شبهات المشككين في السنة حول الصحابة والرد عليها (1)
حاولتْ بعضُ الفِرَق والتيارات قديمًا وحديثًا الطَّعْنَ في السنة النبوية، مِن خلال الانتقاص مِن بعض الصحابة أو أغلبهم؛ سعيًا منهم لهدْمِ السنة النبوية، والتشكيك في نَقَلَتِها، كما بيَّن ذلك أبو زرعة الرازي (ت264هـ) بقوله: “إذا رأيتَ الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زِنْديقٌ؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ، والقرآن حقٌّ، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يُريدون أنْ يَجرحوا شهودنا ليُبطِلوا الكتاب والسنة، والجَرْحُ بهم أولى، وهم زنادقة”.1
ويمكنني حَصْرُ شُبهات الطاعنين في الصحابة قديمًا وحديثًا في الشُّبهات الآتية:
- 1- قال المشكِّكون: الصحابة من البَشَر وهم كغيرهم مِن الناس يُخطئون ويُصيبون، ويضلُّون ويهتدون، حتى إن سورة التوبة سُمِّيَت بالفاضحة؛ لأنها أظهرتْ حقائق الكثير منهم آنذاك2.
- يوجد في القرآن آياتٌ كثيرةٌ تتحدَّث عن المنافقين في المجتمع النبوي المدني، وقد مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُبيِّنْ هؤلاء المنافقين3.
- ابْتُدِعتْ نظريةُ عدالة الصحابة في العصر الأموي لخدمة أغراض سياسية4.
- الآيات التي يُستدَلُّ بها لعدالة الصحابة جاءتْ عامَّةً، ولم تقصد الصحابة بأعيانهم.
- ارتداد عدد كبير من الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقوع الصحابة في الكبائر.
- نقد الصحابة لبعضهم، وتوثقهم من أخبار بعضهم5، خاصة اعتراضات عائشة الكثيرة على الصحابة.
- انفراد أبي هريرة برواية كثيرٍ من الأحاديث مع قِصَر صُحْبته التي لم تتجاوز أربع سنوات.
ويُمكنني الإجابة عن هذه الشُّبهات باختصار كالآتي:
أولًا: لا بدَّ من تعريف الصحابي، وقد اختلف العلماء في تعريف الصحابي على عدة أقوال، منها: مَنْ لقي النبيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام6، وهذا تعريف جمهور المحدِّثين، ومِن العلماء مَن اشترط طُولَ الملازمة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم7، واشترط ابن عبدالبَر (463هـ) رؤيةَ الصحابي الذي بلغ الحُلُم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو ساعةً من نهارٍ8.
ولتحرير محلِّ النزاع لا بدَّ من القول: إنَّ الصحابيَّ الذي يُبحَث في عدالته هو الصحابيُّ الذي صحَّ سماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوافرت فيه شروطُ الصُّحْبة، وأن يموت هذا الصحابيُّ مسلمًا، وإنْ تخلَّل إسلامَه رِدَّةٌ ثم عاد إلى الإسلام؛ أَيْ: أنْ يكون سماعه في سنِّ التمييز وقادرًا على حفظ ما سمعه، وقال السخاوي في تعريف الصحابي: “وهو لغةً: يقع على من صَحِبَ أقلَّ ما يُطلق عليه اسم صُحْبة، فضلًا عمَّن طالتْ صُحْبتُه، وكَثُرتْ مجالستُه، وفي الاصطلاح: (رائي النبي صلى الله عليه وسلم): اسمُ فاعلٍ من رأى، حال كونه (مسلمًا)، عاقلًا (ذو صُحْبة) على الأصحِّ، كما ذهب إليه الجمهور من المحدِّثين والأصوليين وغيرهم، اكتفاءً بمجرد الرؤية ولو لحظةً، وإنْ لم يقع معها مجالسةٌ ولا مماشاةٌ ولا مكالمةٌ؛ لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كما صرَّح به بعضُهم: إذا رآه مسلمٌ أو رأى مسلمًا لحظةً طبع قلبه على الاستقامة؛ لأنه بإسلامه متهيئ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم أشرف عليه، فظهر أثرُه على قلبه وعلى جوارحه، وممَّن نصَّ على الاكتفاء بها أحمد… وابن المَديني والبخاري”9، فالعدالة عمومًا في علم الحديث: أن يكون راوي الحديث مسلمًا بالغًا عاقلًا سالِمًا من أسباب الفِسْق، وخوارم المروءة، والصحابة الذين رووا الأحاديث لنا لم يُذكَر عن أحدٍ منهم أيُّ أمرٍ يُخرجه من دائرة العدالة بأمر يُفسِّقه، ومَنْ هُم غير ذلك؛ هم خارج محلِّ النزاع حاليًّا، وسنتحدَّث بعد قليلٍ عن مسألة ردَّةِ بعض الصحابة.
