أديان وفرق ومذاهبالشيعة

دروس من مقتل الحسين رضي الله عنه

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وأتباعه، وبعد:

كان مقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، ومقتله رضي الله عنه من الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام، وكانت لها نتائج وآثار إلى يومنا هذا، وقصة خروجه إلى العراق وما جرى بعد ذلك من أحداث مبثوثة في كتب التاريخ، وسنتناول في هذا المقال شيئًا من الدروس والعبر من مقتله رضي الله عنه، فمن تلك الدروس:

أولًا: الإمساك عن ما حصل بين المسلمين في العصر الأول من المعارك والحروب لأنها من الفتن، فمن منهج أهل السنة عدم الخوض في تفاصيل تلك الأحداث، قال الإمام ابن تيمية في حديثه عما حدث بين الصحابة رضي الله عنهم: “وَلِهَذَا أَوْصَوْا بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّا لَا نُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: “تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا يَدَيَّ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ أُخَضِّبَ بِهَا لِسَانِي”، وَقَالَ آخَرُ: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 134]”1.

فنمسك ألسنتنا عن الخوض في تفاصيل تلك الفتن التي حصلت بين المسلمين في العصر الأول؛ ذلك أن كتب التاريخ مملوءة بالأخبار المكذوبة والمزيد فيها، ومنها ما كتبت بأقلام طائفية أو حزبية، وتمحيص الأخبار التاريخية الصحيحة من الكاذبة أمر صعب وعسير!، قال شيخ الإسلام: “فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا جَرَتْ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ، وَأَكَاذِيبُ وَأَهْوَاءٌ، وَوَقَعَ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين”2.

ثانيا: إن كل مسلم ينبغي أن يحزنه مقتل أي مسلم، فكيف إذا كان المقتول من أهل الفضل والمكانة، فكيف إن كان قد قتل مظلومًا، وكيف إذا كان من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالحسين رضي الله عنه.

لذلك فإن أهل السنة والجماعة يعدُّون قتل الحسين رضي الله عنه فاجعةً عظيمة، وأن قاتليه هم من شرار الخلق وأفسق الخليقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما مَن قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا”3.

ثالثًا: لا يجوز إقامة المآتم في يوم قتله أو لطم الخدود وشق الثياب، والصراخ والنواح والاجتماع لذلك، كما تفعل الرافضة -أخزاهم الله- يوم عاشوراء، والعجيب من أمر هؤلاء أن أباه عليا كان أفضل منه، وقتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر، لكنهم لا يتخذون مقتله مأتمًا، وقتل عمر، وقتل عثمان -رضي الله عنهم-، ولم يتخذ الناس يوم قتلهم مأتمًا كما يفعل هؤلاء الضلال.

رابعًا: اتخاذ يوم مصرع الحسين مأتمًا إنما هو لأغراض خبيثة واعتقادات فاسدة عند الرافضة، فإنهم يرفعون في مواكب العزاء والضلال شعار “يالثارات الحسين”، أي: إنهم سيأخذون الثأر له ممن قتله، ويغرسون ذلك في نفوس شبابهم وأطفالهم ويربونهم على ذلك، لكن ممن سيأخذون الثأر بعد مرور مئات السنين على هذه الحادثة؟!.

إنهم يقصدون الثأر من أهل السنة جميعًا؛ ولذلك ما سيطر الشيعة على بلاد على مر تاريخهم إلا نكلوا بأهل السنة فيها، واستحلوا دماءهم وأموالهم كما هي في معتقداتهم، وهذا ثابت في التاريخ القديم والحديث، وأفعال القرامطة والعبيديين والنصيرية والباطنية والصفوية والرافضة شاهدةً على ذلك، وأما في عصرنا فخير مثال على ذلك لما انتصرت ما يسمى كذبًا وزورًا الثورة الإسلامية للخميني في إيران، استبشر الناس بها، فما إن استتب لهم الحكم حتى نكلوا بأهل السنة، وقل في مثل ذلك ما حصل في لبنان والعراق وسوريا فثارات الحسين المزعومة حاضرة في أذهان هؤلاء فيما يفعلونه بأهل السنة من الأبرياء!!.

خامسًا: إن حزن هؤلاء على الحسين إنما هو حزن مصطنع؛ يفعلونه ليبعدوا عن آبائهم وأجدادهم جريمة الخيانة التي ارتكبوها بحق الحسين وآل بيته، فإن الذي قتل الحسين وآل بيته ليس فقط عسكر ابن زياد، بل إن المشاركين في هذه الجريمة ابتداءً هم أجداد هؤلاء الشيعة الذين دعوا الحسين إلى العراق، فوثق بهم وأعطوه العهود والمواثيق لنصرته، فخانوه وغدروا به وتركوه لعدوه ليقتله.

والأنكى من ذلك أن يكون في عسكر ابن زياد من دعا الحسين لنصرته ثم خرجوا يقاتلونه بسيوفهم خيانةً ونقضًا للعهد، فناداهم الحسين في أرض المعركة بأسمائهم: “يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث: ألم تكتبوا إلي أنه قد أينعت الثمار واخضر الجناب، فأقدم علينا فإنك إنما تقدم على جند مجندة؟ فقالوا له: لم نفعل. فقال: سبحان الله! والله لقد فعلتم”4.

5وتذكر مصادر الشيعة أن الحسين دعا عليهم قائلًا: “اللهم إن متعتهم إلى حين ففرِّقهم فِرَقًا، واجعلهم طرائق قِدَدًا، ولا تُرْضِ الولاةَ عنهم أبدًا؛ فإنهم دعَونَا لينصرونا، ثم عدَوْا علينا فقتلونا”. وقال زين العابدين لأهل الكوفة: “هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق ثم قاتلتموه وخذلتموه.. بأي عين تنظرون إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله- وهو يقول لكم: قاتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي”6. وقال أيضًا عنهم: “إن هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم؟”7.

ومن قبل ذلك حين تولوا عن مسلم بن عقيل رسول الحسين إليهم، وتركوه وحيدًا وخذلوه وكانت “المرأة تجئ إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟. فتخاذل الناس وقصروا وتصرموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس، ثم تقالوا حتى بقي في ثلاثمائة ثم تقالوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب ثم انصرفوا عنه”8.

سادسًا: إن حفاظ الرافضة على بدعة عاشوراء وإحياء شعائرها كل سنة له هدفان رئيسَيان: “الأول: إحياء جَذْوَة التشيع في قلوب أصحابه، يقول إمامهم الخميني: “إن البكاء على الشهيد يُعَدُّ إبقاءً على اتِّقاد الثورة وتأجُّجها”9. أما هدفهم الآخَر فهو شحْن القلوب بغضًا على أعداء آل البيت، وهم كل من لا يؤمن بعقائد التشيع خاصة أهل السنة منهم.

10سابعًا: الخيانة ونقض المواثيق ونكث البيعة صفات تجري في دم الشيعة في كل زمان، ونجد في كتب الشيعة أنفسهم روايات تبين لنا ذلك، إذ كان في جيش ابن زياد رجالٌ ممن بايع الحسين ونكث بيعته، وتذكر مصادر الشيعة أن الحسين كان يناديهم قبل أن يقتلوه: “ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، وإنما تقدم على جند مجندة؟ تبًا لكم أيها الجماعة حين استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الذباب، وتهافتم إلينا كتهافت الفراش ثم نقضتموها سفهًا”.

ويؤكد ذلك المؤرخ الشيعي محسن الأمين فيقول: “بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفًا، غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم، وقتلوه”11. ويقول محدِّث الشيعة عباس القُمِّي: “تواترت الكتب إلى الحسين حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب من عديمي الوفاء”12.

لقد خانوا عليًا وآل بيته وهم يزعمون تعظيمهم، وهم لهم أسرع خيانةً ومكرًا، سقطت بغداد على يد التتار وقتل من فيها واستبيحت بخيانة الشيعي ابن العلقمي، وسقطت بغداد مرة أخرى في هذا العصر بخيانة وتواطئ من شيعة العراق، وسلمت لبنان للفرس الإيرانيين على يد الشيعة، ودمرت بلاد الشام وهجر أهلها وعملت فيهم المذابح المروعة بأيدي هؤلاء الشيعة من العرب والعجم الذين تجمعوا من أصقاع الأرض يحركهم ويدفعهم حقدهم الشديد على أهل السنة، وهم يسعون لمحاصرة السعودية وخنق قبلة المسلمين عبر الشيعة في اليمن.

وهكذا ما وجدت هذه الفرقة الضالة إلا كانت عونًا لأعداء الإسلام على المسلمين!، ولذا قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية عن خبرةٍ وتجربة وواقع: “أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم”13.

