإنسان (ص123)؛ دحض الشبهات الواردة على تعدد الزوجات في الإسلام (ص323). ↩︎
  23. تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة عن المرأة من وجهة نظر إسلامية (ص42). ↩︎
  24. انظر: المرأة في الإسلام، لعبد الله شحاته (ص142). ↩︎
  25. انظر: المصدر السابق (ص36). ↩︎
المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى