في مقال للكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي “Noam Chomsky” بعنوان: “عشر استراتيجيات للتلاعب من قِبَل الإعلام” ذكر الكاتب عشرَ وسائل يستخدمُها الإعلامُ ليغسلَ بها عقولَ الشعوب، وذكر منها: “خاطبهم كأطفال” هذا ما يفعلُه أتباعُ الخُرافة حين يتكلَّمون عن تحوُّل كائنٍ إلى آخر كأنَّ الكائنات الحيةَ لعبةٌ معجونيَّة، يمكن إعادة تشكيلها لإنتاجِ شكلٍ مِن آخرَ كأنَّها رسمةٌ بالقلم على ورقة، أو رسمة ثلاثية الأبعاد تعمل فيها استطالة هنا وتقصير هناك، ببضع ضغطاتٍ على فأرة الحاسب ثُمَّ فجأة: إذا لدينا كائنٌ آخر، دون أيَّة مراعاةٍ لما تتطلَّبُه هذه التَّغَيُّرات الشكلية الخارجيَّة من تغيُّراتٍ -ضخمةٍ جدًّا- في الأجهزة الحيويَّة والتشفير الوراثي.
الطفرات العشوائية لرقبة الزرافة
تعالوا نأخذ مثالًا بسيطًا أقلَّ تعقيدًا، لن نتحدَّث عن تحوَّلِ نوعٍ من الكائنات إلى نوعٍ آخر مختلفٍ تمامًا في أجهزته الحيوية، بل عن تغيُّرٍ بسيطٍ في نفس الكائن: الزرافةُ التي يفترض داروين “Darwin” وأتباعه أنَّ رقبتها استطالت عبر الأجيال. داروين كان يرى -مثلَ لامارك “Lamarck” بأنَّ ذلك حصل نتيجة مدِّها عنقَها لتناول الورق، وأتباع داروين علموا أن ذلك خرافة فقالوا بدلًا منها: بل بالطَّفرات العشوائيَّة؛ طفراتٌ عشوائيَّة أطالت رقبتها وانتهت القصَّة.
تعالوا نر -إخواني- ماذا تتطلَّب هذه الاستطالة من تغيُّراتٍ على مستوى أجهزة الجسم، ولنأخذ فقط القلب والأوعية الدموية. المسافة بين القلب وأعلى رأس الزرافة تصل إلى (3) أمتار -يعني قريبًا من ارتفاع طابق-، ومن ثم فقلب الزرافة يجب أن يكون قويًّا جدًّا ليتمكَّن من ضخِّ الدم إلى هذه المسافة عكسَ الجاذبيَّة، وهو بالفعل كذلك؛ فوزن قلبِها قد يتجاوز 11 كيلوغرام، وطول قلبها حوالي 60 سنتيمترًا، وسُمك جدرانه 7.5 سنتيمتر، ومن ثم فهو يضخُّ الدم بقوَّةٍ شديدة إلى رأس الزرافة عكسَ الجاذبية.
تخيَّل معي الآن عندما تنزل الزرافة رأسها لتشرب الماء، القلب يعمل مع الجاذبيَّة الآن، وهذا الضخُّ القويُّ يُفترَض أن يفجِّر عروقَ رأسِها، لكنَّ هذا لا يحدث لماذا؟ لأنَّ هناك آليَّاتٍ عديدة لمنع حدوث ذلك:
– أوَّلًا: هناك صمَّامات على طول الشرايين السُّباتيَّة المغذِّية للدماغ تُبطئ من اندفاع الدم نحو الدماغ عندما تحني الزرافةُ رأسَها، لكن حتى مع هذه الصمَّامات، فإنَّ آخر دفقةٍ من الدم للدِّماغ كفيلةٌ بتفجير الشرايين الصغيرة الموصلة له
– لذلك فلدينا آليَّة حمايةٍ ثانية: وهي أنَّ الدم لا يذهب للدماغ وشرايينه الصغيرة مباشرةً، وإنَّما إلى شبكةٍ من الأوعية الدمويَّة أسفل الدماغ تعمل مثل الإسفنج لتمتصَّ الصدمةَ، ثمَّ تتكفَّل بتوزيع الدم برفقٍ في دماغ الزرافة، هذه الشبكةُ من الأوعية الدمويَّة تتمدَّد لتستوعبَ كمِّيات الدم الزائدة، عندما تُنزِل الزرافةُ رأسَها هذه الشبكةُ معقَّدةٌ للغاية وتُسمَّى ريتي ميرابيلي “Rete Mirabile”، ويسمُّونها أيضًا: (The wonderful network) أي: (الشبكة الرائعة)، وهي بالفعل رائعة، وأُجْرِيَت عليها الكثير من الأبحاث العلمية.
– الآلية الوقائيَّة الثالثة: هي وجود سبع صمَّامات في الوريد النازل من الرأس إلى القلب هذه الصمَّامات تمنع الدمَ النازل من الدماغ إلى القلب من الرجوع إلى الدماغ.
هذه الآليَّات الثلاثةُ تحمي دماغ الزرافة من الانفجار عندما تحني رأسها لتشرب حسنًا، عندما ترفع الزرافةُ رأسها من جديد، ماذا يحدث؟ تنقبض الأوعيةُ الدمويَّة في الشبكة الرائعة (Rete Mirabile) في الوقت المناسب لتضخَّ الدم إلى الدماغ، والصمَّامات في الشرايين المتوجِّهة من القلب إلى الدماغ تمنعُ انزلاقَ الدم إلى الأسفل، فيأخذ الدماغ حاجته من الدم، ولا يصيبها الدوار.
المشكلة العكسيَّة نُواجهها مع أرجل الزرافة، إذ أنَّه من المتوقَّع أن يتجمَّع فيها الدم وتنتفخَ الأرجل، لكنَّ ذلك لا يحصل، لأنَّها تمتلك جلدًا ثخينًا مشدودًا في ساقيها، مثلَ جوارب الضَّغط التي يستخدمُها بعض المرضى لمنع الدم من التجمُّع في الأطراف حتى وكالة ناسا “NASA” الفضائيَّة تدرس هذه الجزئيَّات في تصميم الزرافة، لتصمِّم أطقم جاذبية لرواد الفضاء.
كل هذا تطلَّبه طُول عنق الزرافة، وهذا على مستوى الجهاز الدموي فقط، اقرأ -إن شئتَ- عمَّا يتطلَّبه طول عنقها في جهازها الهضمي والتنفسي والعصبي وغيرها.
عندما تدرك ذلك -أخي- فستُدرك مدى الاحتقار للعقل البشري الذي يمارسُه أنصارُ الخرافة حين يعرضون لك رسمةً كهذه، أو كهذه، ريشٌ ينبت على أيدي الديناصور، ليستطيعَ التقاطَ البعوضةِ، في مهزلة دراميَّة، عيبٌ -يا جماعة- واللهِ، عيبٌ «إنَّ ممَّا أَدرَكَ الناسُ مِن كلامِ النُّبُوَّةِ الأُولى: إذا لم تَستَحِ فاصنَعْ ما شِئتَ»