شبهات حول الصحابةشبهات وردود

شبهات المشككين في السنة حول الصحابة والرد عليها (2)

استكمالًا للجزء الأول في الردِّ على شبهات المشكِّكين في عدالة الصحابة، أَسرُد في هذا الجزء باقي الردود على الشبهات التي نقلتها عنهم، فمن هذه الشبهات:

رابعًا: استدلالهم بوجود آيات تبيِّن وجود المنافقين وعدم تمايزهم، فأقول: نعم هناك بعض الآيات التي تذكُر هؤلاء المنافقين، ولكن لم ينقل لنا التاريخ نصًّا صحيحًا صريحًا بكذب صحابيٍّ معين في حديثه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولو كَذَب أحدُ المنافقين في أصل من أصول الإسلام أو غيره؛ فالصحابة متوافرون موجودون لنقده، وهم أحرصُ الناس على التثبُّت في الراوية عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ثم إن هذه الآيات التي استدلَّ بها المشكِّكون؛ كان في استدلالهم بها خلطٌ وتداخُلٌ في بعضها؛ كقوله تعالى﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصف: 7]، فهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أهل الكتاب في سورة الصف وموقف بني إسرائيل من موسى وعيسى، ثم هؤلاء المشكِّكون يستدلُّون ببعض التأويلات البعيدة غير المبنيَّة على دليل منطقيٍّ أو عقليٍّ، أو منقول صحيح صريح.

وأقول: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم والصحابة يعرفون المنافقين؛ من خلال التخلُّف عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الغزوات، ومن خلال كلامهم؛ كما قال تعالى مؤكِّدًا معرفتهم: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30]، ولو كانوا كثيرًا لما احتاجوا إلى إخفاء نفاقهم، ولخَرَجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتَلوه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4]، وقد أخبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ الصحابة بأسمائهم؛ كما أخبر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وقد بدأ هؤلاء المنافقون يتناقصون بالهلاك أو التوبة والإخلاص1؛ لما روى الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في أصحابي اثنا عشر منافقًا؛ فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخياط، ثمانية منهم تفكيكهم الدُّبَيْلَةُ وأربعةٌ))2، فلو روى أحدُ هؤلاء المنافقين شيئًا لواجَهَه الصحابة وافتُضِح أمرُه؛ حيث كان حذيفة بن اليمان يعرِفهم ويَعرِف أسماءَهم عندما أخبَرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم كان هؤلاء يتوارون عن الأنظار؛ حتى لا يُفضَح أمرُهم بالنفاق.

سادسًا: أما الرِّدة من بعض الصحابة، وارتكابهم للكبائر، أقول: فمن ارتدَّ ولم يرجع إلى الإسلام؛ فهؤلاء ليسوا من الصحابة لرِدَّتهم، فأَمْرُهم محسومٌ، وليس هناك خلافٌ فيهم؛ كعبدالله بن جحش، ومقيس بن صبابة، وابن خطل، وربيعة بن أمية بن خلف3، وقد عدَّهم العلماء وسردوا أسماءهم جميعًا، وليس لهم روايات عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم4، أما مَن عاد إلى الإسلام؛ كعبدالله بن أبي السرح، وطلحة بن خويلد، وعيينة بن حصين، وعلقمة بن علاثة، والأشعث بن قيس5، فليس لهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرويات إلا في النادر، ولم يتفرَّدوا بها، وقد تتبَّع العلماء كابن حَجَرٍ مروياتهم؛ حيث لم تتجاوز مروياتُهم خمس روايات في كتب السنة النبويَّة، وبعضها في أسانيدها ضَعفٌ لم تثبت في طريق روايتها عنهم، ومَن كانت روايته في الصحاح أو المسانيد، فقد جاءت روايتُه مقرونةً بغيره6.

أما مسألة ارتكاب الكبائر، فقد ثبت أنَّ بعضَ الصحابة ارتكب الكبائر؛ كماعز والمرأة الغامدية، ولكن كم عدد هؤلاء؟ مَن ثَبَتَ عليه ارتكاب الكبيرة عددهم قليل، ولم يرو أحد منهم شيئًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم قد ذكرت سابقًا أننا لا نُثبِت للصحابة مسألةَ العصمة، إنما لم يثبت عن أحد من الصحابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رواية حديث كذب.

