شبهات حول الطلاق
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بعد:
يُثير أعداءُ الإسلام شبهاتٍ كثيرةً – في شأن الطَّلاق وغيره – من خلال عقد مؤتمرات تستنكر كون الطَّلاق بيد الرَّجل وحده، فتارة تُطالب بمنع الطَّلاق، إلاَّ إذا كان لأسباب قهريَّة؛ كالعُقم مثلًا، أو استحالة مواصلة الحياة الزَّوجية، وتارة تُطالب بأن يكون الطَّلاق بيد القضاء؛ بمعنى: لا يُعتدُّ به إلاَّ إذا قضى به القاضي.
وتُسوَّغ هذه المطالب بما يرونه من هضم لحقوق المرأة، وسحقٍ لإنسانيَّتها وكرامتها، في مقابل تمتُّع الرَّجل بالحقِّ الكامل في إيقاع الطَّلاق، وذلك يتنافى مع مبدأ المساواة بين الجنسين، زعموا!
ومن الشُّبَه المثارة أيضًا حول كون الطَّلاق بيد الرَّجل؛ أنَّ المرأة حصلت على مستويات عالية من التَّعليم في مختلف التَّخصُّصات، وبدأت تفرض حضورها في السَّاحة السِّياسية والثَّقافية والإعلامية والاقتصادية، فكيف يُنظر إليها على أنَّها كائن عاطفي سريع الانفعال، لو أُعطي حقَّ الطَّلاق لانهارت معظم الأُسر، ويُعْطَى هذا الحقّ الرَّجلُ لرزانته وميله إلى استقرار الأُسرة!
وبعض الحركات النِّسوية تجعل إسنادَ الطَّلاق إلى الرَّجل تجربةً تاريخيّة، وليس تشريعًا إلهيًّا؛ فتطالب بتغييره!1، ومن أهم الشبهات المثارة حول الطلاق ما يلي:
الشُّبهة الأولى: كون الطَّلاق بيد الرَّجل:
إنَّ حُكْم إسناد الطَّلاق إلى الرَّجل – في الشريعة الإسلامية – حُكم مُطلق غير مقيَّد بأجلٍ ولا حالٍ ولا ظرف، فهو مستمرٌّ إلى يوم الدِّين؛ شأنه شأن الصَّلاة والزَّكاة والصَّوم والحجِّ وغيرها من الفرائض الشرعيَّة، والعمل بما شرعه الله تعالى – في شأن الطَّلاق – يُحقِّق المصالح ويدفع المفاسد، وفي ذلك يقول ابن القيِّم رحمه الله: «إنَّ الله سبحانه لَمَّا كان يُبْغِض الطَّلاق، لِما فيه من كسْرِ الزَّوجة وموافقةِ رضى عَدُوِّه إبليس، حيث يفرحُ بذلك، شَرَعه على وَجْهٍ تحصل به المصلحة، وتَنْدفع به المفسدة، وحَرَّمه على غير ذلك الوجه؛ فَشَرَعه على أحسنِ الوجوه وأقْوَمِها لمصلحة الزَّوج والزَّوجة»2.
وهناك آداب دعا إليها الإسلام قبل الطَّلاق وبعده؛ ينبغي على الرَّجل أن يتأدَّب بها ويلتزمها، من أهمِّها: الصَّبر وعدم الاستعجال، ومعاشرة الزَّوجة بالمعروف.
وعند نشوز الزَّوجة، فلا بدَّ للزَّوج من وَعْظِها ونُصْحِها بالرِّفق واللِّين، فإن لم ترتدع ينتقل إلى عقاب معنوي، وهو هجرها في مضجعها، وهو علاج رادع للمرأة بشكل عام؛ لأنَّه يُصيبها بأنوثتها التي تعتزُّ بها، فإن لم يُجْدِ ذلك ينتقل إلى عقاب مادِّي، وهو أن يضربها ضربًا خفيفًا غير مبرِّح، لا يترك أثرًا بجسدها، كما قال القرطبِيُّ رحمه الله: «والضَّرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المُبَرِّح، وهو الذي لا يكسر عَظْمًا ولا يشين جارحة كاللَّكْزَة ونحوها؛ فإنَّ المقصود منه الصَّلاح لا غير؛ فلا جَرَمَ إذا أدَّى إلى الهلاك وجَبَ الضَّمان»3.
