دلائل حفظ القرآن وتنزيهه عن التحريف
الحمد لله الذي قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] وتحدى الخلق بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 23، 24]، والصلاة والسلام على النبي الهادي البشير النذير الذي أزال شبهات أصحابه، ودحض أباطيل المشركين والمنافقين، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فالشيطان اللعين يستفزُّ من استطاع من خلق الله بالشبهات والشهوات ويؤزُّ العباد أزًّا ليصيرهم من أصحاب الجحيم.
والشبهات التي نسمعها أو نراها على وسائل التواصل الاجتماعي لها أسباب ودوافع وأهداف، وينبغي علينا أن نتفرَّس فيمن يسأل السؤال ونختبره لنعلم هل هو صاحب شبهة عارضة ويحتاج إلى تفنيدها وإزالتها، أم هو منافق خبيث يريد دحض الإسلام وإسقاطه، أم هو مؤمن يريد زيادة الإيمان من باب ولكن ليطمئن قلبي؟
وبمعرفة حال السائل قد تختلف الإجابة في بعض جوانبها ومناحيها.
شبهة قد تشغل قلوب بعض العباد؛ وهي ما الذي يضمن لي أن القرآن الذي بين أيدينا ما زال محفوظًا لم تنلْه يدُ التحريف؟ يقول في شبهته أيضا (هناك بعض الأمور في القرآن قد تدل على أنه قد ناله تغيير أو تحريف).
هناك بعض الأمور في القرآن قد تدل على أنه قد ناله تغيير أو تحريف.
نستعين بالله ونقول:
أولًا: هذه دعوى مجردة بلا برهان، فنطالب السائل بدليل واحد صحيح على ذلك ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]
فالدعاوى إن لم تقم عليها . . . بينات أصحابها أدعياء
فإن لم يأتِ به فهذا هو الإفحام، وإن أتى بأي دليل نستطيع تفنيد أدلته واحدًا واحدًا؛ ليؤمن شاكٌّ، ويوقن مؤمنٌ، ويُدحَر منافقٌ وخبيثٌ.
وأكثر مَنْ يُورِد هذه الشُّبُهات المستشرقون، و”شبهات المستشرقين متهافتة؛ لأنهم انطلقوا من منطلقات البعد عن الحياد العلمي النزيه، فكانت شبهاتهم إما أنها تقوم على إغفال جانب الحفظ، أو إلقاء التُّهَم جزافًا بغير دليل، أو إساءة فهم النص عمدًا، أو جهلهم بقواعد قبول الخبر أو تحريف النصوص والكذب حتى توافق هواهم”1.
نستطيع أن نجمع أدلة عدم تحريف القرآن في النقاط التالية:
- تواتره حفظًا ورسمًا؛ أي: حفظ الصدور في قلوب حافظيه، والسطور في صفحات مصاحفنا، والأصل هو حفظ الصدور.