ثانيًا: فإن قالوا: هم بشرٌ ويُخطئون، أقول: هناك خلْطٌ بين مسألة عدالة الصحابة، ومفهوم العدالة المقصود بها في علم الحديث، فالعدالة التي يقصدها المحدِّثون هي: عدم تعمُّد الكذب من الصحابة في رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليست العِصْمة من المعاصي التي يقول بها الشيعةُ، فربَّما وقع بعضُ الصحابة في بعض المعاصي، ولكن لم يتعمَّد أحدٌ منهم الكذب، ولم يُنقل إلينا كذبُ أحدِهم، وقد ذكر السخاوي (902هـ) عن ابن الأنباري (328هـ) قوله: “وليس المرادُ بعد التُّهمِ ثُبُوتَ العِصْمة لهم، واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد: قبول روايتهم مِن غير تكلُّف ببحثٍ عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا إن ثَبَتَ ارتكاب قادح، ولم يثبُتْ ذلك ولله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه”10.
فالعدالة هنا ليست العِصْمة مِن الذنوب، وليست امتحان استخراج معلومات؛ إنما نَقلُ عِلمٍ يقوم به المتمكِّن من الحفظ، ثم لو نظرنا إلى عدد الصحابة عمومًا، على سبيل المثال: ذكر العلماء أنَّ عدد الصحابة مئة ألف صحابي، فكم عدد الصحابة الذين رووا الأحاديث؟ ومسند الإمام أحمد أكثرُ كتابٍ جمع روايات الصحابة، وفيه أخرج الإمام أحمد لـ(904) من الصحابة، منهم (80) صحابيًّا مُبْهمون دون اسم، فبقي (824) صحابيًّا وصحابية، فتكون نسبة مَن روى عن النبي لا يتجاوز (0,008) أي ثمانية بالألف، وعدد المكثرين من هؤلاء الذين رووا أكثر من 500 حديث هم 7 صحابة فقط11، فمعظم الصحابة لم يرووا الأحاديث مع الحاجة لها وتوافر دواعيها وطلب التابعين لها، وفتوح البلدان، وكان أكثر حديث جاء عن الصحابة رواية هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ كَذِبًا عَليَّ ليس كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار))12؛ حيث رواه أكثر من سبعين صحابيًّا.
ثالثًا: اتَّفق أهل السنة والجماعة على عدالة جميع الصحابة13 بنصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة؛ أي: إنه لم يثبت أن أحدًا من الصحابة كذب، أما الخطأ والنسيان فممكن ذلك، فهم بشرٌ غير معصومين، وأذكر هنا بعض الأدلة على عدالتهم:
ومن السنة النبوية: عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَسُبُّوا أصحابِي فلو أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهمْ ولا نَصِيفَهُ))14، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْني ثمَّ الذين يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ))15، فهذه الخيرية عامةٌ في كلِّ شيء.
ونقل كثيرٌ من العلماء الإجماع على عدالتهم، قال الغزالي (505هـ): “والذي عليه سَلَف الأمَّة وجماهير الخَلَف أن عدالتهم معلومةٌ بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدُنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكابُ واحدٍ لفِسْق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل”16.
وقال أبو محمَّد بن حزم (456هـ): “الصحابة كلُّهم من أهل الجنة قطعًا؛ قال اللَّه تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد: 10]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101]، فثبت أن الجميع من أهل الجنة، وأنه لا يدخل أحدٌ منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية السابقة، فإن قيل: التقييد بالإنفاق والقتال يُخرج من لم يتَّصِفْ بذلك، وكذلك التقييد بالإحسان في الآية السابقة، وهي قوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ [التوبة: 100] يُخرج من لم يَّتصِف بذلك، وهي من أصرح ما ورد في المقصود، ولهذا قال المازري في «شرح البرهان»: “لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول – كلَّ من رآه صلَّى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم يومًا ما، أو زاره لمامًا، أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب، وإنما نعني به: الذين لازموه ﴿ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157] 17.
وقال الخطيب البغدادي (463هـ): “واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء ومَنْ يُعتدُّ بقوله من الفقهاء”18.
يتبع: الرد على باقي الشُّبهات عن الصحابة.
- الكفاية في علم الرواية؛ الخطيب البغدادي؛ تحقيق: أبي عبدالله السورقي، إبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ص 49. ↩︎
- قال هذه الدعوة: زكريا أوزون؛ جناية البخاري، إنقاذ الدين من إمام المحدِّثين، بيروت، رياض الريس للطباعة والنشر، ط1، ص19/ ومحمود أبو رية؛ أضواء على السنة المحمدية، ص339. ↩︎
- قالها: محمد حمزة؛ الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، الدار البيضاء، المؤسسة العربية للتحديث الفكري، ص91. ↩︎
- قالها: أحمد حسين يعقوب، نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية، ص39/ وقالها: محمد حمزة؛ الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، ص39. ↩︎
- محمود أبو رية؛ أضواء على السنة المحمدية، ص361. ↩︎
- نزهة النظر؛ ابن حجر، ص140. ↩︎
- وهو رأي سعيد بن المسيب، والقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، ومَنْ وافقهم من الفقهاء والأصوليين. ↩︎
- يُنظر: الخطيب البغدادي؛ الكفاية في علم الرواية، ص50. ↩︎
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث؛ شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي، تحقيق: علي حسين، مكتبة السنة، مصر، ج4، ص78. ↩︎
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث؛ شمس الدين السخاوي؛ تحقيق: علي حسين، مكتبة السنة، مصر، ج4، ص100. ↩︎
- ينظر: الحداثة وموقفها من السنة؛ الحارث فخري عيسى، دار السلام، القاهرة، ط1، ص215. ↩︎
- رواه البخاري ومسلم، والحديث متواتر عن قرابة سبعين صحابيًّا. ↩︎
- علوم الحديث؛ أبو عمر عثمان ابن الصلاح، ص56، وللمزيد حول أقوال العلماء في الإجماع ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة؛ ابن حجر العسقلاني، ج1، ص17 وما بعدها، فتح المغيث شرح ألفية الحديث؛ شمس الدين السخاوي، ج4، ص100. ↩︎
- أخرجه البخاري، كتاب: فضائل الصحابة، 5، حديث 3470. ↩︎
- صحيح البخاري، كتاب: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: فضائل أصحاب النبي، حديث5431/ صحيح مسلم؛ كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة، حديث 6655/ ورواه أصحاب السنن. ↩︎
- المستصفى في علم الأصول؛ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي؛ تحقيق: محمد بن سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1997م، ج1، ص307، وقد عقد الغزالي فصلًا خاصًّا لبيان عدالة الصحابة بالأدلة. ↩︎
- نقلا عن: الإصابة في تمييز الصحابة؛ أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: عادل عبدالموجود، المكتبة العلمية، بيروت، ج1، 163. ↩︎
- الكفاية في علم الرواية؛ الخطيب البغدادي، ص48. ↩︎