شبهات حول التوسل والوسيلة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد فيا أيها الإخوة!
كان لقاؤنا الماضي بعنوان: تساؤلات حول التوسل والوسيلة، ولا زلنا – بفضل الله تعالى – نتحدث عن هذا الموضوع لكن اسمحوا لي – أيها الإخوة – بعد أن تبين لنا أن من يجيزون التوسل المبتدع يحتجون بآيات في غير محلها وبأحاديث إذا تأملناها نجدها تندرج تحت نوعين اثنين: الأول: ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يدل على مرادهم ولا يؤيد رأيهم فقد فهموه خطأ.
والنوع الثاني: غير ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ضعيف جدّاً أو مكذوب، اسمحوا لي – بعد أن تبين لنا هذا بجلاء – أن أعدل بعنوان الخطبة من تساؤلات حول التوسل والوسيلة إلى شبهات حول التوسل والوسيلة فهذه هي التسمية الصحيحة بعدما تبينا حقيقة ما يسمونه أدلة، وأنها ما هي إلا شبهات والعجب أن أصحاب هذه الشبهات يرموننا نحن الذين ندعوهم إلى التوحيد الخالص بإفراد المعبود سبحانه بما يستحقه، يرموننا بالتشدد والتنطع والتزمت مع أننا نستضيء بنور الوحي والهدى والقرآن الكريم والسنة النبوية ونمشي على خطا الحبيب العملية وهم يعيشون بين قصة وحكاية ومنام وظلام وما مثلنا معهم إلا كما قيل:
1لا تلمزونا لا تلزمونا يا … هؤلاء بتسرع وتنطع وتشدد
لا تقذفونا بالشذوذ فإننا … سرنا على نهج الخليل محمد
ولكل قول نستدل بآية … أو بالحديث المستقيم المسند
والنسخَ نعرف والعمومَ … وإننا متفطنون لمطلق ومقيد
أيها الإخوة ونكمل في هذا اللقاء الحديث عن بعض هذه الشبه فمن هذا – أيها الإخوة -:
وهي الشبهة السادسة: استدلالهم بأثرين ضعيفين، هذان الأثران كثيراً ما يوردهما المجيزون لهذا التوسل المبتدع، فلنبين حالهما من صحة أو ضعف، وهل لهما علاقة بما نحن فيه أم لا؟
الأثر الأول: أثر الاستسقاء بالرسول بعد وفاته:
وهو ما روى ابن أبي شيبه عن مالك الدار – وكان خازن عمر – قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي فقال: يا رسول الله! استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا، فَأُتي الرجلُ في المنام، فقيل له: ائت عمر.. الحديث2.
وقيل الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة.
قلت: والجواب أن هذه القصة غير مسلم بصحتها، لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان – العدالة والضبط – شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح.
ثم إن الحديث مخالف لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: ” فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً.. ” وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذ لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ” القاعدة الجليلة “3:
لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم…… كما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي لم يشرع هذا لأمته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحابه والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين، وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكوا إليك جدب الزمان أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين، وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين.
الأثر الثاني: أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول إلى السماء:
فقد روى الدارمي عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحَط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. 4
وهذا الحديث سنده ضعيف لا تقوم به حجة، وهو غير مقبول، فلا يحتج به، وقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في ” الرد على البكري ” 5: فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في ” الصحيحين ” عن عائشة أن النبي كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء بعد 6، ولم تزل الحجرة النبوية كذلك في مسجد الرسول.. وحين دخلت الحجرة النبوية في المسجد بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف.وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بَيّن، لو صح ذلك لكان حجة ودليلاً، على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت، ولا يسألون الله به.
أيها الإخوة! إن الله تعالى شرع لنا العبادات لنتقرب بها إليه وفيها كفاية لمن أراد أن يتقرب إليه سبحانه والعبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، فليس لأحد أن يصلي إلى قبر ويقول هو أحق بالصلاة إليه من الكعبة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: ” لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها “.7 مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم، بل يستدبرون القبلة، ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة! وطائفة أخرى يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام والنبوي والأقصى.
وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد، وهذا كله مما قد علم جميعُ أهل العلم بديانة الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام. ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة فقد ضَل وأضل، ووقع في مهواة من التلف.
فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة، ويسلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها، ومفسدتها راجحة على مصلحتها، إذ الشارع الحكيم لا يهمل المصالح…. والدعاء من أجل العبادات، فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عبادته الصور المشروعة، فإن هذا هو الصراط المستقيم.والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين.
الشبهة السابعة: قياس الخالق على المخلوقين:
ومن أعجب ما ذهب إليه مجيزو التوسل بالصالحين هو قياسهم الخالق جل في علاه على المخلوقين يقولون: إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز، لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته، ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة، لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه، هذا إذا لم يرده أصلاً، ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كبير فإننا نبحث عمن يعرفه، ويكون مقرباً إليه أثيراً عنده، ونجعله واسطة بيننا وبينه، فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا، وقضيت حاجتنا، وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه – بزعمهم – فالله -عز وجل- عظيم العظماء، وكبير الكبراء، ونحن مذنبون عصاة، وبعيدون لذلك عن جناب الله، ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة، لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين، أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين، وهناك ناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه، يستجيب لهم إذا دعوه، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه، أفلا يكون الأولى بنا والأحرى أن نتوسل إليه بجاههم، ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم، عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكراماً لهم، ويجيب دعاءنا مراعاة لخاطرهم، فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل، والبشر يستعملونه فيما بينهم، فلم لا يستعملونه مع ربهم ومعبودهم؟
ونقول جواباً على هذه الشبهة: إنكم يا هؤلاء إذن تقيسون الخالق على المخلوق، وتشبهون قيوم السموات والأرض، أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين، والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية، ويجعلون بينهم وبين الرعية حُجُباً وأستاراً، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، وتترضاها وتتقرب إليها، فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم، وتطعنون به، وتؤذونه، وتصفونه بما يمقته وما يكرهه؟
سبحان الله العظيم! هل خطر ببالكم أنكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة، والمتسلطين الفجرة، فكيف يسوِّغ هذا لكم دينكم، وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم، وتمجيدكم لخالقكم؟
هترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهاً لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟
يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعاً لا يتكبر ولا يتجبر، وكان قريباً من الناس، يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته، وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية، فيكلمه دون واسطة أو حجاب، فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقّاً. ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل، أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال؟
فما لكم كيف تحكمون؟ وما لعقولكم أين ذهبت، وما لتفكيركم أين غاب، وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم، أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم؟
يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس، وأصلح الناس لكفرتم، فكيف وقد شبهتموه بأظلم الناس، وأفجر الناس، وأخبث الناس؟
يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك، فكيف تردى بكم الشيطان، فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء؟
إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله، حذر منه سبحانه حيث قال: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السموات وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ * فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 73 – 75] كما نفى سبحانه أي مشابهة بينه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة، وهو يظن أنه يحسن صنعاً! إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء، واعتباره شركاً، وإن كان هو نفسه ليس شركاً عندنا، بل يخشى أن يؤدي إلى الشرك، وقد أدى فعلاً بأولئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون.
قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة ” الواسطة
8قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة ” الواسطة “:
ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذه الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبِّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً….
الشبهة الثامنة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح:
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين زينها لهم الشيطان، ولقنهم إياها حيث يقولون: قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقاً التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزاً فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره.
والجواب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول: إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح – وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي – جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي، وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل.
الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل – كما لم يقل أحد من السلف قبلنا – أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته، وهذا بين لا يخفى.
فالتوسل بالعمل الصالح معناه التوسل الذي يقوم به العبد بعد فراغه من عمل عمله على وجهه المشروع ثم إنه يقصد الله تعالى بعده بالدعاء مقدماً هذا العمل بين يدي دعائه وحاجته فاعقلوا يا أولي النهى وتبصروا يا أولي الألباب واعتبروا يا أهل التوحيد، وللحديث صلة بعد جلسة الاستراحة، هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد، فيا أيها الإخوة!
الشبهة التاسعة: قالوا: إنه قد قال بعض العلماء والأئمة بجواز بعض هذا التوسل، فأجاز الإمام أحمد التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقط، وأجاز غيره كالإمام الشوكاني التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين.
والجواب: إن الذي نعتقده وندين الله تعالى به أن هذا غير جائز، ولا مشروع، لأنه لم يرد فيه دليل، تقوم به الحجة – وقد أنكره العلماء المحققون في العصور الإسلامية المتعاقبة، وإن قال ببعضه بعض الأئمة، ولكنا – كشأننا في جميع الأمور الخلافية – ندور مع الدليل حيث دار ولا نتعصب للرجال، ولا ننحاز لأحد إلا للحق كما نراه ونعتقده، وقد رأينا الحق مع الذين حظروا التوسل بمخلوق، ولم نر لمجيزيه دليلاً صحيحاً يعتد به، ونحن نطالبهم بأن يأتونا بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة فيه التوسل بمخلوق، وهيهات أن يجدوا شيئاً يؤيد ما يذهبون إليه، أو يسند ما يدعونه، اللهم إلا شبهاً واحتمالات.
فهذه الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة، لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات، وهاك بعض الأدعية الكريمة على سبيل المثال: يقول ربنا جل شأنه معلماً إيانا ما ندعو به ومرشداً: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]
ويقول: ﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
ويقول: ﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 85، 86].
ويقول: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 35 – 41].
ويقول على لسان موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴾ [طه: 25 – 35].
ويقول سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 65، 66].
إلى آخر ما هنالك من الأدعية القرآنية الكريمة، وبعضها مما يعلمنا الله تعالى أن ندعو به ابتداء، وبعضها مما يحكيه سبحانه عن بعض أنبيائه ورسله، أو بعض عباده وأوليائه، وواضح أنه ليس في شيء منها ذاك التوسل المبتدع الذي يدندن حوله المتعصبون، ويخاصم فيه المخالفون.
وإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة لنطلع منها على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي ارتضاها الله تعالى له، وعلمه إياها، وأرشدنا إلى فضلها وحسنها، نراها مطابقة لما في أدعية القرآن السالفة من حيث خلوها من التوسل المبتدع المشار إليه، وهاك بعض تلك الأدعية النبوية المختارة:
فمنها دعاء الاستخارة المشهور الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه – إذا هموا بأمر – كما كان يعلمهم القرآن، وهو: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تَقْدِرُ ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. 9
ومنها: ” اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر “10 و” اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي “.11
و” اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى “.12 و: ” اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك “.13 و: ” اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد نعوذ بك من النار ” 14، ومثل هذه الأدعية في السنة كثير، ولا نجد فيها دعاء واحداً ثابتاً فيه شيء من التوسل المبتدع الذي يستعمله المخالفون.
أيها الإخوة! ومن الغريب حقّاً أننا نرى هؤلاء يعرضون عن أنواع التوسل المشروعة السابقة.
فلا يكادون يستعلمون شيئاً منها في دعائهم أو تعليمهم الناس مع ثبوتها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة عليها، وتراهم بدلاً من ذلك يعمدون إلى أدعية اخترعوها، وتوسلات ابتدعوها لم يشرعها الله – عز وجل -، ولم يستعملها رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم تنقل عن سلف هذه الأمة من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، وأقل ما يقال فيها: إنها مختلف فيها، فما أجدرهم بقوله – تبارك وتعالى -: ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61].
هذا ولم ننفرد نحن بإنكار تلك التوسلات المبتدعة، بل سبقنا إلى إنكارها كبار الأئمة والعلماء، وتقرر ذلك في بعض المذاهب المتبعة، ألا وهو مذهب أبي حنيفة – رحمه الله -، فقد جاء في ” الدر المختار ” 15– وهو من أشهر كتب الحنفية – ما نصه:
عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180].
ونحوه في 2 ” الفتاوى الهندية ” 16 وقال القُدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى ب- ” شرح الكرخي ” في باب الكراهة: قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف، قال:……. وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، قال القُدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. وهذا قد نقله شيخ الإسلام في ” القاعدة الجليلة ” وقال الزبيدي في ” شرح الإحياء ” 17: كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك، إذ ليس لأحد على الله حق، وكذلك كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك.
أيها الإخوة! إن من استبان له الدليل في المسألة عن الله ورسوله ولم ينقد لحكمهما اتباعاً لقول أحد من الناس هذا يخشى عليه الفتنة عند الموت والزيغ عند الشهادة بالحق في الموت وفي القبر، والهلاك يوم الحشر والسؤال والحساب، وهذا كلام ليس من عندي ولا من عند أبي ولكنه قول الله العظيم في قرآنه.
كان الإمام أحمد – رحمه الله – تعالى يقول: (عجبت لقومٍ عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، ثم قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك) 18.
نعم، فلا يوزن قول الله تعالى ورسوله على قول أحد وإنما يوزن بقول الله وبقول رسول الله قول كل أحد، كما قال الزهري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر الذي توزن عليه الأشياء على سنته وسيرته وهديه صلى الله عليه وسلم فما وافقها فهو الحق وما خالفها فهو الباطل..
فالأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم.
قال الإمام أبو حنيفة: ” إذا صح الحديث فهو مذهبي “. 19
وقال الإمام مالك بن أنس: ” إنما أنا بشر أخطئ وأصيب في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه “. 20
وقال: ” ما بنا إلا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر “. 21
وقال الإمام الشافعي: ” إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله (فقولوا بسنة رسول الله ودعوا ما قلت – وفي رواية – فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد “. 22
وقال الإمام أحمد بن حنبل: ” لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذوا من حيث أخذوا “. 23
وقال: ” رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار” .24
ورحم الله الذي قال:
وقول أعلام الهدى لا يعمل … بقولنا دون نص يقبل
قال أبو حنيفة الإمام … لا ينبغي لمن له إسلام
أخذاً بقولي حتى تُعرضَ … على الحديث والكتاب المرتضى
ومالك إمام دار الهجرة … قال وقد أشار نحو الحجرة25
كل كلام منه ذو قبول … ومردود سوى الرسول
وأحمد قال لهم لا تكتبوا عني … بل أصل ذاك فاطلبوا
فاسمع مقالات الهداة الأربعة … واعمل بها فإن فيها منفعة
لقمعها لكل ذى تعصب … والمنصفون يكتفون بالنبي
صلى الله وسلم على الحبيب المصطفى ورضي الله عن أصحابه الكرام أجمعين ورحم الله الأئمة والعلماء الذين ساروا على النهج النبوي المبارك.
فرحمهم الله دلونا على الخير أحياء وأمواتاً وتبرؤوا من الأخطاء التي يُلزم الناس بها اليوم من لا يفقه ولا يعلم شيئاً من أدعياء العلم بحجة أنها من مذهبهم حتى بعد ظهور الدليل بخلافها فهم منها برآء.
الشبهة العاشرة: التعويل على المنامات والحكايات والأباطيل والكذب:
فإذا كان أهل السنة ينطلقون من منهج متين أصيل في التلقي والاستدلال، فإن القبوريين يعوّلون في تلقيهم واستدلالهم على المنامات والأحاديث المكذوبة والحكايات المزعومة.
فيحتجون بأحلام شيطانية على تجويز شركهم وكفرهم بالله – تعالى – وهذا شيء مثبوت في كتبهم لا نفتري عليهم، ومن ذلك أن أبا المواهب الشاذلي يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لي: إذا كانت لك حاجة وأردت قضاءها فانذر لنفيسة الطاهرة ولو فلساً؛ فإن حاجتك تقضى) 26وهذا ما قاله الشعراني في كتابه طبقات الصوفية الذي يعتبرونه كتابهم الأول المقدس
فهذا حلم شيطاني، ودعوة صريحة للشرك بالله – عز وجل -، ونقض للتوحيد، وتنقّص لمقام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذي مكث ثلاثة وعشرين عاماً يدعو إلى إفراد الله – تعالى – بالعبادة، ويسد كل طريق يفضي إلى الشرك.
وعلى كلّ؛ فالمنامات لا يمكن ضبطها، وصاحبها ليس نبيّاً معصوماً، ومن ثم فلا يعتمد عليها؛ فكيف إذا كانت حلماً شيطانيّاً وخالف الأحكام الشرعية، بل وخالفت الأصل الأصيل وهو إفراد الله – تعالى – بجميع أنواع العبادة؟
يقول شيخ الإسلام: (وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رُئِيَ في المنام هناك؛ ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها، وتتخذ مصلى، هذا بإجماع المسلمين، وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب)27
والمخرفون من المسلمين سلكوا مسلك أهل الكتاب في هذا ويحتجون بأحاديث مكذوبة مثل: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور).
(فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم ، بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة)28.
وأشار ابن القيم – رحمه الله – إلى أن هذا الحديث من الأحاديث المختلَقة التي وضعها أشباه عبّاد الأصنام من المقابرية على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – 29.
فمجيزو التوسل المبتدع يعتمدون على أحاديث مكذوبة كما يعتمدون على حكايات في تجويز الغلو في القبور والاستغاثة بها، وأن الدعاء عندها هو الترياق المجرّب..
وغالب هذه الحكايات من اختلاق الدجّالين الأفاكين الذين لا يهمهم إلا أكل أموال الناس بالباطل والصدّ عن دين الله – تعالى – وبعضهم مسكين جاهل قد يدعو عند قبر بحاجة ويستجيبها الله فيظن أن ذلك بسبب القبر30
وإجابة الدعاء، قد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمراً قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى31لكن ليس من ضمنها القبر وصاحبه حتماً، وهكذا يعتمد هؤلاء على حكايات ومنامات خرافية.
وقد تكون تلك الحكايات كذبًا ممن رأوها وقد تكون صحيحة، ولكنها من الشيطان، فإنه قد يتراءى لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، ويتسمى باسمه، وقد تقضي الشياطين بعض حوائج من استغاث بالأموات..
يقول ابن تيمية:
(وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة؛ فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت.. ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلّمه ببعض ما سأله عنه.. وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصوّرت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسّن لهم الإشراك بالله ودعاء غير الله)32 وبهذا – أيها الإخوة – نكون قد هدمنا فسطاط الخرافة وبينا حقيقة القبورية وأظهرنا عوار أدلتها على التوسل الممنوع فلم يبق لمن أراد الوسيلة إلا أن يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وبالعمل الصالح وأن يطلب من الصالحين الأحياء أن يدعوا له
أيها الإخوة! يتعين على أهل العلم كشف عوار مسلك القبوريين وبيان تهافته، وفساد التعويل على المنامات والأحلام، والأحاديث الموضوعة، والحكايات المزعومة، مع تقرير المنهج الصحيح في التلقي والاستدلال كالاعتماد على الكتاب والسنة الصحيحة، واعتبار فهم السلف الصالح. 33
نسأل الله تعالى أن يعلمنا من ديننا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، اللهُم إنَّا نسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشْد، والإتقَان في العَمَل، وَالإحسانَ فيما نأتي وما نَذر. وَنسْأَلُكَ منْ خير ما تَعْلم، ونعوذُ بك من شَرّ ما تَعْلم. وَنسألُك قَلْبا سَلِيمَا، ولسانًا صادقًا، وعملاً صالحًا، وسَداداً في الخير. والسلامُ على مِنْ اتَّبَع الهُدَى.
- الأصل: ” لا تلمزونا يا خفافيش الدجى “، فعدلت عنها إلى ما هو مثبت لما يقتضيه مقام الدعوة بالحسنى. ↩︎
- فتح الباري 2/ 397. ↩︎
- القاعدة الجليلة صحيح: 53. ↩︎
- لا يصح، أخرجه الدارمي في سننه 1 / 43 – 44 وفيه أبو النعمان وهو محمد بن الفضل المعروف بعارم وقد كان اختلط في آخر عمره كما قال العقيلي وغيره من أهل الحديث. واظر: مشكاة المصابيح 5950. ↩︎
- الرد على البكري ” (5) ص68-74. ↩︎
- أخرجه البخاري 546، ومسلم 1413. ↩︎
- أخرجه مسلم 972. ↩︎
- الواسطة ص5. ↩︎
- أخرجه البخاري 1162. ↩︎
- أخرجه مسلم 7078. ↩︎
- أخرجه النسائي 3 / 54، 55، وأحمد 4 / 364، وصححه الألباني في صحيح النسائي1 / 280 و 1 / 281. ↩︎
- أخرجه مسلم 7079. ↩︎
- رواه الترمذي وحسنه وهو كما قال وانظره بتمامه مع تخريجه في تخريج الكلم – 225. ↩︎
- رواه الحاكم والطبراني وإسناده حسن لغيره كما بينه في الصحيحة – 1544، [46]. ↩︎
- الدر المختار 2/ 630. ↩︎
- الفتاوى الهندية 5/ 280. ↩︎
- شرح الإحياء ” 2/ 285. ↩︎
- أخرجه ابن بطة في الإبانة 1/ 260 رقم 97، وانظر مسائل عبدالله 3/ 1355. ↩︎
- ابن عابدين في ” الحاشية ” 1/ 63. ↩︎
- ابن عبد البر في الجامع 2/ 32. ↩︎
- راجع تخريج هذا الأثر في كتاب: ” صفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ” للألباني ص / 26 حاشية 3، ط. المكتب الإسلامي 1403هـ-. و أورده العجلوني في ” كشف الخفاء ” : 1961. ↩︎
- النووي في المجموع 1/ 63. ↩︎
- ابن القيم في إعلام الموقعين 2/ 302. ↩︎
- ابن عبدالبر في الجامع 2/ 149 وعمومًا انظر جامع بيان العلم وفضله 2/ 132، وإعلام الموقعين 2/ 171،وفتح المجيد ص383. ↩︎
- أي: حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ↩︎
- طبقات الشعراني 2/ 74. ↩︎
- اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 650. ↩︎
- مجموع الفتاوى 1 / 112. ↩︎
- انظر: إغاثة اللهفان 1/ 332. ↩︎
- اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 652، وإغاثة اللهفان، 1/ 333. ↩︎
- اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 653، وانظر: إغاثة اللهفان 333، 334.. ↩︎
- انظر: مجموع الفتاوى، 71/ 456، باختصار، وانظر: الدعاء لجيلاني خضر العروسي، 1/ 447، 2/ 812. ↩︎
- هاتان الخطبتان ” تساؤلات “، و” شبهات ” اعتمدت فيهما على كتاب: ” التوسل أنواعه وأحكامه ” للعلامة الألباني، وعلى كتاب: ” التوصل إلى حقيقة التوسل، لفضيلة الشيخ محمد نسيب الرفاعي “. ↩︎