شبهات حول القرآن الكريم ( كما وردت في مناهل العرفان )
نزول القرآن:
الشبهة الأولى:
إن ما تسمونه معجزات من العلوم والمعارف التي اشتمل على مثلها القرآن ما هي إلا آثار لمواهب بعض النابغين من الناس وهذه المواهب وآثارها وجدت ويمكن أن توجد في كل أمة.
الجواب:
أن مواهب النابغين ونبوغ الموهوبين له وسائل وعوامل وله أشباه معتادة ونظائر في كل أمة وجيل وفي كل عصر ومصر أما المعجزات فلن تجد لها من وسائل ولا عوامل ولن تستطيع أن تصل إلى أشباه معتادة لها ونظائر إلا إذا خرجنا عن نطاق الكون المعروف.
الشبهة الثانية:
لو كان الوحي ممكنًا لأوحى الله إلى أفراد البشر عامة ولم يختص به شرذمة قليلين يجعلهم واسطة بينه وبين خلقه.
الجواب:
أن عامة البشر ليس لديهم استعداد لتلقي الوحي عن الله لا مباشرة ولا بواسطة الملك لأنهم لن يستطيعوا رؤيته إلا إذا ظهر في صورة إنسان فقضت الحكمة أن يجعل الله من بني الإنسان طائفة لها استعداد خاص يؤهلها لأن تتلقى عن الله الوحي. وسلحهم بالآيات التي تطمئن الناس على أنهم رسل. واختصاص بعض الناس بالوحي والنبوة فيه نوع من الاختبار والابتلاء.
الشبهة الثالثة:
أن هذا الوحي الذي تدّعونه وتدّعون تنجيمه جاء بهذا القرآن غير مرتب ولا منظم فلم يفرد كل غرض من أغراضه بفصل أو باب. شأن سائر الكتب المنظمة، بل مزجت أغراضه مزجًا غير مراعى فيه نظام التأليف فيبعد أن يكون وحيًا من الله.
الجواب:
أن مخالفة القرآن لأنظمة الكتب المؤلفة لا تعتبر عيبًا فيه ولا في وحيه وموحيه، بل هي على العكس دليل مادي على أنه ليس بكتاب وضعي بشري جعل واضعه لكل طائفة من معلوماته المتناسبة فصلًا ولكل مجموعة من فصوله المتناسقة بابًا، بل هو مجموع إشراقات من الوحي الإلهي اقتضتها الحكمة ودعت إليها المصلحة، ثم إن هذا المزيج الطريف في كل سورة أو طائفة له أثر بالغ في التذاذ قارئه وتشويق سامعه واستفادة المستفيد بأنواع متنوعة منه وهذا هو الأسلوب الحكيم في التعليم والإرشاد.
ثم إن القرآن الكريم يقوم بين جمله وآيه وسوره تناسب بارع وارتباط محكم وائتلاف بديع ينتهي إلى حد الإعجاز خصوصًا مع نزوله منجمًا على السنين والشهور والأيام.
الشبهة الرابعة:
يقولون إن محمدًا كان عصبيًّا حاد المزاج وكان مريضًا بما يسمونه (الهيستريا) فالوحي الذي كان يزعمه ما هو إلا أعراض لتلك الحال التي أصيب بها.
الجواب:
أن هذه فرية تدل على جهلهم الفاضح بمحمد – صلى الله عليه وسلم – فالمعروف عنه بشهادة التاريخ الصحيح والأدلة القاطعة أنه كان وديعًا صبورًا حليمًا، شجاعًا مقدامًا، سليم الجسم صحيح البدن.
أما مرض (الهستيريا) الذي يقولون عنه فهو داء عصبي عضال أكثر إصاباته في النساء، وأعراضه معروفة، فهل يتفق هذا المرض مع ما هو معروف عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقيادته لأمة أصبحت بعد قرن واحد من الزمان أمة الأمم وصاحبة العلم وربة السيف والقلم.
الشبهة الخامسة:
يقولون إنكم تستدلون على الوحي بإعجاز القرآن وتستدلون على إعجاز القرآن بما فيه من أسرار البلاغة ونحن لا ندرك تلك الأسرار ولا نسلمها فلا نسلم الوحي المبني عليها.