ولا ريب أنَّ هذه الإجراءات خير من الطَّلاق الذي فيه هدمٌ لبنيان الأسرة المتماسك، وفي ذلك يقول المولى سبحانه: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34].
وإذا استمرَّ الشِّقاق بين الزَّوجين يُعالج بواسطة حَكَمين؛ أحدهما من أهل الزَّوج، والآخر من أهل الزَّوجة، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء: 35]. يقول القرطبيُّ رحمه الله: «والحَكَمان لا يكونان إلاَّ من أهل الرَّجل والمرأة؛ إذ هما أقعد بأحوال الزَّوجين، ويكونان من أهل العدالة وحُسْن النَّظر والبَصَر بالفقه. فإن لم يوجد من أهلهما مَنْ يصلح لذلك، فيرسل من غيرهما عدلين عالمين؛ وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يُدْرَ مِمَّن الإساءة منهما. فأمَّا إنْ عُرِفَ الظَّالم، فإنَّه يُؤخذ له الحقُّ من صاحبه، ويُجبر على إزالة الضَّرر»4.
فإن عجزت الوسائل لإيجاد الصُّلح والمودَّة، فليس هناك إلاَّ الطَّلاق، وعند ذلك يُغني الله كلًا من سعته، قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 130].
فإذا وقع الطَّلاق بعد كلِّ هذه المراحل وتلك التَّدابير التي اتَّخذتها الشَّريعة لتمنع وقوعه، فإنَّ الشَّرع الحكيم لا ينسى أن يُذَكِّر كُلًا من الرَّجل والمرأة بما كان بينهما من فضل، وكأنَّه تلميح رقيق عذب، ولفت انتباه لكلٍّ منهما إلى حُسن الخروج من بعضهما البعض، واحترامٍ لبعضهما البعض، وألاَّ يظلم أحدُهما الآخرَ بالقول أو بالفعل، فقال تعالى – موجِّهًا إيَّاهما إلى هذا الخُلُق الرَّفيع: ﴿ وَلَا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]. وهكذا تُصبح للطَّلاق مصلحةٌ أخلاقيَّة رفيعة، ويُمَثِّل سلوكًا حضاريًّا راقيًا في كيفيَّة التَّعامل وقت الخلاف وفضِّ المنازعات.
لذا؛ لا يجب أن ننظر إلى قضيَّة الطَّلاق في الإسلام من خلال سلوكيَّاتنا نحن، وإنَّما يجب علينا أن ننظر إليه من خلال ما دعت إليه الشَّريعة من أخلاقيَّات أثناء الإقدام عليه وبعد وقوعه؛ لأنَّ ما يقوم به البعض من ممارسات خاطئة فالشَّرع منها براء، ولا تصلح أن تكون معيارًا يُحكم به على قضية الطَّلاق. أمَّا ما دعت إليه الشَّريعة، فسيؤدِّي بنا إلى نتيجة حتميَّة واحدة، وهي أنَّ الشَّرع قد حفظ على كلٍّ من الرَّجل والمرأة كرامته وإنسانيَّته وحريَّته الكاملة دونما إفراط أو تفريط، مراعيًا الظُّروف الخاصَّة بكلٍّ منهما، ومنطلقًا من قاعدة الحقوق والواجبات، فكلُّ حقٍّ مكفول لأحدهما هو واجب على الآخر نحوه، وهكذا تتكامل الأدوار، وتتَّصل الحلقات، وتكون العدالة في أسمى معانيها.