ثامنًا: ينبغي عدم الاغترار بكثرة المتحمسين الذين يجتمعون سريعًا وينفضُّون سريعًا، هؤلاء الذين ليس لهم مبدأ ثابت، وإنما تحركهم المصلحة أو العاطفة والحماس المؤقت، فإذا حان وقت الجد بانت حقيقتهم وانكشف معدنهم، كما هو حال أهل الكوفة مع الحسين.

فَما أَكثَرَ الإِخوان حينَ تَعدّهُم *** وَلَكِنَهُم في النائِباتِ قَليلُ

لما دخل مسلم بن عقيل رسول الحسين إلى الكوفة تسامع أهلها بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفًا ثم تكاثروا، فكتب مسلم إلى الحسين ليسرع في القدوم فقد تمت له البيعة14، لكنهم سرعان ما خذلوه وانصرفوا عنه ولم يبق معه واحد منهم!!.

تاسعًا: إن عاقبة الظلم والبغي وخيمة ومعجلة في الدنيا قبل الآخرة، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ15.

وإن سفك الدم الحرام والقتل دون وجه حقٍ هو من أشد الظلم وقتل المسلم من الكبائر العظيمة، فكيف بقتل من هو بمكانة الحسين رضي الله عنه، إذ هو من قتل الصالحين وخيار الأمة، والله يقول مشنِّعًا على قتل أوليائه: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 21، 22]

قال عبد الملك بن عمير: “دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوالله ما لبثت إلا قليلا حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد وإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار على ترس”16.

ومعلوم من التاريخ أن كل من شارك في قتل الحسين انتقم الله منه في الدنيا إما بقتلٍ أو ببلية، قال الإمام ابن كثير: “وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قل من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون”17. وقال الزهري: “لم يبق ممن قتله إلا من عوقب في الدنيا إما بقتل أو عمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة”18.

عاشرًا: لا ينبغي الاستدلال بخروج الحسين رضي الله عنه على جواز الخروج على ولاة الجور والظلم، فقد استقر منهج أهل السنة على عدم الخروج على الولاة والحكام وإن ظلموا، وليس ذلك من باب الجبن والخوف، ولكن لما يترتب على ذلك من البلايا والمصائب والفوضى والتناحر وإراقة الدماء، واختلال الحياة جميعا المعيشية والسياسية والوظيفية والصحية؛ لأنه باختلال الأمن وسقوط الدولة تحصل الفوضى العامة، وتفتح أبواب الفتن التي تأتي على الأخضر واليابس كما هو مشاهد اليوم في كثير من البلاد.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته”19.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِي رحمه الله: “أَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ… قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ عَدَمِ انْعِزَالِهِ وَتَحْرِيمِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَتَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي عَزْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ”. وقال رحمه الله بعد الكلام عن خروج الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم وخروج بعض التابعين رحمهم الله: ” قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْخِلَافَ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ”20.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمة (الحسن بن حي): “وقولهم: (وكان يرى السيف) يعني أنَّهُ كَانَ يرَى الخرُوجَ بِالسَّيْف عَلى أَئِمَّة الجوْرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ للسَّلَفِ قَدِيمٌ، لكنَّ اسْتَقَرَّ الأمرُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لِما رَأَوْهُ قد أَفْضَى إِلَى أَشَدَّ منه؛ فَفِي وَقْعَةِ الحرّة وَوَقْعَة ابن الأَشْعَث وغيرهما عِظةٌ لمنْ تَدَبَّر”21.

الحادي عشر: أهمية الأخذ برأي العلماء خاصة ممن كبر سنه، وعاصر الأحداث والتجارب وعرف المصالح والمفاسد ووازن بينها، وفي الحديث: “البَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ”22، حين علم ابن عباس رضي الله عنهما عن عزم الحسين رضي الله عنه الخروج إلى العراق نهاه وحاول أن يثنيه عن ذلك، فقال له: “يَا ابْنَ عَمِّ! إِنِّي أَتَصَبَّرُ وَلَا أَصْبِرُ، إِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِئْصَالَ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَوْمٌ غُدُرٌ فَلَا تَقْرَبَنَّهُمْ، أَقِمْ فِي هَذَا الْبَلَدِ فَإِنَّكَ سَيِّدُ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرِيدُونَكَ كَمَا زَعَمُوا فَاكْتُبْ إِلَيْهِمْ فَلْيَنْفُوا عَامِلَهُمْ وَعَدُّوَهُمْ ثُمَّ أَقْدِمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ فَسِرْ إِلَى الْيَمَنِ وَأَنْتَ عَنِ النَّاسِ فِي عُزْلَةٍ، فَإِنْ كُنْتَ سَائِرًا فَلَا تَسِرْ بِنِسَائِكَ وَصِبْيَتِكَ فَإِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ تُقْتَلَ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ وَنِسَاؤُهُ وَوَلَدُهُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ”.23

وكان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال له: “أين تريد؟”، قال: “العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم”، فقال ابن عمر: “لا تأتهم”، فأبى، فقال له: “إنك بضعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله ما يليها أحد منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم”، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: “أستودعك الله من قتيل”24.

ويبدو من هذه المحاولات التي قام بها بعض أكابر الصحابة لثني الحسين عن الخروج للعراق أنهم قد خبروا نفسيات القوم وأنه لا يعتمد عليهم فسرعان ما ينقلبون ويتراجعون، وتجربة علي بن أبي طالب وابنه الحسن رضي الله عنهم معهم خير شاهد، وهو ما خشيه الصحابة أن يتكرر مع الحسين رضي الله عنه فقد قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “جَاءَنِي حُسَيْنٌ يَسْتَشِيرُنِي فِي الْخُرُوجِ إِلَى مَا هَاهُنَا -يَعْنِي الْعِرَاقَ-، فَقُلْتُ: لَوْلَا أَنْ يُرْزَءُوا بِي وَبِكَ لَشَبَّثْتُ يَدِي فِي شَعْرِكَ، إِلَى أَيْنَ تَخْرُجُ؟ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ”25.

الثاني عشر: جاء في فضل يوم عاشوراء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عاشوراء، فقال: “يكفر السنة الماضية”. وفي رواية: “أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله”.

فيستحب صيامه والأفضل صيام التاسع والعاشر، فعن ابن عباس قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله: “لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع26“.

وصيام المسلمين ليوم عاشوراء لا علاقة له بمقتل الحسين أبدًا، وقد كان السّبب الرّئيس لتشريع صيام يوم عاشوراء هو أنّ الله تعالى نجّى فيه سيّدنا موسى عليه السّلام وبني إسرائيل من بطش فرعون، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قدم النّبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: “ما هذا؟”، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم، فصامه موسى -عند مسلم شكرًا-، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “فأنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه”27.

  1. منهاج السنة النبوية 6/ 254. ↩︎
  2. مجموع الفتاوى 4/ 510. ↩︎
  3.  مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 487). ↩︎
  4. البداية والنهاية 8/ 194. ↩︎
  5. الإرشاد للمفيد 241 ، إعلام الورى للطبرسي 949. ↩︎
  6. الاحتجاج للطبرسي 2 /32. ↩︎
  7. المرجع السابق 2 /29. ↩︎
  8. البداية والنهاية 8/ 166. ↩︎
  9. نهضة عاشوراء ص8. ↩︎
  10. الاحتجاج للطبرسي 2 /24. ↩︎
  11. أعيان الشيعة للعاملي  1 /34. ↩︎
  12. منتهى الآمال للقمي 1 /430. ↩︎
  13.  منهاج السنة النبوية 6/ 248. ↩︎
  14. تاريخ الطبري 5/ 348. ↩︎
  15.  أخرجه أبو داود والترمذي. ↩︎
  16.  البداية والنهاية 8/ 214. ↩︎
  17. المرجع السابق 8/ 220. ↩︎
  18. الصواعق المحرقة للهيتمي 2/ 572. ↩︎
  19.  منهاج السنة النبوية 3/ 391. ↩︎
  20. شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 229. ↩︎
  21. التهذيب في ترجمة: الحسن بن صالح بن حي. ↩︎
  22. رواه ابن حبان والحاكم. ↩︎
  23.  الكامل في التاريخ 3/ 148. ↩︎
  24. سير أعلام النبلاء للذهبي 3/ 292. ↩︎
  25. مصنف ابن أبي شيبة. ↩︎
  26. رواه مسلم. ↩︎
  27.  رواه البخاري ومسلم. ↩︎
المصدر
شبكة لألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى