شبهات حول الحجاب: مغالطة قسوة اليهود على المرأة أنموذجا
لقد تلونت الشبهات حول الحجاب بين تشكيك وتزهيد واتهام، وتعددت أصناف المتبنين لهذه المزاعم بين أصحاب الشهوات، وأرباب الشبهات.
وعند النظر في تلك الشبهات نجد أن منها ما هو متزينٌ بالدين، والصلاح والإصلاح، أو الرغبة في الدفاع عن المرأة ورفع الظلم الاجتماعي عنها، الذي قد يكون الدين -بزعمهم- هو الأساس المركزي له.
والحق أن هذه الدعوات لم تزد على أن تكون حِبالًا في الهواء يتعلق بها من ابتغى الضلالة على الهدى، حبًّا في البعد عن التشريع؛ باعتبار أن الانطلاق من المرجعية الذاتية أسهل في التناول مع زيف الحرية الشخصية المتمركزة حول الذات قبولًا وردًّا، بل ومرجعيةً واعتقادًا، من أن تكون المرجعية مرجعيةً شرعيةً؛ لكون اتباع الهوى أسهل من مجاهدة النفس للطاعة.
شبهات ودُعاة:
لقد تنوع الملقون بالشبهات على الحجاب بحسب مقاصدهم وأهدافهم المعلنة والخفية، كما تنوعت شبهاتهم بين التشكيك في مشروعية الحجاب وفي كيفيته؛ وما ذلك إلا لأن في قطع العلاقة بين الحجاب كممارسة مجتمعية، وبين كونه أمرًا من الشريعة له أحكام وكيفيات معينة؛ إزاحة للوحي كمصدر لأحكامه من وجه، وللشعور الداخلي بالذنب والإثم المترتب على المخالفة لذلك الأمر من وجه آخر؛ مما يقطع خط الرجعة والتوبة التي لن يكون هناك حاجة إليها بالكلية.
ومن أبرز تلك الشبهات:
قول قائلهم: “إن الحجاب تزمُّتٌ مجتمعي، وغلوٌّ في الدين بينما قد جعل الله الدين يسرًا”1.
فهذا لم يفرق بين رفع الحرج واليسر في الدين المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وبين لزوم الأمر والنهي الذي يتحقق بالطاعة التي هي إلزام عام بجميع الأوامر والنواهي، والتي جاءت في الكثير من النصوص كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32]، وأن مناط التيسير ورفع الحرج هو بذل الوسع وعدم التهاون؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]
وآخر متقنعٌ بفكرة التفريق بين العادات الجاهلية السابقة للإسلام، وما هو من الإسلام فيقول: “إن الحجاب من عادات الجاهلية، فهو: تخلُّف ورجعية”2.
ولا أعلم أين ذهب بقول الله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]، كما أن الإسلام لم ينكر ما كان عند العرب من فضائل وأخلاق، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بُعِثْتُ لأُتمِّم صالح الأخلاق))3مما يدل على وجودها لكنها مختلطة بأمور فاسدة تعيقها عن أن تكون صالحة تمام الصلاح، وأهم ما ينقصها هو ابتغاء وجه الله وتحقيق مقاصد الدين، بمعايير عالية تعزز المكانة اللازمة لهذا الدين من الخلود والشمول والكمال، بل ولخيرية الأمة أيضًا.
وآخر متمسك برابط عجيب، بين الإرهاب والتمسك بالدين فيقول: “إن الحجاب رمز للغلوِّ والتعصب الطائفي والتطرف الديني”.
فيفرض لازمًا ليس بلازم؛ إذ إن ما كان من حق عند أهل الباطل من المنتسبين للإسلام فهو ليس منهم، بل من الدين الذي عُرف بالوحي، فكيف يلزم أن يكون الحق الشرعي من لوازم الغلو البدعي؟ وأن الشرع كما نهى عن الغلو وحاربه، أمر بالحجاب وغلظ في تركه، فكيف يستقيم أن يُقال: إن الغلو المنهي عنه، مساوٍ للحجاب المأمور به؟!
وآخر يدندن حول الخيرية الذاتية وربطها بالسفور، فيقول: إن هناك الكثير من النساء الخيِّرات -أي: في التاريخ- كنَّ سافرات 4.
فسبحان الله كيف قاس هذا القياس، وما هو معيار الخيرية التي يتحدث عنها؟
والحق أن يُقال له: إن خير الأمة من النساء هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، فهل كان ديدنهن السفور؟
ثم إن الله تعالى قال: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 59]، قال الطبري -يرحمه الله-: “أي: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنَّ؛ لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول”5فيعلم من ذلك أن السفور كان من عادة بعض الإماء وإن الحرة تميَّزت عليهن بالتستُّر الكامل، وأن المرأة المسلمة حريٌّ بها أن تكون على هذا الوصف والحال.
ويُقال أيضًا: إن فعل البعض لا يكون دليلًا على صحة الفعل، وأن فعل آحاد الناس أو بعضهم فيما بعد القرون المفضلة، لا يفيد الصحة والمصداقية فضلًا عن المرجعية والاقتداء، وفي زيف قولهم مساواة بل وتفضيل على من جاء بعدهم عليهم من وجه، وتفضيل للمخالف على المتبع من وجهٍ آخر، وهذا باطل لا يقبله عقل ولا شرع.
وآخر يدندن على القواعد الفقهية فينزلها على أحكام الحجاب فيقول: “إن الأحكام تتبدَّل بتبدُّل الزمان؛ لذلك لا بُدَّ من النظرة (التجديدية) لمسألة الحجاب وفق معطيات الواقع المعاصر”6.
وهذا فهم مغلوط للقاعدة؛ فإن الحكم الشرعي مصدره الأصيل هو الكتاب والسنة وما يلحق بهما من مصادر، فهي تابعة لهما؛ لأنها تدور مع أدلة الكتاب والسنة أمرًا ونهيًا، ولا تتجاوزهما بل تسلط الضوء على كل الأمور من جهة الدليل بالقياس وبناء الأحكام والإجماع عليهما.
وهذا فهم مغلوط للقاعدة؛ فإن الحكم الشرعي مصدره الأصيل هو الكتاب والسنة وما يلحق بهما من مصادر، فهي تابعة لهما؛ لأنها تدور مع أدلة الكتاب والسنة أمرًا ونهيًا، ولا تتجاوزهما بل تسلط الضوء على كل الأمور من جهة الدليل بالقياس وبناء الأحكام والإجماع عليهما.
كما أن هذه القاعدة مبنية على قاعدة أخرى هي أن (العادة مُحَكَّمة)7، وهذا يعني اعتبار عادات الناس في بعض الأمور، كما في نوع الطعام المخرج في زكاة الفطر، فهو بحسب طعام أهل البلد، وليس هذا في أحكام متعينة في صورة التنفيذ كالحجاب والحدود وغيرها.
وآخر يبرز فرية الفصل بين المظهر والجوهر مرتكزًا على ثقافة إرجائية مضللة، فيقول: “إن عفة المرأة في ذاتها لا في حجابها”8.
وهذه الدعوى مبناها أن هناك من تتستَّر بالحجاب وهي من أهل الزيغ والفحش، وقوله هذا باطل من وجهين: أولهما: أن جعل القليل المظنون حكمًا على الكل المتحقق اليقيني، تعميم بلا دليل، بل لا يقبله عقل ولا شرع.
والثاني: أن المظهرَ أثرٌ تابع لما في القلب من اعتقاد، ودليل جازم على الاتباع والطاعة لله ورسوله، وقد أكد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وجعل الخيرية هي المقياس لا الإعجاب ﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ [البقرة: 221].
كما أن المظهر هو أول ما يدركه الإنسان بالحس ليحكم على الآخر من جهة دينه وجنسه، بل وحتى موطنه وبلاده، فكيف يستقيم أن يكون المظهر معتبرًا في المعيار العرفي، ولا يكون معتبرًا في المعيار الشرعي أو الخلقي؟
وآخر مرجعيته مزاعم يرفضها الواقع الحسي فضلًا عن العقل، فيقول: “إن الحجاب كبتٌ للطاقة الجنسية”9.
فيزعم أن الحجاب يغطي جمال المرأة مما يؤدي لحصول كبت جنسي لدى الشباب فيؤدي ذلك لزيادات في حالات الاغتصاب.
وهذه المزاعم لا يقبلها عقل كما يبطلها الواقع، فالناظر لمعدلات الاغتصاب والتحرش في الدول التي اعتبرت السفور حرية شخصية خير دليل؛ فمثل هذا يرد إلى إحصائيات تلك البلدان ومقارنتها بالإحصائيات المقابلة لها في البلاد التي واقع الحجاب فيها إلزامي لمرجعيته الشرعية لا العرفية.
كما أنه لو كانت هذه الدعوى صحيحة فلماذا جاء الأمر بغَضِّ البصر للرجال والنساء؟ ولماذا اقترن أمر النساء بغض البصر بالحجاب؟ بل وحدد لهن أصناف الرجال الذين يُسمح لهن بإبداء ما ظهر من زينتهن أمامهم؟ فقال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 30، 31]، فيقال لهم: سبحان الله! أأنتم أعلم أم الله؟!
وآخرٌ يقول: “إن التبرج أمر عادي لا يلفت النظر؛ انظروا للغرب، النساء سافرات ولا ينظر لهن أحد من المارة، بينما في بلادنا النساء المتحجبات محل النظر والتحرش”10.
وهذا زيف لا يقبله العقل ولا الواقع، فيقال فيه ما قيل حول شبهة كبت الطاقة الجنسية.
كما أن العقل يرفض هذا الزيف مطلقًا؛ إذ هل النظر للمرأة السافرة التي يظهر منها ما يلفت الرجال بالعموم أو رجلٍ ما بالخصوص، أم هل النظر للشيء الملفت والجميل أو الحسن بالعموم، مثل النظر لأشياء متشابهة ما هي إلا أجسام تتحرك؟
وأما الداعي النسوي، ومن سار مساره ودار مداره من الليبراليين والعلمانيين؛ فإنه يدندن على أمور مثل النفعية المجتمعية، فيقول: “الحجاب يعطل نصف المجتمع”، وعلى مسألة ظلم المرأة وكبت حريتها، فيقول: “إن السفور حقٌّ للمرأة والحجاب ظلم لها”11.
فأما مسألة تعطيل نصف المجتمع فهذه دعوى باطلة من أوجه:
أولها: أن يقال: إن الدور الرئيس للمرأة في جميع المجتمعات هو تربية الأولاد وبتضييعها لواجبها تضيع الناشئة؛ فلا يستقيم حالها وتتنقص فاعليتها في المجتمع بسبب الاضطرابات النفسية المترتبة على ذلك، وما من أحد ينكر هذا الأمر إلا من لا نظر له ولا عقل.
وثانيها: أن المرأة في الإسلام لها حقوق بل وواجبات للعمل، فمن جهة الحق؛ فهي في الأعمال التي تغنيها عن الحاجة إن لم يكن لها معيل، بالإضافة إلى حق الاتجار. وأما من جهة وجوب العمل؛ فهو في الأعمال التي تخدم بها غيرها من النساء وتغنيهم عن الاستعانة بالرجال كالتطبيب والتمريض، بل والتعليم أيضًا.