الجواب:
إن للقرآن نواحي أخرى في الإعجاز غير ما يحويه من أسرار البلاغة والبيان، منها ما يحويه من المعارف السامية والتعاليم العالية في العقائد والعبادات والتشريعات المدنية والجنائية والحربية والمالية،… وغيرها، وإذا ما قارنت بينها وبين ما يوجد على وجه الأرض من سائر التشريعات توضح ذلك الإعجاز الباهر وخصوصًا أنها جاءت من رجل أمي نشأ وعاش وشب وشاب وحي ومات بين أمة أمية كانت لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان. كذلك أنباء الغيب التي تحدث بها القرآن من الفتوحات والانتصارات التي بشر بها المسلمون وقد تحققت كلها، وكذلك تحديه اليهود بأن يتمنوا الموت وهو أمر خاص بهم. ومع ذلك لم يستطيعوا.. كل ذلك يدل على إعجازه.
الشبهة السادسة:
يقولون إن إعجاز القرآن للعرب لا يدل على أن القرآن كلام الله بل هو كلام محمد نسبه إلى ربه ليستمد قدسيته من هذه النسبة وإعجازه جاء من ناحية أن محمدًا كان الفرد الكامل في بيانه بين قومه لذلك جاء قرآنه الفرد الكامل أيضًا بين ما جاء به قومه ولم يستطيعوا لهذا الاعتبار وحده أن يأتوا بمثله شأن الرجل الفذ بين أقرانه في كل عصر.
الجواب:
- أن كل من أوتي حظًا من حسن البيان وذوق البلاغة يفرق بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي، ولو كان لهذه الشبهة شيء من الوجاهة لكان أولئك العرب الخلص أولى بأن يرفعوا أصواتهم بها.
- أن القرآن الكريم تحدى العرب من الناحية التي نبغوا فيها وهي صناعة الكلام ولو كان كلام محمد لأمكن العرب البارزين في البيان أن يعرفوا أنه كلامه بما أوتوا من ملكة النقد. خاصة وأن القرآن اكتفى منهم في معرض التحدي أن يأتوا بسورة من مثل أقصر سوره.
- أن القرآن لو كان مصدره نفس محمد لكان من الفخر له أن ينسبه إلى نفسه ولأمكن أن يدعي به الألوهية فضلًا عن النبوة. ولكان مقدسًا في نظر الناس وهو إله أكثر من قداسته في نظرهم وهو نبي ولما كان في حاجة إلى أن يلتمس هذه القدسية الكاذبة بنسبته القرآن إلى غيره.
- لقد غاب عنهم أنهم يتحدثون عن أكرم شخصية عرفها التاريخ طهرًا ونبلًا وكان إذا مر بقومه يشيرون إليه بالبنان ويقولون هذا هو الصادق الأمين والعقل المنصف يقول: ما كان هذا الأمين الصدوق ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله.
- إن هذه الشبهة وليدة الغفلة عن مضامين القرآن العلمية وأنبائه الغيبية وهداياته الخارجة عن أفق العادة في كافة النواحي البشرية، لا سيما أن الآتي بهذا القرآن رجل أمي في أمة أمية، كانت في أظلم عهود الجاهلية.
ذيل لهذه الشبهة:
قالوا إن هذا البعد الشاسع بين القرآن والحديث لم يأت من ناحية أن القرآن كلام الله والحديث كلام محمد، إنما جاء من ناحية أن محمدًا كان له ضربان من الكلام، أحدهما يحتفل به كل احتفال ويعنى مزيد العناية بتهذيبه وتنميقه وتحضيره وذلك هو ما سماه بالقرآن ونسبه إلى الله.
وثانيهما: يرسله إرسالًا غير معنى بتحبيره وتحريره وهو المسمى بالحديث النبوي وقالوا لترويج شبهتهم أن ذلك ليس بدعًا فيما نرى من آثار الأدباء والبلغاء بل إن الأديب الواحد يعلو كلامه الصادر عن تأمل وعناية وروية علوًا كبيرًا عن كلامه المرسل على البديهة.
الجواب:
- شتان بين أدباء العصر الذي نزل فيه القرآن وسلمت فيه السليقة العربية وبين أدباء العصر المولدين الذين فسدت لغتهم.
