زهد الصوفية في العلوم الشرعية
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
من أصعب الأمور على المتصوفة الاهتمام بالعلوم الشرعية، وخاصة الحديث والفقه؛ لأن هذه العلوم تكشف ما هم عليه من جهل، فالمتقدِّمون منهم كان لهم عنايةٌ بالعلوم الشرعية، ولكن إمَّا أن يكون أحدهم مفصوم الشخصية؛ فتجده عالِماً في الفقه وأصوله، ولكن عندما يتكلَّم في “التصوف” ينقلب إلى شخصية أُخرى؛ كأبي حامد الغزالي1، وإمَّا أنْ يترك العلمَ بعد أن يكون قد أخذ بقسطٍ وافر منه، باعتبار أنَّ العلمَ وسيلةٌ للعمل، فإذا وصل إلى العمل فلا داعي للعلم، وهذه مغالطة؛ لأنَّ المسلم يحتاج للعلم حتى آخر لحظة من حياته، وقد رمى “أحمد بن أبي الحواري” كُتُبَه في البحر؛ وقال: “نِعمَ الدليل كنتِ”2، و(كان الشبلي3 حين غَسَلَ كُتبَه بالماء، يقول: “نعم الدليل أنتم، ولكن اشتغالي بالدليل بعد الوصول إلى المدلول مُحال”)4.
وبَرَّر أبو حامد الغزَّالي هذا البُعد من “علوم الشريعة” وهذا المَيل إلى المتصوفة بـ “علم الكَشْف” فيقول: (اعلم أنَّ مَيل أهل التصوف إلى الإلهية دون التعليمية؛ ولذلك لم يتعلَّموا، ولم يحرصوا على دراسة العلم، وتحصيل ما صنَّفه المصنفون؛ بل قالوا: الطريقُ تقديمُ المجاهدات، وقطع العلائق كلها، والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة؛ وذلك بأنْ يقطع الإنسانُ همَّه عن الأهل والمال والولد والعلم، ويخلو نفسَه في زاوية، ويقتصر على الفرائض والرواتب، ولا يقرن همَّه بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في نفسه، ولا يكتب حديثاً، ولا غيره، ولا يزال يقول: الله، الله، الله، إلى أن ينتهي إلى حالٍ يترك تحريك اللسان، ثم يمحى عن القلب صورة اللفظ)5.
يقول ابن الجوزي رحمه الله – مُعلِّقاً على كلام “الغزَّالي”: (عزيزٌ عليَّ أن يصدر هذا الكلام من فَقِيهٍ؛ فإنه لا يخفى قُبحه، فإنه في الحقيقة طَيٌّ لبساط الشريعة)6.
وقال – في موطن آخَر: (وأني لأتعجَّبُ من “أبي حامدٍ” كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة… فما أرخص ما باع “أبو حامدٍ الغزَّالي” الفقه بالتصوف)7.
وقال ابن تيمية – عن كتاب “الإحياء”: (“الإحْيَاءُ” فِيهِ: فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ؛ لَكِنْ فِيهِ: مَوَادُّ مَذْمُومَةٌ: فَإِنَّهُ فِيهِ: مَوَادُّ فَاسِدَةٌ مِنْ كَلامِ الْفَلاسِفَةِ؛ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ فَإِذَا ذَكَرَ مَعَارِفَ الصُّوفِيَّةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى ” أَبِي حَامِدٍ ” هَذَا فِي كُتُبِهِ. وَقَالُوا: مَرَّضَهُ “الشِّفَاءُ” يَعْنِي: شِفَاءَ ابْنِ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ. وَفِيهِ: أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ضَعِيفَةٌ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَفِيهِ: أَشْيَاءُ مِنْ أَغَالِيطِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ. وَفِيهِ: مَعَ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالأدَبِ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَرِدُ مِنْهُ، فَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ اجْتِهَادُ النَّاسِ وَتَنَازَعُوا فِيهِ)8.
وهناك مقولة شهيرة للصوفية، تُعيِّر بها أهل الحديث، إذْ يقولون: (أخذتم عِلمَكم مَيِّتاً عن ميت، وأخذنا عِلمنا عن الحيِّ الذي لا يموت)9.
وقال علي بن مهدي رحمه الله: (وقفتُ ببغداد على حلقة الشبلي، فنظر إليَّ – ومعي محبرة، فأنشأ يقول: إذا خاطبوني بعِلْمِ الوَرَق برزتُ عليهم بعلم الخِرَق)10.
قال ابن تيمية رحمه الله – في معرض ردِّه على ترك الصوفية والمبتدعة للعلوم الشرعية: (أَهْلُ “الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ” يُزَيِّنُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، وَيُبَغِّضُ إلَيْهِمْ السُّبُلَ الشَّرْعِيَّةَ؛ حَتَّى يُبَغِّضَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَلا يُحِبُّونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلا ذِكْرَهُ، وَقَدْ يُبَغِّضُ إلَيْهِمْ حَتَّى الْكِتَابَ فَلا يُحِبُّونَ كِتَابًا، وَلا مَنْ مَعَهُ كِتَابٌ، وَلَوْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ حَدِيثًا؛ كَمَا حَكَى النصرباذي أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: “يَدَعُ عِلْمَ الْخِرَقِ، وَيَأْخُذُ عِلْمَ الْوَرَقِ” قَالَ: “وَكُنْت أَسْتُرُ أَلْوَاحِي مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَبِرْتُ احْتَاجُوا إلَى عِلْمِي”)11.
ومن الأحاديث المكذوبة: ادِّعاء الصوفية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا)، وقال بعض العارفين: (أَوَّلُ الْمَعْرِفَةِ الْحَيْرَةُ، وَآخِرُهَا الْحَيْرَةُ)12.
قال ابن تيمية رحمه الله: (هَذَا الْكَلامُ الْمَذْكُورُ “زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا” مِنْ الأحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يَرْوِيه جَاهِلٌ أَوْ مُلْحِدٌ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ [صلى الله عليه وسلم] كَانَ حَائِرًا، وَأَنَّهُ سَأَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْحَيْرَةِ، وَكِلاهُمَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ بِمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ، وَأَمَرَهُ بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ مِنْ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: ﴿ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ [صلى الله عليه وسلم] كَانَ عَالِمًا، وَأَنَّهُ أُمِرَ بِطَلَبِ الْمَزِيدِ مِنْ الْعِلْمِ)13.
- هو: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزَّالي، تفقَّه على إمام الحرمين، ومهر في الكلام والجدال، وتأثَّر بكتب “ابن سينا” و”إخوان الصفا” ، ثم ترك ذلك ومال إلى الصوفية، وكان من الأذكياء، صاحب ذهن سيَّال جوال، ولذلك يُلاحظ عليه: التقلب بين الفقه، والالتزام بآداب الشرع، وبين الخوض في الفلسفة والكلام والصوفية، وله في ذلك ألفاظ مستبشعة جداً سقط فيها على أم رأسه، له تآليف مشهورة في “الفقه” و”التصوف” و”الرد على الفلاسفة”، توفي سنة (505 هـ) ببلدة طوس. انظر: سير أعلام النبلاء، (19/ 325). ↩︎
- انظر: الصوفية نشأتها وتطورها، (ص 54، 55). ↩︎
- هو أبو بكر الشبلي، قال الذهبي: كان يحصل له جفاف دماغ، فيقول أشياء يعتذر عنه فيها، وله مجاهدات عجيبة، انحرف فيها مزاجه. انظر: سير أعلام النبلاء، (15/ 368). ↩︎
- تفسير روح البيان، حسن بن قاسم المرادي (2/ 340). ↩︎
- تلبيس إبليس، (ص 286). انظر: إحياء علوم الدين، (4/ 7). ↩︎
- تلبيس إبليس، (ص 286). ↩︎
- تلبيس إبليس، (ص 312). ↩︎
- مجموع الفتاوى، (10/ 551، 552). ↩︎
- مجموعة الرسائل والمسائل، لابن تيمية (5/ 99)؛ تفسير روح البيان، (9/ 248). ↩︎
- تلبيس إبليس، (ص 291). ↩︎
- مجموع الفتاوى، (10/ 411). ↩︎
- مجموع الفتاوى، (11/ 383). ↩︎
- مجموع الفتاوى، (11/ 384). ↩︎