- قال شيخ الإسلام: “وَالْقُرْآنُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِمَادُ فِي نَقْلِهِ عَلَى نُسَخِ الْمَصَاحِفِ، بَلْ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِفْظِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ لَهُ فِي صُدُورِهِم؛ وَلِهَذَا إِذَا وُجِدَ مُصْحَفٌ يُخَالِفُ حِفْظَ النَّاسِ أَصْلَحُوهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَاحِفِ غَلَطٌ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ قَدْ قَيَّدَ النَّاسُ صُورَةَ الْخَطِّ وَرَسْمَهُ، وَصَارَ ذَلِكَ أَيْضًا مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ، فَنَقَلُوا بِالتَّوَاتُرِ لَفْظَ الْقُرْآنِ حِفْظًا، وَنَقَلُوا رَسْمَ الْمَصَاحِفِ أَيْضًا بِالتَّوَاتُرِ”، وقال أيضًا: “الدِّينُ الذي اجتَمع عليه المُسلِمونَ اجتِماعًا ظاهِرًا مَعلومًا، هو مَنقولٌ عن نبيِّهم نَقلًا متواتِرًا، نقلوا القرآنَ، ونَقلوا سُنَّتَه؛ وسُنَّتُه مُفَسِّرةٌ للقرآنِ، مُبَيِّنةٌ له، كما قال تعالى له: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، فبَيَّنَ ما أنزَلَ اللهُ لَفْظَه ومَعناه، فصارت معاني القُرآنِ التي اتَّفقَ عليها المُسلِمونَ اتِّفاقًا ظاهِرًا ممَّا توارثَتْه الأمَّةُ عن نبيِّها، كما توارَثَت عنه ألفاظَ القرآنِ، فلم يكُنْ-ولله الحمدُ- فيما اتَّفَقَت عليه الأمَّةُ شَيءٌ مُحَرَّفٌ مُبدَّلٌ مِن المعاني، فكيف بألفاظِ تلك المعاني؟! فإنَّ نَقْلَها والاتِّفاقَ عليها أظهَرُ منه في الألفاظِ، فكان الدِّينُ الظَّاهِرُ للمُسلِمينَ- الذي اتَّفَقوا عليه ممَّا نقلوه عن نبيِّهم- لفظه ومعناه، فلم يكُنْ فيه تحريفٌ ولا تبديلٌ، لا لِلَّفظِ ولا للمَعنى، بخلافِ التَّوراةِ والإنجيلِ؛ فإنَّ مِن ألفاظِها ما بَدَّلَ معانيَه وأحكامَه اليهودُ والنَّصارى- أو مَجموعهما- تبديلًا ظاهِرًا مَشهورًا في عامَّتِهم2.
- وقد أحسن د محمد حسن حسن جبل في كتابه المتين “وثاقة نقل النص القرآني من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته” ذكر فيه بابين: باب وثاقة النقل الشفهي، وباب وثاقة النقل الخطي، وذكر السند من رسول الله إلى قُرَّائنا ووضع تواتر ذلك بشكل موثق.
- كانت هناك محاولات لمن أراد أن يأتي بسور كسور القرآن، فأخزاهم الله وسجَّل التاريخ خزيهم وفشلهم ونقل ذلك لنا.
- ما نشاهده من تيسير لحفظ القرآن على الصغير والكبير وما نراه وتيسير فهمه لمن شرح الله صدره ووجد منه نية وهمة ومن اختبر الكتب السماوية الموجودة الآن بإنصاف سيجد براهين صدق القرآن وعدم تحريفه جليلة، ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره قصة عجيبة تُوضِّح ذلك فقال: أَنْبَأَنَا الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عبدالله عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَعْزُوزٍ الْكَوْمِيِّ التِّلمسَانِيِّ قَالَ: قُرِئَ عَلَى الشَّيْخَةِ الْعَالِمَةِ فَخْرِ النِّسَاءِ شُهْدَةَ بِنْتِ أَبِي نَصْرٍ أَحْمَد بْنِ الْفَرَجِ الدِّينَوَرِيِّ وَذَلِكَ بِمَنْزِلِهَا بِدَارِ السَّلَامِ فِي آخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، قِيلَ لَهَا: أَخْبَرَكُمُ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ الْعَامِلُ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ أَبُو الْفَوَارِسِ طَرَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتِ تَسْمَعِينَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عبدالله بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ عِيسَى بن محمد بن أحمد بن عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ الْمَعْرُوفُ بِالطُّومَارِيِّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ فَهْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ يَقُولُ: كَانَ لِلْمَأْمُونِ- وَهُوَ أَمِيرٌ إِذْ ذَاكَ- مَجْلِسُ نَظَرٍ، فَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ حَسَنُ الثَّوْبِ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: فتكلَّم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما أن تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ: إِسْرَائِيلِيٌّ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ حَتَّى أَفْعَلَ بِكَ وَأَصْنَعَ، وَوَعَدَهُ فَقَالَ: دِينِي وَدِينُ آبَائِي! وَانْصَرَفَ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ جَاءَنَا مُسْلِمًا، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى الْفِقْهِ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ، فَلَمَّا تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ وَقَالَ: أَلَسْتَ صَاحِبَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ لَهُ: بَلَى، قَالَ: فَمَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِكَ؟ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ حَضْرَتِكَ فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت (مع ما) تراني حسن الْخَطِّ، فَعَمَدْتُ إلى التَّوْرَاةِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْكَنِيسَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثَلَاثَ نُسَخٍ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْبِيعَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وَعَمَدْتُ إلى الْقُرْآنِ فَعَمِلْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ وَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْوَرَّاقِينَ فَتَصَفَّحُوهَا، فَلَمَّا أَنْ وَجَدُوا فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ رَمَوْا بِهَا فَلَمْ يَشْتَرُوهَا، فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كِتَابٌ مَحْفُوظٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبُ إِسْلَامِي. قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: فَحَجَجْتُ تِلْكَ السَّنَةَ فَلَقِيتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَذَكَرْتُ لَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ لِي: مِصْدَاقُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: قُلْتُ: فِي أَيِّ مَوْضِعٍ؟ قَالَ: فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ [المائدة: 44]، فَجَعَلَ حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَضَاعَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، فَحَفِظَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا فَلَمْ يَضِعْ؛ تفسير القرطبي.
- هنا قد نستشهد بهاتين الآيتين من القرآن ولا يكون في الاستدلال بهما دور.
قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾: “ويَدْخُلُ في الِاسْتِحْفاظِ بِالكِتابِ الأمْرُ بِحِفْظِ ألْفاظِهِ مِنَ التَّغْيِيرِ والكِتْمانِ، ومِن لَطائِفِ القاضِي إسْماعِيلَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ حَمّادَ ما حَكاهُ عِياضٌ في المَدارِكِ، عَنْ أبِي الحَسَنِ بْنِ المُنْتابِ، قالَ: كُنْتُ عِنْدَ إسْماعِيلَ يَوْمًا فَسُئِلَ: لِمَ جازَ التَّبْدِيلُ عَلى أهْلِ التَّوْراةِ ولَمْ يَجُزْ عَلى أهْلِ القُرْآنِ، فَقالَ: لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ في أهْلِ التَّوْراةِ: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ فَوَكَلَ الحِفْظَ إلَيْهِمْ، وقالَ في القُرْآنِ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، فَتَعَهَّدَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلى أهْلِ القُرْآنِ، قالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْمُحامِلِيِّ، فَقالَ: لا أحْسَنَ مِن هَذا الكَلامِ.
هذه الدعوى تناقض الإجماع التاريخي وشهادة المستشرقين، قال الشيخ عبدالمحسن بن زبن المطيري بعد ما ذكر هذه الشبهة، شبهة أن القرآن ليس هو القرآن الذي أنزل، وأنه زيد فيه ونقص، وذكر كلامًا لدائرة المعارف الإسلامية التي أصدرها المستشرقون وكلامًا لجولدتسيهر ونولدكه وطه حسين.
قال المطيري حفظه الله: دعوى أن القرآن تغيَّر دعوى باطلة بدليل مخالفة الإجماع التاريخي على حفظ القرآن منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وإليك بعض النصوص من منصفيهم -لا من كتبنا- على أن القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتغيَّر منه حرف لا زيادة ولا نقصًا، يقول لوبلوا: “إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يُذكَر”، ويقول موير: إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر؛ بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفِرَق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الخارجي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا والذي يرجع إلى الخليفة المكروب عثمان”، وذكر ذلك الدكتور المطيري نقلًا عن كتاب مدخل إلى القرآن الكريم للدكتور محمد عبدالله دراز ص40.
تقول المستشرقة الإيطالية لورافيشيا فاغليري: “فإلى الكتاب العزيز الذي لم يحرفه قط لا أصدقاؤه ولا أعداؤه، لا المثقفون ولا الأُميُّون، ذلك الكتاب الذي لا يبليه الزمان والذي لا يزال إلى اليوم كعهده يوم أوحى الله به إلى الرسول الأمي البسيط آخر الأنبياء حملة الشرائع”3.
نرد عليه بالواقع فإن الواقع يثبت أن القرآن لم يتغير منه شيء فالتفاسير القديمة والكتب المؤلفة في الصدر الأول والآثار المنقولة عن التابعين والصحابة والأحاديث المرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم لم نجد فيها حرفًا يغاير ما هو بين أيدينا الآن مما هو في أيدينا الآن بل يذكر فيها القرآن بنصه وحروفه وترتيبه وكل من قام بمحاولة لتحريفه أو تغييره فضح وكشف وباءت حيلته بالفشل.
كذلك كثرة التآليف والكتب في تفسيره وضبط حروفه وعلومه وتفنيد الشبهات حوله مما لا يحصى عدده4.
انتظام القرآن واتِّزانه وعدم الاختلاف فيه لا كسائر الكتب التي لا تخلو من خلل وتقصير؛ لكن كتاب الله للمتدبِّر له كتاب علم وإيمان ويقين، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
قال السعدي رحمه الله: يأمر تعالى بتدبُّر كتابه، وهو التأمُّل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك، فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته، فإنه يُعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملًا فيه ازداد علمًا وعملًا وبصيرةً؛ لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله؛ لأنه يراه يصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا، فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضًا، فبذلك يعلم كمال القرآن، وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]؛ أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلًا؛ انتهى.
كتب البيساني إلى العماد الأصفهاني معتذرًا عن كلام استدركه عليه: “إنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا، وها أنا أخبرك به، وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن ولو زيد لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”5.
ففرق بين كلام البشر وكلام رب البشر، فلما وجدنا كلام الله يصدق بعضه بعضًا ولا اختلاف فيه؛ علمنا وأيقنا أنه لم يدخله التحريف أي تحريف، فهو كتاب تشريعي وإصلاحي للفرد والمجتمع لن تجد فيه خللًا ولا تصادمًا للفطرة والعقل، وإنما زعم البعض تناقض بعض الآيات مع بعض وذلك بسبب قلة فهمهم أو عجمتهم اللغوية أو خبثهم ونفاقهم.
قال الدكتور المطيري: “وهذا الموضوع قد أكثر الطاعنون منه بناءً على القاعدة الجدلية أن التناقض علامة بطلان المذهب ولكن كل ما زعموا فيه التناقض فهو محض افتراء أو جهل، وقد تكلَّم العلماء قديمًا على هذا النوع من الطعون، وجمعوا كل ما قيل في ذلك ورتَّبوه على حسب ترتيب سور المصحف وأجابوا على كل ما قيل في ذلك.
بل وعلى ما لم يقل مما يظن أن فيه إشكالًا أو تناقضًا، ومن هذه الكتب المؤلَّفة في هذا الفن:
- كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري وهو أقدم كتاب وصل إلينا.
- كتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير له أيضًا.
- أضواء على متشابهات القرآن لخليل ياسين في مجلدين.
- باهر القرآن في معاني مشكل القرآن لبيان الحق النيسابوري في أربعة مجلدات.
- وضح البرهان في مشكلات القرآن له أيضًا في مجلدين.
- تفسير آيات أشكلت لابن تيمية في جزأين.
- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب لمحمد الأمين الشنقيطي.
- مشكلات القرآن لمحمد أنور شاه الكشميري.
- الروض الريان في أسئلة القرآن لشرف الدين بن ريان.
وغير ذلك من الكتب الكثيرة التي لو جمع كل ما فيها لكان مجلدات كثيرة6؛ انتهى.
ومن زعم أنه محرف لكونه يناقض العقل نقول له: بل عقلك هو الذي قد انحرف فلو تدبرت كتاب الله ستجد أنه يخاطب العقل السليم بل ويحث على استخدامه بل ويخبر أن القرآن يزيد المرء عقلًا، ومن الآيات: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة الرعد 4]، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة النحل 12]، ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: 67]، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46] ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: 68]، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3] [سورة الزخرف 3].
ومن الكتب المؤلفة في ذلك:
♦ الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد للدكتور سعود العريفي.
♦ درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.
مقارنة القرآن بغيره من الكتب:7
فـ “كتب أهل الكتاب قد تعرضت للتغيير والتبديل نتيجة ظروف، منها عدم وجود دولة تحافظ على الكتاب وعدم حفظهم لكتبهم، ولما ضاعت الكتب اضطر البعض إلى كتابة الكتاب من جديد ليحافظوا على شعبهم، وقام رجال النصارى بكتابة أناجيل من وجهة نظرهم؛ فتباينت الأناجيل، ثم إن الكتاب لم يكن مشاعًا للجميع، فكان في فئة أو عند فرد أو أفراد”8.
قال موريس بوكاي في خاتمة كتابه “القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم”: في نهاية هذه الدراسة يبدو واضحًا أن الرأي السائد المتمسك به في بلادنا عن نصوص الكتب المقدسة التي في حوزتنا اليوم لا يستقيم مع الواقع، ولقد رأينا في أي ظروف وفي أي عصور وبأي طريقة جمعت ونقلت كتابة العناصر التي شكلت العهد القديم والأناجيل والقرآن، ولما كانت الظروف التي سادت ميلاد كتابات كل من التنزيلات الثلاثة قد اختلفت اختلافًا شاسعًا فقد نجمت عن ذلك نتائج بالغة الأهمية فيما يتعلق بصحة النصوص وببعض جوانب مضامينها”9.
ثم قال: “لقد كانت النتيجة الحتمية لتعدد المصادر هو التناقضات والمتعارضات التي سقنا عليها أمثلة عديدة، إن التناقضات والأمور غير المعقولة والتعارضات مع معطيات العلم الحديث تتضح تمامًا وظيفيًّا مع كل ما سبق، والقرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية، وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل. بل هو يُظْهِر أيضًا -لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم- طابعه الخاص وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة”10.
آثار ونتائج التحريف للتوراة والإنجيل فيما يخص الله والرسل والأخلاق بخلاف كتاب الله الذي نزهه عن كل نقص وحافظ على مكانة الأنبياء ورفع من قدرهم وكذلك تكلم كثيرًا عن الأخلاق والتزكية وأهميتها.
أثر القرآن في النفوس عند قراءته وسماعه بخلاف الكتب الأخرى:
“إذا كان القرآن -بعيدًا عن أي عامل خارجي- قد أثر بصفة دائمة على عقول جد مختلفة فلا بد أن يكون ذاك راجعًا إلى ما له من جاذبية خاصة بتوافقه الكامل مع أسلوب الناس الفطري في التفكير والشعور وباستجابته لنا تتطلع إليه نفوسهم في شئون العقيدة والسلوك وبوضعه الحلول الناجعة للمشكلات الكبرى التي تقلق بالهم. وبمعنى آخر لا بُدَّ أنه ينطوي على ما يشبع حاجتهم إلى الحق والخير والجمال بما يجمع من صفات العمل الديني والأخلاقي والأدبي في آن واحد”11..
تلك عشرة كاملة، والله أعلم.
- نقض دعوى المستشرقين بتحريف القرآن الكريم من خلال المقارنة مع كتب أهل الكتاب، دكتور أحمد معاذ علوان حقي. ↩︎
- الجواب الصحيح لابن تيمية 17/3. ↩︎
- المستشرقون والقرآن الكريم، محمد أمين حسن بني عامر ص288- 289. ↩︎
- دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري والرد عليها، د عبدالمحسن بن زبن المطيري، ص 257- 264. ↩︎
- أبجد العلوم 1/ 71، كشف الظنون 1/ 17. ↩︎
- دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري والرد عليها، د عبدالمحسن بن زبن المطيري ص 283_284. ↩︎
- ↩︎
- نقض دعوى المستشرقين بتحريف القرآن الكريم من خلال المقارنة مع كتب أهل الكتاب ص 27_28. ↩︎
- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم 284_285. ↩︎
- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم 284_285. ↩︎
- مدخل إلى القرآن الكريم 70. ↩︎