شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(خطبة جمعة)
إن الحمد لله نحمد ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، عباد الله:
﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله:
إن العبد المؤمن، هو الذي يدفعه إيمانه إلى عمل الخير والبعد عن الشر، بل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن قد تكون هناك بعض العوائق التي تحول بينه وبين هذا العمل، وهناك أمور يعدها بعض الناس عوائق أمام قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي في الحقيقة ليست أموراً عائقة أمام هذا العمل العظيم، ولكن الشيطان يضخمها في نفوس بعض الناس ليصدهم بذلك عن هذا الأمر الجليل الذي فيه صلاح البلاد والعباد، فيتصورون شبها تحول بينهم وبين هذا العلم.
ومن هذه الشبه على سبيل المثال ما يلي:
الشبهة الأولى:
يقول بعض الناس: إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما ينتج عن ذلك من ضلال الآخرين، لا يضرنا ما دمنا نؤدي شعائر ديننا ونقوم بما أوجبه الله علينا، ويستدلون على شبهتهم هذه بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مّن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 105].
وهذه شبهة قديمة أجاب عنها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه))؛ رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
فهذا يدل على بطلان الاستدلال بهذا الدليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي إن المنكر، والاقتصار على النفس، ومما يؤكد بطلان هذا الاستدلال أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الاهتداء، فلا يتم الاهتداء إلا به. فعن سعيد بن المسيب: ﴿ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105] قال: إذا أمرتَ بـالـمعروف ونهيت عن الـمنكر، لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت.
وقد حملها بعض المفسرين على زمان يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقول القرطبي: يجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه.
الشبهة الثانية:
يقول بعض الناس: لا ينبغي لي أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنا مقصر في فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، ويستدل على قوله هذا بالكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه))؛ رواه البخاري.
وللجواب عن هذه الشبهة، يقال: إن الوعيد على ترك المعروف وليس على الأمر بالمعروف، فإن الذم في الآية الأولى ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44] إنما هو على ترك البر لا على الأمر بالبر، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ ﴾ [البقرة: 44] الآية: ((اعلم وفَّقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذمّ الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخاً يُتْلَى على طول الدهر إلى يوم القيامة.
ومما يجاب به عن تلك الشبهة، أن ترك أحد الواجبين ليس مسوغاً لترك الواجب الآخر، فهناك واجبان على المسلم هما:
- فعل المعروف واجتناب المنكر.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذا حصل أن الإنسان قصر في أحد الواجبين فليس ذلك مخولاً له أن يقصر في الواجب الثاني. فإذا كان على سبيل المثال مقصراً في الصلاة، فإنه يلزمه الأمر بها.
وكذلك في جانب المنكر، إذا كان يأكل الربا مثلاً، فإن يلزمه النهي عن أكل الربا.
ولا شك أن أنفع الناس في أمره ونهيه، وأحسنهم في دعوته من كان ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، كما هي حال المرسلين، كما قال شعيب عليه السلام: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].
ومما يجاب به أيضاً:
أن الأخذ بهذه الشبهة تعطيل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلزم من ذلك أن يكون الآمر والناهي معصوماً، فاعلاً لكل ما يأمر به، منتهياً عن ما كل ما ينهى عنه، وهذه درجة صعبة لا يبلغها إلا المرسلون، وبالتالي لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى أحد عن منكر بعد المرسلين.
الشبهة الثالثة:
يقول بعض الناس: إن الناس لا يستجيبون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا فائدة إذا من القيام بهذه العمل.
ومما يجاب به عن هذه الشبهة: أنه ليس الواجب أن يستجيب الناس، فإذا تأملنا توجيه رب العالمين لنبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا في الأمر والنهي، وجدنا أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفه باستجابة الناس له، إنما كلفه بتبليغ الدعوة، في مثل قوله: ﴿ فَإِن تَولّيْتُمْ فَإِنّمَا عَلَىَ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾ [التغابن: 12].
وكذلك؛ فإن ثمرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تقتصر على استجابة الناس فحسب فيتوقف القيام به على الاستجابة، بل يترتب عليه مصالح عديدة تدعو المسلم للقيام به، ولو لم يلق استجابة من الناس، فمن ذلك ما يترتب عليه من الأجر العظيم لمن قام به.
الشبهة الرابعة:
يقول بعض الناس أنا لا ينبغي لي أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، لأنني لست من أهل العلم الذين يسوغ لهم ذلك.
صحيح أنه لابد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العلم بالمأمور به والمنهي عنه، حتى يكون الأمر والنهي على بصيرة، ولكن أي درجة من العلم يحتاجها الآمر والناهي؟
إن العلم المطلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوقف على نوع المأمور به، والمنهي عنه، فهناك أمور من المعروف معلومة من الدين بالضرورة، لا تحتاج إلى مزيد من العلم. فعلى سبيل المثال إذا رأيت تارك الصلاة، هل يحتاج أمرك له، بأداء الصلاة إلى كثير علم؟ لا، بل يكفي للأمر في هذه الحال أن يعرف أن الصلاة من أركان الإسلام، ولا يقوم الإسلام إلا بها.
وما يحصل في الأسواق من المنكرات من تبرج النساء، والمعاكسات ونحوها، منكر ظاهر ومعروف لعامة الناس، فهل إنكار مثل هذه الأمور يحتاج إلى كثير علم؟ معلوم أن المرأة المسلمة مأمورة بالتستر والاحتشام، ومخالفة ذلك مخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى، وارتكاب لمنكر يحتاج إلى إنكار.
عباد الله:
إن هذه الشبه وأمثالها مما يزينه الشيطان للإنسان بأن هذه الأمور من الأعذار التي تبيح له ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالشيطان وأعوانه يدعون إلى إشاعة المنكر بين المسلمين، فقد قال المولى سبحانه وتعالى محذراً عباده من الشيطان ﴿ يَأَيّهَا النّاسُ كُلُواْ مِمّا فِي الأرْضِ حَلاَلاً طَيّباً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ * إِنّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسّوَءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 168 – 169].
الخطبة الثانية
عباد الله:
إن الإنسان المؤمن الذي يطلب رضاء ربه، ويحمل همَّ هذا الدين، ويسعى لصلاح المسلمين، بالحث على الخيرات، والتحذير من المنكرات، لا يستسلم لمثل هذه الشبه والعوائق التي تعوق مسيرته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا ترده الصعاب، ولا الشدائد الصلاب، ولا يخشى في الله لومة لائم ﴿ وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].