سابعًا: أما نقد الصحابة لبعض وتَوثُّقُهم في بعض الروايات، أقول: نعم ثَبَتَ أنَّ بعض الصحابة طلب التوثُّق في بعض الروايات؛ إمَّا عن طريق شاهد أو يمين، فهذا من باب زيادة التوثق والتأكد؛ فعن حميد قال: كنا مع أنس بن مالك، فقال: والله ما كلُّ ما نحدِّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضُنا بعضًا7، وقد أورد هذه الشبهة ابن قتيبة (276هـ) عن النظَّام المعتزلي، وقام بالرد عليها نقلًا وعقلًا في كتابه (تأويل مختلف الحديث)، ومعظم اعتراضات عائشة كانت اعتراضاتٍ عقليةً، وما استندت فيه إلى فَهمها، ثم هذه الاعتراضات كانت من عائشة قديمًا، منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كاستشكالها لفَهم بعض الآيات والأحاديث؛ كاستنكارها على العجوزين اليهوديتين في عذاب القبر، فخطَّأها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في إنكارها8، وحديث مناقشة الحساب، ثم هؤلاء الصحابة ربما أراد بعضهم إقرارَ منهج التثبُّت والتوقِّي في الرواية وتعليم هذا المنهج لغيره؛ قال ابن قتيبة: “وكان كثير مِن جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة، والعباس بن عبدالمطلب – يُقلُّون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نَفَعَني الله بما شاء منه، وإذا حدَّثني عنه محدِّث استحلَفْته، فإنْ حلف لي صدَّقْتُه، وإنَّ أبا بكر حدَّثَنِي وصَدَقَ أبو بكر، ثم ذكر الحديث، أفما ترى تشديد القوم في الحديث، وتوقِّي مَن أمسَكَ كراهيةَ التحريف أو الزيادة في الرواية أو النقصان؛ لأنهم سمعوه عليه السلام يقول: ((مَن كذب عليَّ فليتبوَّأ مَقعده من النار))”9.

ثامنًا: مسألة إكثار أبي هريرة من الرواية؛ فأبو هريرة أسلَمَ قبل الهجرة على يد الطفيل بن عمرو الدوسي في قبيلة دوس في اليمن، عندما جاء الطفيل إلى مكة وأسلم، ثم عاد إلى قبيلته، وهاجَرَ إلى المدينة عام خيبر مع ثمانين بيتًا من قبيلة دوس، ثم لازَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أربعَ سنوات في المسجد مع أهل الصُّفَّة؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أنه مرَّ بأبي هريرة وهو يحدِّث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن تبع جنازةً فصلى عليها فله قيراط، فإن شهِد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم مِن أُحُد))، فقال له ابن عمر: أبا هريرة، انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبو هريرة، حتى انطلق به إلى عائشة، فقال لها: يا أمَّ المؤمنين، أُنشدك بالله، أسمعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن تبع جنازةً فصلَّى عليها فله قيراط، فإن شهِد دفنها فله قيراطان))، فقالت: اللهم نعم، فقال أبو هريرة: “إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَرْسُ الوَدِيِّ، ولا صَفقةٌ بالأسواق؛ إني إنما كنت أَطلُب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمةً يُعلمنيها وأكلةً يُطعمنيها”، فقال له ابن عمر: “أنت يا أبا هريرة كنتَ ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه”10، ويمكننا أنْ نأخذ من هذه القصة عدة أمور؛ منها: منهج الصحابة في التثبُّت في الحديث، ثم عدم تفرُّد أبي هريرة برواية الأحاديث عمومًا، ومعرفة أبي هريرة لمن شاركه في الرواية، ثم شهادة الصحابة في ملازمة أبي هريرة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحفظه لحديثه وتسليمهم بذلك.

ودَعَا له النبيُّ بالحفظ11، ثم عاش أبو هريرة بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قرابة خمسين عامًا (حيث توفي سنة 59هـ)، وقد روى عن الصحابة ورَووا عنه الصحابة، وسمع منه قرابة 760 راويًا، وتفرَّغ للعلم حتى انتشر علمه، وسمع من الصحابة بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانت مجموع رواياته عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مباشِرة أو بواسطة صحابيٍّ آخَر في الكتب التسعة بعد الإحصاء الدقيق: أحاديث أبي هريرة بعد حذف المكرر 1475حديثًا فقط12، وفي هذا العدد الأحاديث الصحيحة الثابتة عن أبي هريرة رضي الله عنه والأحاديث غير الصحيحة التي لم تثبت عنه، وهو أمر معقول في رواية هذا العدد مع تفرُّغه للعلم وسماعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومعظم أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه تابَعَهُ على روايتها غيرُه من الصحابة، ولم ينفرد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا بنحو 110 أحاديث فقط، وهي في الترغيب والترهيب والفضائل13.

وأخيرًا أقول: لقد اصطفى الله تعالى جيل الصحابة على غيرهم لحمل الأمانة، وهم مَن حَمَل لنا هذا الدين بكلِّ أمانةٍ وإخلاصٍ، وكان حالهم يشهد على تضحياتهم؛ كالهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المُهَج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، فنحن على القطع بعدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضلُ مِن جميع المعدَّلين والمزكِّين الذين جاؤوا من بعدهم أبد الآبدين، وهذا مذهب كافة العلماء ومَن يُعتدُّ بقوله من الفقهاء.

وأختم بأسماء بعض الكتب والأبحاث التي تفيد في الرد على مثل هذه الشبهات:

  1.  كتاب (فضائل الصحابة)؛ الإمام أحمد بن حنبل.
  2. كتاب (العواصم من القواصم)؛ القاضي أبو بكر بن العربي.
  3. كتاب (منهاج السنة النبوية)؛ شيخ الإسلام ابن تيمية، فيه كثير من الردود على بعض الشبهات.
  4. (أحداث وأحاديث – فتنة الهرج)؛ د. عبدالعزيز دخان.
  5. كتاب (الصحابة والصحبة – وشبهات حول عدالة الصحابة وضبطهم)؛ د. عبدالله بن عبدالهادي القحطاني.
  6. – كتاب (دفاع عن أبي هريرة)؛ عبدالمنعم علي العزي، وهو من أفضل الكتب في الدفاع عن أبي هريرة.
  7. كتاب (السنة ومكانتها في التشريع)؛ د. مصطفى السباعي.
  8. كتاب (أبو هريرة راوية الإسلام)؛ د. محمد عجاج الخطيب.
  9. رسالة (فتح الواحد العلي في الدفاع عن صحابة النبيِّ)؛ الشيخ سعد الحميد.
  10. – رسالة (الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي)؛ الشيخ عبدالمحسن العباد.
  11. كتاب (موقف المستشرقين من الصحابة)؛ د. سعد بن عبدالله الماجد.
  12. مجموعة أبحاث مؤتمر (الصحابة والسنة النبوية)14، وفيه 35 بحثًا قيمًا في الرد على كثير من الشبهات.
  1. الاستبصار في نقد الأخبار، عبدالرحمن المعملي اليماني، دار أطلس للنشر والتوزيع، ص24. ↩︎
  2. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث7212. ↩︎
  3. أخرج له الإمام أحمد حديثًا واحدًا، وتعقَّبه العلماء في ذلك، ولعل الإمام أحمد لم تَبلغْه قصةُ ارتداده. ↩︎
  4. فتح المغيث، السخاوي، ج4، ص84. ↩︎
  5. واسمه معد يكرب، قال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم: شهِدتُ جنازة فيها الأشعث وجرير، فقدَّم الأشعث جريرًا، وقال: إنه لم يرتد، وقد كنت ارتددت، ورواه ابن السكن وغيره، وكان الأشعث قد ارتدَّ فيمن ارتد من الكنديين، وأُسِرَ، فأحضر إلى أبي بكر فأسلَم، فأطلَقه وزوَّجه أخته أم فروة في قصة طويلة، وقد أخرج له البخاري ومسلم. ↩︎
  6. كتبت الدكتورة شفاء الفقيه (الأستاذ المساعد في قسم الحديث – الجامعة الأردنية) بحثًا حول عدد الصحابة الذين ارتدُّوا ثم عادوا للإسلام ومروياتهم في كتب السنة؛ حيث قامت بإحصاء مروياتهم وبيان حالها، وهو بحث مقدم في مؤتمر: (الفكر المنهجي عند المحدثين)، تونس، عام 2015م. ↩︎
  7. ينظر: التوحيد، محمد بن خزيمة، تحقيق عبدالعزيز الشهوان، مكتبة الرشد، الرياض، ط5، حديث 458/ المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني، حديث 698، ج1، ص296. ↩︎
  8. صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوُّذ من عذاب القبر. ↩︎
  9. تأويل مختلف الحديث، عبدالله بن مسلم بن قتيبة أبو محمد الدينوري، دار الجيل، بيروت، ط، 1972م، ص39. ↩︎
  10. المسند، أحمد بن حنبل، مسند عبدالله بن عمر، مؤسسة قرطبة، حديث 4453، ج2/ ص2/ السنن، محمد بن عيسى الترمذي، كتاب المناقب، مناقب أبي هريرة، حديث3836، وقال الترمذي: حديث حسن. ↩︎
  11. روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هُريرة، قال: قُلتُ: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساهُ، قال ابسُط رداءك فبسطتُهُ، قال: فغرف بيديه، ثُم قال: ((ضُمهُ)) فضممتُهُ فما نسيتُ شيئًا بعدهُ؛ ينظر: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب حفظ العلم، حديث 119، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل أبي هريرة، حديث6552/ السنن، الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أبي هريرة، حديث3834. ↩︎
  12. للمزيد حول إحصائيات عدد مروياته بالضبط ينظر: أبو هريرة راوية الإسلام، د محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، مصر، القاهرة، 1982، ط3، ص136 – 138. ↩︎
  13. ينظر: أحاديث أبي هريرة الصحيحة – دراسة واستقراء، محمد بن علي المطري. ↩︎
  14. وهو مؤتمر أقامته جامعة العلوم الإسلامية الأردنية بالتعاون مع جمعية الحديث الشريف وإحياء التراث في العاصمة عَمَّان بتاريخ 13 – 14/ 11/ 2013م، والأبحاث موجودة على شبكة الإنترنت. ↩︎
المصدر
شبكة الالوكة
زر الذهاب إلى الأعلى