أما مسألة كون الحجاب ظلم للمرأة؛ فسبحان الله! كيف زعم صاحبها هذا الزعم، والله تعالى هو الذي أمر به، وهو أعلم بخلقه وما يصلحهم من وجه، وأرحم بهم من رحمة بعضهم ببعض من وجه آخر؟
وأصحاب هذه الدعاوى أكثر من حاز استحسان المغترين؛ لمداعبتهم لشجون النساء اللاتي وقع عليهن شيء من الظلم أو الاستنقاص أو الاستخفاف من بعض الرجال، مع أنه من الظلم تحميل المجتمع أخطاء بعض أفراده فتنسب إليه، والأعظم منه أن تنسب أخطاء المجتمعات للدين؛ فالأول ظلم للناس، والثاني انتقاصٌ لله تعالى.
شبهة الحجاب وقسوة اليهود على المرأة:
إن من العجيب الواقع انتشار شبهة تستهدف مختلف المستويات المجتمعية، من طبقات المتعلمين ومن هم دونهم، صِيغت في صورة قضية منطقية اشتملت على ثلاث مقدمات، بعضها صحيح وبعضها باطل، والمعروف المتيقن من علم المنطق، أنه إذا كانت إحدى المقدمات في القضية الاستنتاجية خاطئة، فإن النتيجة المترتبة عليها تكون خاطئة أيضًا؛ فيكون الاستدلال فاسدٌ باطل12.
ومقدمات تلك الشبهة أو الدعوى على ما يلي:
المقدمة الأولى: اليهودية أقسى الأديان على المرأة؛ فإنهم يعتقدون أن آدم طرد من الجنة بسبب حواء، وحمل المرأة ومخاضها ما هو إلا عقوبة من الله لها، كما أن المرأة من أدوات الشيطان التي يحقق بها مآربه.
وهذه المقدمة صحيحة، لكن الأمور التي ذكرها ما هي إلا من محض تحريف أحبارهم، الذين قال الله عنهم: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]، وقال: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].
المقدمة الثانية: تسربت هذه الأمور إلى الإسلام من خلال الإسرائيليات.
وهذه المقدمة ذات شقين: أحدهما صحيح، والآخر باطل، فأما الصحيح فلا بد أولًا من معرفة أن هناك فرقًا بين ورود الإسرائيليات، وبين التأثر باليهود، مع أن كليهما حاصل.
فالأول: كان صحيح من جهة وجود الإسرائيليات ضمن المرويات عن بعض الصحابة؛ كابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، لكن هل الأخذ عن أهل الكتاب أمر باطل من كل وجه؟
والحقيقة أن الأخذ عن أهل الكتاب مقيد من وجهين:
الأول: وجه عموم الاستماع والذي قُيد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقًّا لم تكذبوهم، وإن كان باطلًا لم تصدقوهم))13.
والثاني: وجه خصوص التشريع وقيدته القاعدة الشرعية التي تقول: (إن شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه)، والصحيح أن ذلك أمرٌ مقيد بشرطين:
1- لزوم ثبوت أن ذلك من شريعتهم على الحقيقة؛ وذلك بإخبارٍ من الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون ذلك من التوراة ذاتهاوليس من كتبهم الأخرى.
2- وألا يكون في شريعتنا ما يخالفها14.
وقد حسم الله تعالى الأمر بقوله: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، وبذلك تكون تلك الشرائع-التي لم تُحرَّف- هي شرائعُ خاصةٌ بهم، ولا يُلزم بها إلا النصارى؛ لأن دينهم تبعي لليهودية وليس مستقلًّا عنها15 لكنها مع ذلك إن أقرها شرعنا ستكون تحت القاعدة السابقة الذكر.
أما الثاني: فهو تَأَثُّر بعض الفرق المنتسبة للإسلام باليهود، هذا صحيح ومن المتأثرين بهم الشيعة، ومن أبرز ما تأثَّروا به من تشريعاتهم قتل المخالف أو قتل الغير فقد انفرد اليهود بممارسة شعائر (قربانية) وجدت لدى الشيعة في صور عديدة 16.
