شبهات عقائديةشبهات وردود

الوحي لمحمد والمسيح عليهما السلام

 تلقَّى محمد الوحي بواسطة الملاك جبرائيل الروح الأمين، ورَد في الأحاديث الصحيحة أنه كان إذا نزَل عليه الوحي يُغْشَى عليه، وفي رواية: يَصير كهيئة السكران، يعني: يقرُب من حال المغشي عليه؛ لتغيُّره عن حالته المعهودة تغيُّرًا شديدًا، حتى تصير صورته صورة السكران، وقال علماء المسلمين: إنه كان يُؤخذ من الدنيا، وعن أبي هريرة: كان محمد إذا نزَل عليه الوحي استقَبلتْه الرعدة، وفي رواية: كرب لذلك وتربَّد له وجهه، وغمَّض عينيه، وربما غطَّ كغطيط البَكْر، وعن عمر بن الخطاب: كان إذا نزَل عليه الوحي يُسْمَع عند وجهه كدوي النحل، وسُئل محمد: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: ((أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدُّه عليَّ، فيُفصَم عني، وقد وعيتُ ما قال))، وأجمَع علماؤهم على أن محمدًا كان يجد ثِقَلاً عند نزول الوحي، ويَتحدر جبينه عرقًا في البرد كأنه الجُمَان، وربما غطَّ كغطيط البَكْر، محمَرَّة عيناه، وعن زيد بن ثابت: كان إذا نزل الوحي على محمد، ثَقُل لذلك.

قال: ومرة وقَع فَخِذُه على فخذي، فوالله ما وجدتُ شيئًا أثقل من فخِذ محمد، وربما أُوحيَ إليه وهو على راحلته، فترعَد؛ حتى يظن أن ذراعها ينقسِم، وربما برَكتْ، فالله لم يكلِّم محمدًا شخصيًّا، بل أوحى له بواسطة الملاك جبرائيل فقط، فكان الله بعيدًا عنه حتى أثناء الإيحاء، لم يُرسِل الله الملاك جبرائيل إلى المسيح البتة، ولم يتقبَّل المسيح وحيًا بواسطة شخص ثالث؛ لأنه كان نفْسه قول الحق المتجسِّد – سورة مريم 19 : 34، وكلمة الله الأزلي، وروحًا منه، مُنبثِقًا من الله نفْسه، عارفًا إرادته، فإن أراد أحد أن يتعمَّق في مشيئة الله، فليَدرس سيرة المسيح؛ لأنه كلمة الله القدير المتجسِّد.

يُخبِرنا القرآن: إن الله ذاته علَّم المسيح قبل تجسُّده الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48]، فلم يتكلَّم إلا بكلام الله، وكان ينطِق حسب القرآن بالوحي فورًا بعد ولادته مُعزِّيًا أمه ومُرشِدًا إياها: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 24 – 26].

لقد تكلَّم المسيح – حسَب القرآن – بكلمة الله وهو طفل بغير حاجة إلى ملاك أو وسيط؛ لأنه كان فم الله ورُوحه ووحيه شخصيًّا؛ لذلك عمِلت قوة الله في ابن مريم ظاهرةً في الخَلْق والشفاء، والغُفران والتعزية والتجديد.

إن خلاصة الوحي لمحمد في القرآن والحديث، هي الشريعة التي تتضمَّن الأوامر والنواهي الإلهية، فوحي محمد أتى بكتاب: القرآن والشريعة، أما خلاصة الوحي للمسيح، فهي ذاته؛ لأن إنجيله ليس شريعة، بل إعلان حياته وأقواله، ووصْف شخصيَّته، وقد منَح المسيح أتباعه قوة رُوحه القدوس لإتمام وصاياه، فأتْباع المسيح لا يؤمنون بالدرجة الأولى بكتاب ولا بدين، ولا يعيشون تحت الشريعة، بل يؤمنون بشخص فريدٍ، ويتعلَّقون بالمسيح شخصيًّا ويتَّبعونه، فالمسيح هو وحي الله بالذات.

 هذه الفقرة مملوءة باللخبطات والتناقُضات والكلام الكبير، الذي ليس وراءه طائل، ولنبدأ على بركة الله:

أولاً: الملاك جبريل؛ أي: الرُّوح الأمين – حسبما جاء في كلام الواعظ – هو هو الروح القدس؛ فقد جاء في سورة “الشعراء” خطابًا إلى سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 192 – 195]، وهو نفسه ما نَقرؤه في سورة “النحل”؛ حيث يقول رب العزة لرسوله محمد – عليه الصلاة والسلام -: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 98 – 102]، والآن هل صحيح أن الروح القدُس لم يكن له دور في حياة السيد المسيح، كما يزعم الواعظ هنا؟ سأترك “دائرة المعارف الكِتابية” نفْسها تتولَّى الجواب على هذا السؤال؛ إذ نقرأ في مادة “الروح القُدس” ما يلي:

“بدأ عصر الإنجيل بتحرُّك خاص من الروح القدس، فنقرأ عن يوحنا المَعمَدان السابق للمسيا: إنه “من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس”؛ (لو 1:15، 80)، “وبوحي من الروح أدرَك سمعان الشيخ ظهور المسيا في شخص الطفل يسوع”؛ (لو 2: 52)، كما أن الملاك أَعلن ليوسف أن الذي حُبِل به في مريم “هو من الرُّوح القُدُس”؛ (مت1: 20)، وبذلك تأيَّدت العبارة السابقة: “وجِدتْ حُبْلى من الرُّوح القُدس”؛ (مت 1: 18)، وهكذا قال الملاك للعذراء مريم: “الروح القدس يحلُّ عليك، وقوة العَلي تُظلك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعَى: ابن الله”؛ (لو 1: 35)، وعندما كان يسوع في الثلاثين من عمره جاء ليَعتمِد من يوحنا المَعمَدان، وكما حُبِل بيسوع بالروح القدس فولِد “قُدوسًا”، هكذا نزَل عليه عند المعمودية، الروح القدس “بهيئة جسميَّة مِثل حمامة” إعلانًا بأنه المسيا القدوس؛ (مت 3/ 16، لو 3/ 229).

ولعلَّ الرسول بطرس كان يُشير إلى هذه الحادثة في حديثه الأول للأمم عن “يسوع الذي من الناصرة كيف مسَحَه الله بالروح القدس والقوة”؛ (أع 10/ 38)، ويشير يوحنا إلى ذلك بالقول: “لأن الذي أرسَله الله يتكلَّم بكلام الله؛ لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح”؛ (يو 3/ 43)، “وكانت قوة الروح القدس واضحة في حياة يسوع وخدمته، فبعد صعوده من الماء مباشرة، أخرجَه الروح إلى البَرِّية حيث واجَه المجرب”؛ (مت 30/ 1 – 3، مرقس 1/ 12 و13، لو 4: 1 – 3)، وغَلَبه بقوة الروح القدُس باعتباره “آدم الأخير”؛ أي: الإنسان الكامل، وقد نَسَب الرب قدرته على إخراج الأرواح النَّجِسة إلى الروح القدس؛ (مت 12: 28)، وهكذا كان الأمر بالنسبة لتعليمه، فقد مسَحَه الروح القدس ليُبشِّر المساكين وليُنادي للمأسورين بالإطلاق (لو 4/ 18)، وطوال خدمته هنا على الأرض كان الناس يَنبهِرون من تلك القوة العجيبة التي له حتى قالوا: “إنَّه مختل”؛ (مرقس 3/ 21)، كما بُهتوا من تعليمه؛ لأنه كان يُعلِّمهم كمن له سلطان؛ (مرقس 1/ 21)، كما كان يبدو أحيانًا مُتجاهِلاً لحاجاته الجسدية؛ (يو 4/ 31)، حتى قال البعض عنه: “إنه سامري، وبه شيطان”؛ (يو 8/ 48)، وعندما رجَع السبعون من جولة كرازية ناجحة تَهلَّل يسوع بالروح؛ (لو 10/ 21)، وقد يسأل البعض هذا السؤال: إذا كان يسوع هو الله الابن، فلماذا كان في حاجة إلى قوة الروح القدُس لإتمام خدمته؟ ويرجع جانب من الجوانب إلى ناسُوته الكامل الذي أخذه في تَجسُّده، فلم يُقلِّل من ناسوته كونه الله، فلم تحجُب قدرته الإلهية ناسوته، فهو كإنسان كامل عاش معتمدًا على روح الله، فيسوع إذ صار إنسانًا، كان يعتمد على روح الله الحالِّ فيه؛ ولهذا فهو في تدبير الخلاص أخذ دور المسيا؛ أي: الذي مسَحه روح الله، وفي نفس الوقت كان مدرِكًا لسلطانه الإلهي المطلَق، فهو لم يكن كسائر الأنبياء، فلم يقل: هكذا يقول الرب، بل: الحق، الحق أقول لكم”.

ومن هذا النص الذي اعتمَد تمام الاعتماد على ما ورد في “العهد الجديد”، وبالذات الأناجيل، نرى أن الروح القدس لم يترك عيسى ابن مريم بتاتًا في أي أمرٍ من أموره، على عكس ما يقول واعظنا الطيب الذي على نيَّاته، (وأكتفي بهذا فلا أصفه بشيء آخر)، حتى إن كاتب المادة يقول بعظمة لسانه: “إذا كان يسوع هو الله الابن، فلماذا كان في حاجة إلى قوة الروح القدس لإتمام خدمته؟ وهو سؤال لا معنًى له، إلا أنَّه – المسيح رغم كونه إلهًا – كان بحاجة إلى الروح القدس! فلماذا يا واعظنا الطيب الذي على نيَّاته، ترى أن نزول روح القدس على سيدنا محمد هو نقصٌ فيه وفي رسالته؟ وهو الذي لم يدَّعِ يومًا ولا ادَّعى عنه أتباعه أنه إله أو ابن للإله، أو فيه شيء مما يَختصُّ به الإله، في الوقت الذي يحتاج المسيح (الإله أو ابن الإله حسَب اعتقادكم) إلى الروح القدس في كل خطوة من خُطواته، وهذا إن كان الآلهة يمشون ويَخطُون؟ فهل ترى أن محمدًا يفترِق عن الإله عندكم؟ ولسوف نرى أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل سيتبيَّن أن محمدًا – رغم الأخوة التي تربِطه بعيسى وكل الأنبياء – قد فضَّله الله على جميعهم، بما فيهم عيسى، بأشياء لا يمكن لمن عنده بعض إنصاف أن يُماري فيها، ولننتظر، فكل شيء بأوانه، ومع ذلك كلِّه فليس نزول الوحي على محمد أو على عيسى – عليهما السلام – عن طريق الروح القدس معناه أن الله كان بعيدًا عنهما، فالله ليس بعيدًا عن أي من مخلوقاته، بل هو – سبحانه -، لأنه فوق الزمان والمكان؛ إذ هو خالقهما، وهو – سبحانه وتعالى – أقرب لنا جميعًا من حبل الوريد، وهو معنا حيثما كنا، فكيف برسله المُصُطَفَين الأخيار؟ أما أن محمدًا – عليه السلام – كان يُعاني عند نزول الوحي، فلنعرف أنه على قدْر ضخامة المسؤولية يكون العناء، ولم تكن رسالته – محمد – كما هو الحال في دين عيسى طِبقًا لما نقرؤه في الأناجيل، بعضًا من المواعظ الأخلاقية الخالية من التشريعات والتوجيهات الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية والعسكرية، أو رسالة قَبَليَّة أو قومية مُؤقَّتة، بل كانت رسالة شامِلة لكل مناحي الحياة، وموجَّهة إلى البشر جميعًا، منذ أن نزلت إلى يوم يُبعَثون.

ونأتي إلى قول واعظنا الطيب الذي على نيَّاته: “لم يُرسِل الله الملاك جبرائيل إلى المسيح البتة، ولم يتقبَّل المسيح وحيًا بواسطة شخص ثالث؛ لأنه كان نفْسه قول الحق المتجسِّد؛ سورة [مريم 34]، وكلمة الله الأزلي، ورُوحًا منه، مُنبثِقًا من الله نفْسه عارفًا إرادته، فإن أراد أحد أن يتعمَّق في مشيئة الله، فليدرس سيرة المسيح؛ لأنه كلمة الله القدير المتجسِّد، يخبرنا القرآن أن الله ذاته علَّم المسيح قبل تجسده الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل؛ ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48]، فأما الجزء الأول من كلامه، فقد أثبتْنا من كلام علماء النصارى في “دائرة المعارف الكتابية” أنه غير صحيح البتة، وتبقى دعواه بأن القرآن يقول عن عيسى – عليه السلام – في سورة “مريم”: إنه “قول الحق المتجسد”، فهل هذا صحيح؟ تعالَوا نقرأ معًا ما جاء في تلك السورة: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عبداللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [مريم:16 – 37].

والمعنى – كما يفهمه الناطقون بالعربية – أن ما روتْه الآيات هنا عن السيد المسيح، إنما هو قول الحق، لا ما يقوله المُمتَرون المُؤلِّهون له، الزاعمون أنه الله نفسه أو ابن الله؛ أي: إن هذا هو وضْع عيسى، حسَب قول الحق، لا أنَّ عيسى نفسه هو قول الحق، ومن هنا عقَّبت الآيتان اللتان تليان ذلك بقولهما على لسان عيسى ذاته: ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [مريم: 35 – 36]، لكن الواعظ الطيِّب الذي على نيَّاته، يحاول أن يُحرِّف المعنى عن مواضِعه، وهيهات! فعيسى يَنفي أن يكون الله قد اتَّخذ ولدًا، أو يمكِن أن يتخِذ ولدًا، كما يؤكِّد – عليه السلام – أن الله هو ربه ورب البشر جميعًا وليس أباه، فضلاً عن أن يكون هو هو نفسه! ومع ذلك فإنَّ نِيافة الواعظ الطيب الذي على نيَّاته، يظنُّ أنه من الذكاء؛ حيث يستطيع خِداع المسلمين عمَّا يقوله القرآن، فهل هذا يصحُّ يا نيافة الواعظ المُبجَّل؟ ولنفترض أن عيسى هو نفْسه قول الحق، فما الذي يترتَّب على ذلك مما يريد واعظنا الطيب – الذي على نيَّاته – أنْ يُرتِّبه له؟ لا شيء، فنحن كلما استَشهدنا بنَصٍّ قرآني ردَّدْنا عبارة: “قال الله تعالى”، بما يعني أن الآية أو الآيات القرآنية المستشهَد بها هي” قول الله، لكن هذا لا يجعل قول الله ذاك هو الله ذاته، مِثلما أننا نحن البشر خَلْق الله، لكن هذا لا يجعلنا نحن الله، إن إضافة الشيء هنا إلى الله لا يجعل ذلك الشيء هو الله نفسه، كما هو واضِح وضوح الشمس! فقول الله ليس هو الله، وخلْق الله ليس هو الله؟ بل نحن هنا أمام طرفٍ فاعلٍ، وطرفٍ مفعول، لا أمام طرفٍ واحدٍ وذاته، ولا أدري أي شيطان قد سوَّل لذلك الواعظ أن يهرِف بما لا يستقيم في العقل ولا في اللغة!

كذلك، فإنَّ قول واعظنا المُبجَّل: “إن القرآن يُخبِرنا أن الله ذاته علَّم المسيح قبل تجسُّده الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48]، هو أيضًا قول غير صحيح؛ إذ ليس في القرآن هنا، ولا في أي مكان آخر منه أي كلام عن التجسُّد؛ لتَناقُضه الأبلق مع دعوته التوحيديَّة السَّمحة المستقيمة، ولنرجِع إلى سورة “آل عمران” التي نقَل منها الواعظ ما نقل لنقرأ النص في سياقه كاملاً: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 45 – 51]، والآن هل يستطيع عاقل أن يجِد في تلك الآيات أي كلام أو حتى مجرَّد إشارة إلى التجسُّد، أو أي شيء يمكن أن يُفهَم منه، ولو على سبيل التوهُّم من بعيد، إن الله قد علَّم عيسى التوراة والإنجيل، وهو لا يزال في بطن أمه؟ تُرى هل في بطون الأمهات كتاتيب ورياض أطفال ومدارس وجامعات؟! ليس في النص أي شيء يستدلُّ به على أن ذلك التعليم تمَّ قبل ولادة عيسى – عليه السلام – بل النص واضِح الدلالة على أنَّ وجاهته، وتكليمه الناس في المهد وفي الكُهولة، وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وإرساله إلى بني إسرائيل – كل ذلك سوف يتمُّ بعد ولادته.

ولنُلاحظ فيما يخصُّ تعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، أنَّه معطوف على تكليمه الناس في المهد وفي الكهولة، وتكليمه الناس في المهد وكهلاً لم يتمَّ إلا بعد نزوله من بطن أمه، كما أن الفعل هنا هو نفْسه هناك، ألا وهو الفعل المضارع بما لا يمكن أن يُقال معه: إن لكل من الأمرين زمنًا خاصًّا يختلف عن زمن وقوع الآخر، كما أن المضارع لا يدلُّ على الزمان الماضي في مِثل هذا السياق أبدًا، وهذا كله مما يستحيل معه أن يكون تعليم الله لعيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، قد تمَّ وهو لا يزال في عالَم الرحِم ولم ينزِل إلى الدنيا! ثم كيف يتمُّ تعليم قبل أن يوجَد المُتعلِّم؟ إن هذا هو المستحيل بعينه، لا بدَّ أن يوجد المُتعلِّم أولاً ليكون ثَمَّ تعليمٌ ثانيًا، هذه بَديهيَّة لا يُغتفَر تجاهُلها! لكن متى كان القوم يُراعون البَديهيَّات، أو يحترمون المنطقيَّات؟

وبالنِسبة إلى ما ذكَره الواعظ في المقارنة بين الدِّينَين: دين محمد ودين عيسى، وما جاء به هذان العظيمان، نقول: إننا لا نختلف معه كثيرًا فيما قاله من أن: “وحي محمد أَتى بكتاب: القرآن والشريعة، أما خُلاصة الوحي للمسيح، فهي ذاته؛ لأن إنجيله ليس شريعة، بل إعلان حياته وأقواله ووصْف شخصيته”، ذلك أنَّ الإسلام شريعة، وليس مجرَّد عبادة أو مجموعة من الأخلاق، وهذه الشريعة تُغطِّي كل جوانب الحياة وأنشطة الحضارة البشرية، كما هو معلوم، أما دين عيسى فلا يَعدو بعض الوعظيَّات المُغرِقة في المثاليَّة، والتي لا تصلُح لأي بناء اجتماعي أو حضاري على الإطلاق، ومن هنا نفهم تأكيد السيد المسيح بأن مملكته ليست من هذا العالَم، فهي عبارة صادقة؛ إذ إن ما نسَبه إليه مُؤلِّفو الأناجيل من مواعظ أخلاقية، هي كلمات لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، كما أن التصرُّفات المُضافة له هناك من شأنها أن تقوِّض المجتمعات التي تُحاوِِل أن تَرتكن إليها: فمثلاً، كيف يقوم مجتمع أو حضارة على نبْذ العمل والمال تمامًا، طبقًا لما كان عيسى يأمر به أتباعه؟ أو كيف يقوم مجتمع أو حضارة على أساس التسليم للمجرمين، لا بما يريدون فقط، بل بأزيد مما كانوا يحلمون؛ بحيث إذا هاجَمك لصٌّ مثلاً وأراد غَصْبك رداءَك، فعليك أن تَتنازَل له عن الإزار أيضًا… إلى آخر ما نعرفه عن موعظة الجبل، وما يُشبِهها من الكلام المُنمَّق الجميل في الأناجيل الذي لا يؤكِّل عيشًا، وبالمناسبة فالإزار هو قطعة الملابس التي تُغطي الجزء الأسفل من الجسم، ومن هنا يراني القارئ أقول دائمًا: إن عليه في هذه الحالة أن يمشي”بلبوصًا”!

وأخيرًا فلسنا نحب أن يفوتنا التنبيه إلى قول الواعظ، وهو يتخبَّط في كلامه عن المسيح من فقرة إلى أخرى، بل من سطر إلى سطر أحيانًا، إنَّ “المسيح هو وحي الله بالذات”، وهو ما يُفيد أنه – عليه السلام – ليس هو الله؛ ذلك أن وحي الله شيء، والله شيء آخر، أم هناك من يقِلُّ عقله ويماري في هذا؟ وعلى كل حال فالحمد لله الذي لا يحمَد على مكروهٍ ولا محبوب سواه، أنِ اختَزَل الواعظ الكريم السيد المسيح بجلالة قدْره إلى مجرَّد وحي!

وعلى كل حال، فليس عيسى هو وحدَه الذي كان “يقول”، بل هذا أمرٌ عام عند الأنبياء الآخرين؛ إذ كانوا هم أيضًا “يقولون” وهذه بعض شواهد: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74] ﴿ فَلَمَّا رَأَى ﴾ (أي إبراهيم) ﴿ الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾[الأنعام: 78 – 82]، ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ * وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 59 – 74]، ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ ﴾ [الأعراف: 104، 105]، ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 128، 129].

أما بالنسبة للرسول محمد، فإلى القارئ الآيات القرآنية التالية: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 123 – 125]، ﴿ وَلَئِنْ قُلْتَ… ﴾ – يا محمد – ﴿ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [هود: 7]، ﴿ قَالَ… ﴾ – أي النبي محمد – ﴿ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنبياء: 4]، إلى جانب آياتٍ أخرى يأمر فيها الله – سبحانه – نبيَّه محمدًا أن يقول لقومه كذا وكذا، وهي آياتٌ كثيرة جدًّا، وهذا في القرآن والأناجيل إنما تُشبِه سيرة النبي، ومن ثَمَّ فكلام عيسى ابن مريم فيها لا يُناظِر ما جاء منسوبًا للنبي محمد في القرآن، بل يُناظر كلامه – عليه السلام – في السيرة وفي الأحاديث، ومعروف أن الأغلبية الساحِقة من أحاديثه – صلى الله عليه وسلم – تبدأ بعبارة قال رسول الله، وكلها في العقيدة والتشريع والتوجيه الأخلاقي والسلوكي، ولو قمنا بعمَل مقارنة بين عدد الأحاديث والخُطب النبويَّة ونظائرها عند السيد المسيح – عليه السلام – لرَجحتْ كِفة النبي محمد بلا أدنى جِدال، وإذا أردنا عبارة “أقول لكم” التي ورَدت في كلام السيد المسيح، فها هي ذي بعض الشواهد على ذلك: “قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الناس فأَثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكَر الدجال، فقال: ((إنِّي لأنُذركُموه، وما من نبي إلا أنذَره قومَه، لقد أنذر نوح قومَه، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقُله نبي لقومه))، “ضربت امرأة ضرَّتها بحجر وهي حُبْلى فقتلتْها، فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما في بطنها غُرَّة، وجعل عَقْلَها على عَصَبتها، فقالوا: أنُغرَّم من لا شرِب ولا أكَل، ولا استهل، فمِثل ذلك يُطَل.

فقال: ((أَسجْعٌ كسجْعِ الأعراب؟ هو ما أقول لكم، ((إنَّ الله يأجركم على تِلاوته (أي القرآن) بكل حرف عشر حسنات، أما إنَّي لا أقول لكم: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف: ثلاثون حسنة، إيَّاكم والبِغضة، فإنَّها هي الحالِقة، لا أقول لكم: تحلِق الشعر، ولكن تحلِق الدين))، كما أن قول السيد المسيح في الأناجيل: “الحق أقول” قد ورد على لسان الخضر في حديثٍ من أحاديث “الزَّهر النَّضر”؛ رواه ابن حجر العَسقلاني، ونَصُّ العبارة كاملة: “نعم، الحق أقول: لقد سألتَني بأمرٍ عظيم، أما إنِّي لا أُخيِّبك، بوجه ربي بِعْني”، وهناك حديثٌ يشهَد فيه النبي لعمر على النحو التالي: ((إن الله جعَل الحقَّ على لسان عمر وقلبه))، وفي حديث آخر نسمَع أبا ذرٍّ الغفاري – رضي الله عنه – يقول عن الرسول – عليه السلام -: “وأوصاني أن أقول الحق، وإن كان مُرًّا، وهي كعبارة: “الحق أقول”، إلا أنها جرت على التركيب الأصلي من سبْق الفعل للمفعول به.

ثم إن بولس قد استخدم هو أيضًا هذه العبارة: “والآن أقول لكم: “تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم!”؛ (أعمال الرسل: 5/ 38)، “ها أنا بولس أقول لكم: إنَّه إن اختتنتُم لا ينفعكم المسيح شيئًا!”؛ (رسالة بولس إلى أهل غلاطية: 5/ 2)، وهو كلام خطير كما يرى القرَّاء؛ إذ لو كان عيسى إلهًا، فكيف يجرؤ بولس مهما كانت الأسباب، على القول بأنه لن ينفع عباده بشيء؟)، “وأعمال الجسد ظاهرة، التي هي: زنا، عهارة، نجاسة، دعارة، عبادة الأوثان، سحر، عداوة، خِصام، غَيرة، سخط، تحزُّب، شِقاق، بدعة، حسد، قتل، سُكْر، بطر، وأمثال هذه التي أسبق، فأقول لكم عنها كما سبقتُ فقلت أيضًا: إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله”؛ (رسالة بولس إلى أهل غلاطية: 19 – 21)، بل لقد ردَّد قول المسيح بنصه: “الحق أقول في المسيح ولا أكذب، معلمًا للأمم في الإيمان والحق”؛ (رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس: 2/ 7)، فهل نقول: إنه هو أيضًا إله أو ابن للإله؟ كما أن المسيح قد استعمَل بدوره عبارة “قال الرب” التي ينكر الواعظ الطيب – الذي على نيَّاته – أن يكون قد قالها: “وقال لهم – (أي المسيح) – أيضًا مثلاً في أنه ينبغي أن يصلَّى كل حين ولا يملَّ، قائلاً: “كان في مدينة قاضٍ لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا، وكان في تلك المدينة أرملة، وكانت تأتي إليه قائلة: أنصفني من خصمي! وكان لا يشاء إلى زمان، ولكن بعد ذلك قال في نفسه، وإن كنت لا أخاف الله ولا أهاب إنسانًا، فإني لأجل أنَّ هذه الأرملة تزعجني، أنصفها؛ لئلا تأتي دائمًا، فتقمعني!”، وقال الرب” اسمعوا ما يقول قاضي الظلم، أفلا يُنصِف الله مختاريه، الصارخين إليه نهارًا وليلاً، وهو متمهِّل عليهم؟ أقول لكم: إنه ينصفهم سريعًا! ولكن متى جاء ابن الإنسان، ألعله يجد الإيمان على الأرض؟” (لوقا: 18/ 1 – 8)، فماذا إذًا؟ إن المسألة – كما هو واضح – لا تستحق كل هذه الطنطنة!

المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى