بيان القرآن لانحرافات اليهود والنصارى والرد عليهم (1)
قال تعالى عن كتابِه العزيز: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، فوَصَفَهُ بالتِّبيان، وهو أبلغُ مِن البيان، فما ترَك القرآنُ شيئًا مما يهمنا في أمور ديننا أو دنيانا إلا وبَيَّنه غايةَ البيان.
ومما بَيَّنَه كتابُ الله تعالى أعظم بيان، وكشَف عنه بالحجة والبرهان: انحرافاتُ أمَّتينِ من الأمم؛ اليهود والنصارى، الذين حذَّرنا اللهُ تعالى مِن سلوك طرُقِهم، واتِّباع نهجِهم.
والمُتأمِّل في القرآن الكريم يُلاحظ أن الآيات الواردة في موضوع اليهود وانحرافاتهم أكثرُ مِن تلك التي وردتْ بخصوص النصارى وانحرافاتهم، ولعل أهم أسباب ذلك تعود في نظري – والعلم عند الله تعالى – إلى ما يلي:
- كون اليهود عُرفوا بالمكر والخداع، والدس والطعن في الإسلام وأهله، منذ العهد المكي أكثر بكثيرٍ مما عُرف به النصارى في ذلك.
- العداوة الكُبرى التي يُكنها اليهودُ للإسلام والمسلمين مقارنةً بالنصارى، وهذا ما أفْصَحَ عنه القرآنُ؛ يقول تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة: 82].
- العلاقة التي كانتْ تربط مشركي قريش باليهود للنيل مِن الدعوة الإسلامية، منذ أن كانتْ في مَهْدِها.
- كون اليهود إحدى الشرائح التي تُكَوِّن المجتمع المدني عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
- كون الانحرافات والزَّلَّات والقبائح التي عُرف بها اليهودُ تَفوق بكثيرٍ تلك التي عُرف بها النصارى، وإن اشتركوا في بعضها؛ كنسبة الولد إلى الله تعالى كما سيأتي.
لهذه الأسبابِ وغيرها أكْثَرَ القرآن مِن ذِكْر انحرافات اليهود مقارنةً بالنصارى، ومهما يَكُنْ فإن الطائفتين بلغتَا مِن الانحراف الشيء الكثير؛ سواء الانحراف العقدي، أو الخُلُقي، أو السُّلوكي، وإن كان أعظم انحرافهم الانحراف العقدي – عياذًا بالله تعالى – وهذا ما سنُبَيِّنُه إن شاء الله.
لكن قبلَ ذلك لا بأس أن أشيرَ إلى مسألة مهمة تتعلق بالوصفين العظيمين اللذين وصَف الله بهما هاتين الأمتين، بسبب انحرافاتهما وقبائحهما، وإن تعدَّدت الأوصاف – خاصة بالنسبة لليهود – لكن هذين الوصفينِ هما أخطر وَصْفٍ وُصِفَ به هؤلاء:
وصف اليهود بالغضب، والنصارى بالضلال:
قال تعالى في فاتحة كتابه في أعظم سورة في القرآن: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون))؛ أخرجه الترمذي في جامعه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، رقم 8202، وأحسنُ مصدرٍ للتفسير بعد القرآن السنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلمُ الخلق بمراد الحق سبحانه.
ومِن أهم ما استحق به اليهود وصفَ الغضب، والنصارى وصف الضلال: كونُ اليهود علِموا الحق وأعرضوا عنه، ولم يعملوا به، بل اتبعوا أهواءهم، والنصارى جهِلوا الحق فعَمِلوا بلا علمٍ، إضافةً إلى سلسلةٍ مِن الانحرافات التي استحق بها كلتا الطائفتينِ أعظم دمٍ وأقبح وصفٍ.
وخلافًا لمَن يَزعُم أن هذين الوصفين ليس المقصود بهما اليهود والنصارى، فقد أجْمَعَ أهلُ التفسير قاطبةً أنَّ هذا هو المراد بالآية؛ يقول الإمامُ السيوطي رحمه الله تعالى: “وتفسيرها باليهود والنصارى هو الواردُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين، وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافًا بين المفسرين”؛ “الإتقان”.
وقال الإمامُ الشوكاني: “والمصير إلى هذا التفسير النبوي مُتعيَّن، وهو الذي أطبق عليه أئمةُ التفسير من السلف”؛ “فتح القدير”.
وقال العزُّ بن عبدالسلام في تفسيره: “المغضوبُ عليهم اليهود، والضالون النصارى؛ اتفاقًا”.
ومِن الآيات التي وَصَفَ اللهُ فيها اليهود بهذه الصفة – أنهم مغضوب عليهم – بسبب انحرافاتهم: قوله تعالى: ﴿ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 61]، وقوله جل جلاله: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]، فصار وصفُ الغضب ملازمًا لهم، كما صار وصفُ الضلال مُلازمًا للنصارى عياذًا بالله.
وبتتبُّع الآيات المبينة لانحرافات اليهود والنصارى، يُمكن أن نُقَسِّمَ هذه الانحرافات إلى ثلاثة أقسام:
انحرافات خاصة باليهود، وانحرافات خاصة بالنصارى، وأخرى مُشتركة بين هذينِ الأمَّتينِ الزائغتينِ عن صراط رب العالمين:
1- مِن انحرافات اليهود:
إنَّ موضوع انحرافات اليهود التي ذكرها القرآنُ الكريم موضوعٌ واسع؛ لذا أكتفي إن شاء الله تعالى بذِكْر بعضها بشيءٍ مِن التفصيل:
1- شتم الله تعالى ووَصْفُه بالنقائص:
مِن أعظم انحرافات اليهود – عليهم لعائنُ الله – تنقُّصهم لخالقهم، ووصفهم إياه بالنقائص، بل وسبهم إياه، وهذا ما أفصحتْ عنه عدةُ آيات من القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 181، 182].
أخرج ابنُ المُنذر عن قتادةَ أنه قال: ذُكِرَ لنا أنها نزلتْ في حيي بن أحطب لما أنزل الله: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245]، قال: يَستقرضنا ربنا؟! إنما يستقرض الفقيرُ الغني، وأخرج الضياءُ وغيرُه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245]، فقالوا: يا محمد، فقيرٌ ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله الآية.
وقد أورد هذينِ الأثَرينِ الشيخُ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى في تفسيره.
ولا شك أن هذا القول مِن هؤلاء اليهود استهزاءٌ عظيم بالقرآن، وبالذي أنزل هذا القرآن، وهو الله جلَّ في علاه؛ حيث وَصَفُوه بالفقرِ، وهو سبحانه الغنيُّ الذي له مُلك السموات والأرض، وهو الصمدُ الذي استغنى عن كلِّ شيءٍ، وافتقر إليه كلُّ شيءٍ، كما قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، فكيف يجوز على مَن خلَق الكون ومَن بِيَدِه ملكوتُ كل شيء، والذي يملك مقاليد كل شيء أنْ يحتاجَ إلى مَن يُقرضه بالمعنى الخبيث الذي فهمه اليهودُ – عليهم لعنة الله تعالى؟! لذلك استحقّوا أشدَّ الوعيد وأكبر التهديد؛ فقال تعالى: ﴿ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181].
وقال جل وعلا: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]، في هذه الآية يَصِف اليهود الله تعالى بالبخل، وهو مِن أقبح الصفات التي لا يرضى أيُّ عاقل أن يوصفَ بها، فكيف يوصف بها الجوادُ الكريم الذي قال عنه أعلم الخلق به: ((يدُ الله ملأى لا يغيضها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خَلَق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده))؛ متفق عليه.
يقول الشيخ المراغي رحمه الله تعالى في تفسيره: “بعد أن ذَكَر اللهُ سبحانه في الآيات السالفة بعضَ مَخازيهم مِن مُسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكل السحت، إلى نحو أولئك مما اختلَّتْ به نُظُمُ المجتمع في الأفراد والجماعات، فأصبحوا قومًا أنانيين، همةُ كل واحد منهم جَمْعُ المال واكتسابه على أي صورة كانتْ، وبأي وجهٍ جُمع…، ذكَر هنا أفظع مخازيهم وأقبحها، بجُرْأَتهم على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس مِن صفته، وإنكارهم جميل أياديه عندهم؛ “تفسير المراغي 2/465.
ولما وصفوا الله جل ثناؤه بهذا الوصف القبيح دعا عليهم بنفس الوصف والطرد مِن رحمته سبحانه؛ فقال تعالى: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴾ [المائدة: 64]، وقد تحقَّق فيهم ذلك، فتجدهم عياذًا بالله أبخل الناس على الإطلاق، وإذا أنفق الواحدُ منهم أو بذل شيئًا فلا يمكن أن يكونَ منه ذلك إلا إذا تأكَّد أنه سيربح مِن ورائه الكثير.
ثم رد اللهُ عن نفسه الكريمة ما وصفوه به، ونزَّهها عن ذلك غاية التنزيه، مُثبتًا لها غاية الجود وسعة العطاء، وأن كل ما في هذا الكون مِن الخير إنما هو أثرٌ مِن آثار هذا الجُود؛ فقال تعالى: ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].
2- عداوة اليهود للرسُل والأنبياء المستمرة على مرِّ التاريخ:
مِن انحرافات اليهود التي ذكَرها القرآنُ في غير موضعٍ عداوتهم للرسل والأنبياء، وقد حمَلَتْهم هذه العداوة على سفك دماء الكثيرين مِن رُسل الله الكرام، وعلى تكذيب طائفة منهم؛ قال تعالى: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: “فكانت بنو إسرائيل تُعامل الأنبياء عليهم السلام أسوأ المعاملة؛ ففريق يكذبونه، وفريق يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، ولهذا كان يشق ذلك عليهم، فيكذبونهم وربما قتلوا بعضهم”.
وقال جل وعلا: ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91]، والمقصودُ في هذه الآية: اليهود الذين أمر الله تعالى نبيه الكريم عليه مِن ربه أفضل الصلاة والتسليم أن يحتجَّ عليهم بفِعلهم الشنيع وجريمتهم النكراء التي كانوا يواجهون بها رسُل الله تعالى.
وقد يقول قائل: اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلوا نبيًّا ولا رسولًا، فلماذا يُوَجَّه إليهم الخطاب؟
والجواب كما قال أهل العلم: أنهم رضوا فأفعال أسلافهم، فكانوا بمثابة الفاعل لأفعالهم، يقول صاحب تفسير المنار: “وأما إضافة القتل إلى الحاضرين فإنهم يعدون قتَلة؛ لرضاهم بما فعله سلفهم”؛ تفسير المنار: 4/213.
وقد استمرتْ هذه العداوة إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجابهوه بالعداوة الصارخة، وحاولوا قتْلَه أكثر مِن مرة بالسحر تارة، وبالسم أخرى، وبمحاولة إلقاء الحجر على رأسه الشريف؛ كما في كتب السيرة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: ((ما زالتْ أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوانُ انقطاع أبهري))؛ متفق عليه.
ومن الآيات المُبينة لهذه العداوة والمُعانَدة لرسل الله الكرام قولُه تعالى: ﴿ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 183].
3- تحريفهم للكلم عن مواضعه:
مِن قبائح اليهود التي اشتهروا بها: تحريفهم لكلام الله تعالى، وهذا لا يُستغرب مِن قوم عُرفوا بالمكر والخداع، فكم حرفوا مِن نصوص التوراة! وكم غيروا وبدلوا! قال تعالى: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، وقال جلَّ شأنه إخبارًا عنهم: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: 13]؛ أي: يُزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها اللهُ فيها؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور: هي حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم؛ أي: وضعوا الجلد مكان الرجم، وقال الحسن: يُغيرون ما يسمعون مِن الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه”؛ تفسير البحر المحيط 3/500.
ويُبَيِّن الله تعالى صورةً مِن صور تحريفهم الشنيع الذي لا يخفى عن العليم السميع سبحانه بقوله: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 58، 59]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله لبني إسرائيل: “ادخلوا الباب سجدًا، وقولوا: حطة، نغفر لكم خطاياكم؛ فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاهِهم، فقالوا: حبة في شعيرة))؛ رواه البخاري في صحيحه.
وحاصل ما ذكره المفسرون – كما يقول ابن كثير رحمه الله تعالى – وما دلَّ عليه السياقُ مِن الحديث: “أنهم بدلوا أمر الله لهم مِن الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سُجَّدًا فدخلوا يزحفون على أستاههم مِن قبل أستاههم رافعي رؤوسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة؛ أي: احططْ عنَّا ذنوبنا، فاستهزؤوا فقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون مِن المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم”؛ عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير 1/118.
ورَحِم الله الإمام ابن القيم إذ يقول في نونيته:
أُمِرَ اليَهُودُ بِأَنْ يَقُولُوا: حِطَّةٌ ♦♦♦ فَأَبَوْا وَقَالُوا: حِنْطَةٌ؛ لِهَوَانِ
ومِن صُوَر تحريفهم أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكتاب؛ ليحسَبه الناسُ أنه كلام الله تعالى كما قال جل وعلا: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]، ففي هذه الآية يُخبر العليمُ سبحانه عن اليهود – عليهم لعائن الله – أنَّ منهم فريقًا يُحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويُبدلون كلام الله، ويُزَيِّلونه عن المراد؛ ليُوهموا الجهلة بأنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله، وهو كَذِبٌ على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله؛ ولهذا قال: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]، وقال مجاهد والشعبي وغيرهما: ﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ ﴾: يُحَرِّفونه؛ عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: 1/ 358.
وتحريفُهم للتوراة يشمل: التحريف اللفظي والمعنوي.
4- كتمانهم الحق وإخفاؤهم لآيات الله، ووضعهم الكلام مِن عند أنفسهم ونِسبتُه إلى الله تعالى:
مِن انحرافات اليهود التي ذكرها القرآنُ في غير موضعٍ كتمانهم الحق، وهذا الكتمانُ تضمَّن صورًا عدة منها:
أ- كتمانهم لرسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم:
فهم قد علموا بل أيقنوا أنه عليه الصلاة والسلام رسولٌ من الله، لكنهم كتَمُوا هذا الحق المبين، وأخفوه بل أنكروه وكذبوا به حسدًا مِن عند أنفسهم؛ لأنهم كانوا ينتظرون رسولًا مِن جنسِهم، لكن لما رأوا أنَّ خاتم النبيين تم اصطفاؤه من العرب؛ امتلأتْ قلوبهم حسدًا وحقدًا على هذا الرسول الكريم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [البقرة: 89، 90]، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: “ولما جاءهم مِن عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء الكتاب المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة، وقد علموا به، وتيقنوه على أنهم إذا كان وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروبٌ استنصروا بهذا النبي، وتوعدوهم بخروجه، وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا الكتابُ والنبي الذي عرفوا؛ كفروا به بغيًا وحسدًا أن ينزلَ الله مِن فضله على من يشاء من عباده، فلعنَهم الله وغضب عليهم غضبًا بعد غضب؛ لكثرة كُفرهم، وتوالي شكهم وشركهم”؛ تيسير الرحمن:40.
ب- ومِن صور كتمانهم الحق: كتمانهم لآيات الله تعالى؛ كما قال جل وعلا: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخفوا أمر الرجم، وعفا عن كثير مما أخفوه؛ فلم يفضحهم ببيانه”.
ومِن جرائم اليهود وانحرافتهم وضْعُهم للكلام ونسبته إلى الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79]، يقول إمامُ المفسرين ابن جرير الطبري: “يعني بذلك: الذين يُحرِّفون كتاب الله مِن يهود بني إسرائيل، وكتبوا كتابًا على ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفًا لما أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، ثم باعوه مِن قوم لا علم لهم بها، ولا بما في التوراة، جهال بما في كتاب الله لطلب عرَض مِن الدنيا خسيس، فقال الله لهم: ﴿ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79]؛ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1 /436.
5- عداوتهم للملائكة:
قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 97، 98]، قال إمام المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: “أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا على أن هذه الآية نزلتْ جوابًا لليهود من بني إسرائيل؛ إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم”؛ جامع البيان في تأويل آي القرآن”1 /496، وروى رحمه الله تعالى بسنده عن قتادة في قوله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ﴾ قال: قالت اليهود: إن جبريل هو عدونا؛ لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا، فقال الله جل ثناؤه: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ﴾ الآية.
وفي رواية الشعبي في قصة عمر رضي الله عنه مع اليهود: “قالوا: إنَّ لنا عدوًّا مِن الملائكة، وسلمًا من الملائكة، وإنه قرن به عدونا من الملائكة، قال: قلتُ: مَن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل، قال: قلت: فلم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا”.
6 – سعيهم في الفساد والإفساد:
إنَّ اليهود مِن أعظم الناس فسادًا وإفسادًا، وهم وراء كلِّ أوجه الفساد المنتشر في أرجاء الدنيا؛ فمعظمُ الحروب التي تسفك فيها دماء الأبرياء في كثيرٍ مِن بقاع العالم، إنما الذين يُخططون لها ويوقدونها هم اليهود، كما كانوا يُخططون للحروب التي كانتْ تدور بين الأنصار في الجاهلية؛ يقول تعالى مبينًا لهذا السعي الخبيث من طرف هؤلاء الأخباث: ﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].
كما أن الفساد الخلقي والأخلاقي الذي عَمَّ الشرق والغرب مِن خمورٍ وسُفور، وقمار وفجور، معظمُ ذلك مِن ورائه اليهود، فأكبر شركات القمار، وأكبر متاجر صنع الخمور، وأكبر المؤسسات الربوية، وأكبر شركات عرض الأزياء، وأكبر المعامل المختصة في إنتاج الملابس الفاتنة – يَملِكُها يهود.
وفي قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64] تهديدٌ ووعيد لهؤلاء المفسدين، فالله تعالى يبغض أشد البغض أهل الفساد، ولا ريب أنه سيجازيهم على فسادهم وإفسادهم.
7- إعراضهم عن العمل بالتوراة:
مِن انحرافات اليهود إعراضُهم عن قبول التوراة، والعمل بما فيها، حتى رفع الله عليهم جبل الطور لأخذ الميثاق الغليظ عليهم والعمل به، كما قصَّ الله جل شأنه ذلك بقوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [البقرة: 63، 64]، وقد أخرج ابن جرير رحمه الله تعالى بإسناده عن ابن زيد قال: “لما رجع موسى من عند ربه بالألواح، قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذي أمركم، ونهيه الذي نهاكم، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا، فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون! قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا، قال: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، قال: فأخذوه بالميثاق” 1 /373، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [البقرة: 93].
8- سؤالهم رؤية الله علنًا:
قال تعالى حكاية عن اليهود قبحهم الله: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، وقال تعالى: ﴿ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [النساء: 153]، وهذه جرأة منهم على الله تعالى، تدل على عدم توقيرهم وإجلالهم لخالقهم، إذ لو كان في قلوبهم مثقال ذرة من تعظيم الله وتقديره ما سألوا هذا السؤال العظيم.
9- المكر والخداع:
أ- مخادعتهم في السبت؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 163]، وذلك أن الله جل جلاله كان قد أمرهم أن يُعظموا هذا اليوم ولا يصطادوا فيه، وابتلاهم – بسبب فِسقهم – بأن جعل الأسماك تطفو بكثرة على وجه البحر يوم السبت، فإذا ذهب هذا اليوم لا يرون شيئًا من الأسماك! فاحتالوا وتحيلوا على الصيد، فكانوا ينصبون الشباك، فإذا جاء يوم السبت وقعت الحيتان في الشباك، ثم ينتظرون حتى ينقضي يوم السبت فيخرجون الشباك، وكأنهم لم يصطادوا في هذا اليوم، وهذا مِن أعظم التحايل على الله وشرعه سبحانه، فعاقبهم الله تعالى أشد العقاب: ﴿ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [الأعراف: 166]؛ أي: قولًا قدريًّا لا بد أن يُنفَّذ، فتحولوا عياذًا بالله قردة، وأُبعدوا من رحمة الله، واستحقوا اللعنة، والجزاء من جنس العمل.
ب- من صور مكر اليهود: ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها))؛ أخرجه البخاري في كتب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ح رقم3460.
10- عبادتهم العجل:
وهذه من أعظم قبائح اليهود وانحرافاتهم العقدية، فبمجرد انصراف موسى عليه السلام للقاء الله تعالى عند جبل طور، انقلبوا على أدبارهم – عياذًا بالله – واتخذوا عجل السامري إلهًا من دونه سبحانه، كما ذكر الله تعالى ذلك في أكثر مِن موضع من كتابه: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]، وقوله جل ذكره: ﴿ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [النساء: 153]، وقوله سبحانه: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 148]، وقال عز في علاه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ [الأعراف: 152].
11- ادعاؤهم أنهم إن عذبوا فسيعذبون أيامًا معدودة:
وهذا من تزكيتهم البالغة لأنفسهم؛ حيث يَزْعُمون أنهم إن عذبوا فلن يمكثوا في النار إلا أيامًا معدودة، فجمعوا بين الإساءة والأمن، فمنهم مَن قال: عدد أيام الأسبوع، ومنهم مَن قال: عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل؛ أي: أربعين يومًا؛ لذلك ورد القرآن باعتبار القولين؛ قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، وقال سبحانه في سورة آل عمران: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 24].
فقوله تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ هذا جمع كثرة، اعتبارًا بِمَن قال: إنهم يعذبون أربعين يومًا، وقوله سبحانه: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ جمع قلة اعتبارًا بمن قال: إنهم يُعذبون سبعة أيام.
وقد ردَّ الله هذا الادعاء بقوله جل جلاله: ﴿ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 80، 81]، فأخبر سبحانه أن صِدق دعواهم يتوقف على أحد أمرين: إما أن يكون لهم عهد عند الله بذلك، أو أنهم كاذبون في دعواهم، ولا ريب أن الأول باطل؛ لأنه ليس لهؤلاء الكفرة الناقضين للعهود المتجرئين على الرب المعبود والقتلة لأنبيائه ورسله على مر العهود أيُّ عهد، فثبت الثاني وهو أنهم كاذبون متقولون مختلقون عليهم لعائن الله!
وهناك انحرافاتٌ أخرى لليهود؛ مثل: نقضهم للمواثيق، وغدرهم، وخيانتهم، وأكلهم الربا وأموال الناس بالباطل، ومسارعتهم في الإثم، وعدم تناهيهم عن المنكر، وحسدهم وظلمهم، واحتقارهم للشعوب وخاصة لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم التي يصفونها سخرية وازدراء؛ كما يحكي القرآن: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ [آل عمران: 75]، وغير ذلك كثير.