وعلى ذلك التفصيل تكون هذه القاعدة باطلة؛ إذ إن الحجاب بصورته الشرعية لم يكن مما تسرب إلينا من اليهود، وإن كان موافقًا لتشريع اليهود، فالتشابه ناتج عن وحدة المصدر وحقيقة التشريع.
وقد أضاف -صاحب تلك الشبهة- كتمهيد للمقدمة الثالثة بقوله: “إن اليهود أنفسهم قد تركوا هذه الخزعبلات إلا طوائف قليلة منهم، في حين طبقها أكثر المسلمين”.
ثم قال في المقدمة الثالثة: نساء اليهود يتلحفون بالسواد، فإذا كان مقياس العفة والاحتشام هو التلحف بالسواد؛ فلا أستر ولا أعف ولا أحشم، من نساء اليهود الحريديم (أي: الحسيديون أو الحسيدم Hasidem).
ومقتضى هذه القاعدة، أن كون الحجاب أسود، فهو عادة يهودية متسربة إلينا عن طريق الإسرائيليات، واليهود أنفسهم قد ترك معظمهم ذلك، لكن بعض المسلمين مُصِرُّون على التمسُّك بها؛ فلا يصح أن يكون السواد مقياسًا للعفَّة؛ لأنه سيكون بذلك أكثر النساء عفةً هم نساء اليهود (الحسيدم).
والرد على ذلك من أوجه:
أولًا: أن التلحُّف بالسواد كان فعل الصحابيات رضي الله عنهن بعد نزول آية الحجاب، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: “لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 59] خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الأَكْسِيَةِ”17 قال المزي -يرحمه الله-: “(كأن على رؤوسهن الغربان) جمع غراب، (من الأكسية) جمع كساء، شبهت الخُمُر في سوادها بالغراب”18.
وكان هذا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهن ذلك، ولم يقل لهن غيِّروا وبدِّلوا، بل إن القرآن كان ينزل؛ فلو كان ذلك خطأً لنزلت سورة أو آية تبين لهم أن هذا خطأ لا ينبغي.
الثاني: أن يقال: إن لازم قولهم هذا أن يكون الله تعالى لم يبين، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ، وكلاهما باطل.
والثالث: أن يقال: إن من لوازم قولهم اتهام نساء (الحسيدم) أو انتقاص عفتهن، ولا تلازم بين الكفر والعفة، والتلازم يكون بين العفة من حيث كونها خلقًا ومن حيث كون الأخلاق من مقاصد الأديان، فالأول باطل والثاني صحيح.
النتيجة:
إن النتيجة التي تفرزها مقدمات هذه الشبهة هي: أنه وبما أن التلحف بالسواد صورةٌ من صور القسوة على المرأة، التي بالإضافة إلى كونها ظلمًا للمرأة فإن فيها مشابهة لليهود؛ فيجب تصحيح مفهوم العفة وعدم ربطه بالسواد، أو بالحجاب ككل.
وكفى بتلك النتيجة ذريعةً لصد المسلمين عن التمسك به، من جهة التطبيق ومن جهة الأمر والنهي.
والحقيقة أن هذه الشبهة لم تَعْدُ أن تكون مغالطةً منطقيةً جذَّابةً برَّاقةً في ظاهرها، في حين تحمل في طيَّاتها مختلف أبعاد الفساد بُغية الإفساد، وقد بيَّن الله تعالى هذا الصنف من الدعاة في سورة البقرة بقوله سبحانه: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].
والواجب المتحقق على المسلمين ألا يفتحوا آذانهم لكل شبهة فضلًا عن قلوبهم، وأن يؤصلوا في أنفسهم أن طاعة الله ورسوله من مقتضيات الإيمان، ولزوم رد التنازع في الأمور إلى الله ورسوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
كما أن فعل الصحابة تطبيق عملي للشرع؛ من جهة الامتثال ومن جهة المصداقية، ومن ابتغى غير سبيلهم، فلا يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
قائمة المصادر والمراجع:
- ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبد السلام الحنبلي (1424هـ)، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق: د. ناصر عبدالكريم العقل، الرياض: دار الفضيلة.
- ابن حنبل، أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (1421هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، المحقق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبدالله بن عبد المحسن التركي، ط 1، مؤسسة الرسالة.
- أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق السِّجِسْتاني، سنن أبي داود، المحقق: محمد محيي الدين عبدالحميد، صيدا – بيروت: المكتبة العصرية.
- البلالي، عبدالحليم (1413هـ) أختي غير المحجبة ما المانع من الحجاب، ط2، الكويت: دار الدعوة.
- بنت عبدالله، الزهراء فاطمة (1419هـ) المتبرجات، ط4، الأردن: المكتبة الإسلامية – بيروت: دار ابن حزم.
- الحاكم، محمد بن عبدالله بن محمد بن حمدويه الضبي الطهماني النيسابوري أبو عبدالله المعروف بابن البيع (1411هـ) المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، ط 1، بيروت: دار الكتب العلمية.ط
- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (1435هـ) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- العظيم آبادي، محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، أبو عبدالرحمن شرف الحق الصديقي (1415هـ) عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، ط2 بيروت: دار الكتب العلمية.
- محمد أحمد إسماعيل المقدم، عودة الحجاب، (جـ 1، ط10: دار طيبة – توزيع دار الصفوة، 1428 هـ) (جـ 2: القاهرة: دار ابن الجوزي، 1426 هـ) (جـ 3، ط2: الإسكندرية: دار القمة، دار الإيمان، 2004 م).
- المرصد، تركي الحمد: “هذه الأمور تسربت إلى الإسلام من الإسرائيليات.. والمسلمون طبقوا خزعبلات تركها اليهود”، /، تاريخ الدخول: 28/ 8/ 1442هـ.
- ميساء باشا، القرابين في الأديان السماوية: دراسة عقدية مقارنة، رسالة ماجستير، جامعة الملك عبدالعزيز (1439هـ).
- محمد أحمد إسماعيل المقدم، عودة الحجاب، 3/ 391.ج ↩︎
- الزهراء فاطمة بنت عبدالله، المتبرجات، 122. ↩︎
- رواه أحمد في مسنده (8952)، والحاكم في المستدرك على الشيخين (ح4221)، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ↩︎
- المقدم، عودة الحجاب، 3/ 448. ↩︎
- تفسير الطبري، 20/ 59. ↩︎
- المقدم، المرجع السابق، 3/442. ↩︎
- المقدم، عودة الحجاب، 3/442. ↩︎
- إلى كل فتاة تؤمن بالله، 97. ↩︎
- عبدالحليم البلالي، أختي غير المحجبة ما المانع من الحجاب، 7. ↩︎
- بنت عبدالله، المتبرجات، 117. ↩︎
- البلالي، أختي غير المحجبة ما المانع من الحجاب، 64. ↩︎
- المرصد، تركي الحمد: “هذه الأمور تسربت إلى الإسلام من الإسرائيليات.. والمسلمون طبقوا خزعبلات تركها اليهود”، https://al-marsd.com/، تاريخ الدخول: 28/ 8/ 1442هـ. ↩︎
- رواه أحمد في مسنده (ح 17225)، عن أبي نملة رضي الله عنه. ↩︎
- انظر: ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، 278. ↩︎
- ميساء باشا، القرابين في الأديان السماوية: دراسة عقدية مقارنة، 263. ↩︎
- انظر: باشا، المرجع السابق، 232. ↩︎
- رواه أبو داود في سننه (ح4101)، قال الألباني: صحيح. ↩︎
- محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر العظيم آبادي، عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، 11/ 107. ↩︎