الشُّبهة الثَّانية: لماذا لا يكون الطَّلاق من صلاحية القاضي:
القولُ بجَعْلِ الطَّلاق من صلاحية القاضي يُصادم النُّصوص الشَّرعية في الكتاب والسُّنَّة، والتي تجعل قرارَ الطَّلاق خاصًّا بالزَّوج، ولا يحقُّ لأحدٍ – كائنًا مَنْ كان – أن يعترض عليه؛ فإذا أوقع الزَّوجُ الطَّلاقَ – على الوجه المأمور به شرعًا – وقع طلاقُه، ولو لم يأذن به القاضي.
كما أنَّ وقوع الطَّلاق أمام القاضي من شأنه أن يُوَسِّع الفجوة، ويزيد هُوَّة الخلاف بين الزَّوجين؛ ممَّا يؤدِّي إلى القضاء على أيَّة بارقة أمل في الإصلاح بينهما؛ بعد ما عَرَّى كلٌّ منهما الآخر أمام القاضي، وذكر ما كان منه من ممارسات وأخطاء. أمَّا الشَّريعة الإسلاميَّة، فكانت داعمةً إلى آخر لحظة لجمع الشَّمل ورأب الصَّدع بين الزَّوجين، وأتاحت لهما أكثر من فرصة لمراجعة النَّفس والتَّريُّث وإعمال العقل؛ لذا، فإنَّ الشَّريعة المباركة لم تترك للزَّوج الحريَّة في إيقاع الطَّلاق كما يشاء ليضرَّ به امرأته، بل فرضت عليه قيودًا وضوابط يلتزم بها، ومنها: حرَّمت عليه أن يُطَلِّقها وهي حائض، وحرَّمت عليه أيضًا أن يُطلِّقها في طُهْرٍ جامَعَها فيه، وكذلك لا يُطَلِّقها ثلاثًا دفعة واحدة، ولا يُطلِّقها في عدَّتها، وهذا كلُّه يصبُّ في المصلحة الأُسريَّة وعدم شتاتها وتفرُّقها،
وفي ذلك يقول ابن القيِّم رحمه الله: «فَشُرِعَ له أنْ يُطَلِّقها طاهرًا من غير جماع طَلْقَةً واحدة، ثم يَدَعها حتى تنقضِيَ عِدَّتها، فإن زال الشرُّ بينهما، وحَصَلت الموافقة، كان له سبيلٌ إلى لَمِّ الشَّعَثِ، وإعادة الفراش كما كان، وإلاَّ تَرَكها حتى انقضت عِدَّتها، فإن تبعتها نفسُه كان له سبيلٌ إلى خِطْبتها، وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسُه تَرَكها، فنكحتْ مَنْ شاءت.
وجَعَلَ العِدَّة ثلاثةَ قُروءٍ؛ ليطولَ زَمَنُ المُهْلة والاختيار، فإذا طلَّقها مرَّة بعد مرَّة بَقِيَ به طلقةٌ واحدة، فإذا طلَّقها الثَّالثة حَرَّمها عليه؛ عقوبةً له، ولم يَحِلَّ له أن ينكحها حتى تنكحَ زوجًا غيرَه، ويدخل بها، ثم يفارقها بموتٍ أو طلاق. فإذا عَلِمَ أنَّ حبيبته تصير إلى غيره فتحظَى به دونه، أمسكَ عن الطَّلاق»5.
وكذلك لم يجعل الله تعالى الطَّلاق بائنًا إذا وقع أوَّل مرَّة، بل هو طلاق رجعي في المرَّة الأُولى والثَّانية، وهو أضمن لاستمرار الحياة الزَّوجية، ومن حقوقها حال العدَّة أن تسكن في بيت الزَّوجية ويُنْفِق عليها، بخلاف الحُكم القضائي فإنَّه لا يُبقي فرصةً للتَّراجع، خاصَّة عند انكشاف أسرار البيوت، مع الوقوع في الكذب حال التَّشاحن من الطَّرفين، ممَّا يزيد التَّنافر بينهما.