- إن هذه الشبهة تخالف في أساسها ما هو واقع معروف، ذلك أن القرآن الكريم منه ما نزل مفاجأة على غير انتظار وتفكير وبدون تلبث وتدبير وهو أكثره، ومنه ما نزل بعد شوف واستشراف وطول انتظار وهو أقله. ومع هذا فأسلوبه الأعلى هو أسلوبه الأعلى ونظمه المعجز هو نظمه المعجز في الحالين على سواء والذي يقال في القرآن يقال في الحديث النبوي فمنه ما كان وليد التفكير والتدبير ومنه ما كان وحي الساعة وإرسال البديهة.
إذن هما نظمان متمايزان لا يشبهان نمط القرآن كله ونمط الحديث كله لكل منهما مسحة وبيان ودرجة في الفوق والسبق.
أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن:
الشبهة:
قالوا: لماذا لا تكون آية المائدة آخر ما نزل من القرآن؟ وهي قوله سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، مع أنها صريحة في أنها إعلام بإكمال الله لدينه في ذلك اليوم المشهود الذي نزلت فيه وهو يوم عرفة في حجة الوداع بالسنة العاشرة من الهجرة. والظاهر أن إكمال دينه لا يكون إلا بإكمال نزول القرآن وإتمام جميع الفرائض والأحكام.
الجواب:
إن هناك قرينة تمنعنا من هذا الفهم وهي أن هناك قرآنًا نزل بعد الآية السابقة حتى بأكثر من شهرين وأن النبي عاش بعدها تسع ليال فقط. وقيل الأقرب أن يكون معنى إكمال الدين هو إنجاحه وإقراره على الدين كله ولو كره الكافرون.
نزول القرآن على سبعة أحرف:
الشبهة الأولى:
يقولون إن أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف تثبت الاختلاف في القرآن مع أن القرآن نفسه يرفع الاختلاف عن نفسه إذ يقول: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وذلك تناقض ولا ندري أيهما يكون الصادق.
الجواب:
إن الاختلاف الذي تثبته تلك الأحاديث غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن، فالأحاديث الشريفة تثبت الاختلاف بمعنى التنويع في طرق أداء القرآن والنطق بألفاظه في دائرة محدودة لا تعدو سبعة أحرف وبشرط التلقي فيها كلها عن النبي.
أما القرآن فينفي الاختلاف بمعنى التناقض والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه مع ثبوت التنويع في وجوه التلفظ والأداء السابق.
الشبهة الثانية:
إن هذا الاختلاف في القراءات يوقع في شك وريب من القرآن خصوصًا إذا لاحظنا في بعض الروايات معنى تخيير الشخص أن يأتي من عنده باللفظ وما يرادفه. أو باللفظ وما لا يضاده في المعنى.
الجواب:
إن اختلاف القراءات لا يوقع في شك ولا ريب ما دام الكل نازلًا من عند الله، وأما هذه الروايات التي اعتمدت عليها الشبهة فلا نسلم أنه يفهم منها معنى تخيير الشخص أن يأتي من تلقاء نفسه باللفظ وما يرادفه بل قصارى ما تدل عليه هذه الروايات أن الله تعالى وسع على عباده خصوصًا في مبدأ عهدهم بالوحي أن يقرءوا القرآن بما تلين به ألسنتهم، وكان من جملة هذه التوسعة القراءة بمترادفات من اللفظ الواحد للمعنى الواحد مع ملاحظة أن الجميع نازل من عند الله. يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت». وقوله تعالى لرسوله جوابًا لمن سأله بتبديل القرآن: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [يونس: 15].
الشبهة الثالثة:
إن نزول القرآن على سبعة أحرف ينافي ما هو مقرر من أن القرآن نزل بلغة قريش وحدها ثم إنه يؤدي إلى ضياع الوحدة التي يجب أن تسود الأمة الواحدة بسبب اجتماعها على لسان واحد.
الجواب:
إنه لا منافاة ولا ضياع للوحدة فإن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن الكريم واقعة كلها في لغة قريش فقد كانت مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة وكان هذا سببًا من أسباب انتهاء الزعامة إليهم. ولو نزل القرآن بغير لغة قريش لكان مثار مشاحنات وعصبيات ولذهب أهل كل قبيلة بلغتهم ولما اجتمع عليه العرب أبدًا.. بل لو نزل القرآن بغير لغة قريش لراجت شبهتهم وافتراؤهم عليه إنه سحر وكهانة لأنه دخل عليهم من غير بابهم فلا يستطيعون القضاء عليه ولا إدراك الفوارق البعيدة بينه وبين الحديث النبوي.