الشُّبهة الثَّالثة: مَنْعُ الطَّلاق إلاَّ لأسباب قهريَّة:
أمَّا مَنْ يُطالب بمنع الطَّلاق البتَّة إلاَّ لأسباب قهريَّة كالعقم مثلًا، فيقال له: كيف يُمنع الطَّلاق وقد شَرَعه الله تعالى؛ لتخليص الزَّوجين من حياةٍ تنقلب فيها الرَّحمة إلى نِقْمة؟!
يقول «د. آرون آيسمان» عالم النَّفس الأمريكي: «لقد بحثتُ مئات الحالات، وتبيَّنتُ أسبابًا تجعل الطَّلاق النَّاجح المُخطَّط أصحَّ للأبناء من جهة نظر الصِّحة النفسيَّة من استمرار زواجٍ كلُّه بُغْض وتوتُّر ومُشاحنات.
ويضيف أيضًا: الطَّلاق الهادئ المتَّفق على عواقبه بالحُسنى والتَّراضي أفضل لمستقبل الأولاد من استمرار حياةٍ زوجيَّة فاشلة، مشحونة بالنَّكَد والنِّزاع، وتبادل الإهانات، ومظاهر الجفاء والغَدْر»6.
ويقول «بيتام» رجل القانون البريطاني: «لو وَضَعَ مُشرِّع قانونًا يُحرِّم فضَّ الشَّركات، وعَزْل الوكلاء؛ لَصَاحَ النَّاسُ أجمعون: إنَّه غايةٌ في الظُّلم، واعتقدوا صدورَه عن معتوه أو مجنون. فيا عجبًا أنَّ هذا الأمر الذي يُخالف الفطرة، ويُجافي الحكمة، وتأباه المصلحة، ولا يستقيم مع أصول التَّشريع؛ تقرِّره القوانين بمجرَّد التَّعاقد بين الزَّوجين في أكثر البلاد المتمدِّنة، وكأنَّها تُحاول إبعاد النَّاس عن الزَّواج، فإنَّ النهي عن الخروج من الشَّيء؛ نهيٌ عن الدُّخول فيه»7.
وعندما حرَّمت الكنيسة على أتباعها الطَّلاق؛ وُجِدَت الخيانات الزَّوجية، والهجر الطَّويل، فأيُّهما أفضل: انفصالٌ شريف بطرق أقرَّها الإسلام، أم وقوع أحد الزَّوجين في علاقات محرَّمة، ونشوء أطفالٍ انحرفت سلوكيَّاتهم بسبب هذا الواقع المرير؟!
الخلاصة:
إنَّ منح الرَّجل حقَّ الطَّلاق دون المرأة قد قابلته واجبات جسام ملقاة على عاتق الرَّجل، فالرَّجل هو المُطالب شرعًا بدفع المهر، وتجهيز منزل الزَّوجية، وتحمُّل أعباء الحياة والإنفاق عليها، بل وحسن معاشرتها والإحسان إليها، كما أنَّه مُطالب شرعًا إذا أقدم على الطَّلاق أن يدفع إليها المتعة، ومؤخَّر الصَّداق إن وُجِد، وأكثر من ذلك أن يعطيها أجرَ إرضاعها ولدها منه إن كانت مرضعةً له، حيث لم يُسقط ذلك الحقَّ عنه كونها أُمَّ ولده، وعليه أيضًا أن يتحمَّل النَّفقة على أبنائه الذين هم في حضانتها.
فإن كانت كلُّ هذه الحقوق ممنوحةً للمرأة في مقابل الرَّجل، فهل من المعقول أن يُطالب الرَّجل بكلِّ هذه الواجبات دون أن يُمنح هو أيضًا بعضَ الحقوق والصَّلاحيات، التي منها حقُّه في الطَّلاق مثلًا؟!
لذا؛ فإنَّه من الخطأ أن يُنْظَر إلى حقِّ الرَّجل في الطَّلاق بمعزلٍ عن النِّظام الإسلاميِّ المتكامل، والشَّامل للأسرة وما يرتبط بها من أحكام.