المسيحية كما جاء بها المسيح (4)
تلقي اليهود لدعوة المسيح:
بعث الله عيسى عليه السلام بتلك البيّنات، وأيَّد رسالته بتلك المعجزات، وإنها باهرة تخرس الألسنة، وتقطع الطريق على منكري رسالته. لو كان الدليل وحده هو الذي يهدي النفوس الضالة والقلوب الشاردة، ولكن القوم الذين بعث فيهم كانوا غلاظ الرقاب، قساة القلوب، فكانت مهمته شاقة، إذ حاول هدايتهم، لأن منهم من علم الديانة رسومًا وتقاليد يتجهون إلى الأشكال والمظاهر منها دون الاتجاه إلى لُبِّها وغايتها؛ حتى لقد كان منهم من يحجم عن عمل الخير في يوم السبت زاعمًا أنه داخل في عموم النَّهي عن العمل فيه، فإذا جاء المسيح داعيًا إلى أن ينظروا إلى إصلاح القلب بدل الأخذ بالمظاهر والأشكال، فإنه لا شك يصدم هؤلاء فيما يألفون وفيما وجدوا سابقيهم.
واليهود قومٌ عكفوا على المادة، واستغرقتهم، واستولت على أهوائهم ومشاعرهم حتى لقد كان نُسّاكهم وسدنة الهياكل عندهم – وقد فاتهم العمل على كسب المال من أبوابه الدنيوية – يجمعون المال من نذور الهياكل والقرابين التي يتقرب بها الناس، ويحرصون على ذلك أشد الحرص، فكانوا يأخذون القرابين من أشد الناس حاجة وأفقرهم، فجاء المسيح وندد بهذا.
ولقد أتخذ بنو إسرائيل من تدينهم المزعوم بدين موسى والأنبياء من بعده – وزعمهم أن لهم منزلة دينية لا يساميهم فيها أحد – اتخذوا من هذا ما يصح أن يسمى أرستقراطية دينية؟ فزعموا أن لهم المكانة السامية، ولغيرهم المنزل الدون، ولو اعتنقوا الديانة اليهودية، وآمنوا برسالة موسى. فكانت هناك طائفة يقال لها السَّامرة، وكان الإسرائيليون يعاملون آحادها كأنهم المنبوذون. فلما جاء عيسى عليه السلام وسوى بين بني البشر في دعايته أنكروا عليه ذلك وناصبوه العداء. ولقد كانوا يجعلون لأحبارهم وعلماء الدين فيهم المنزلة السامية والمكانة العالية دون الناس، فجاء المسيح وجعل الناس جميعًا سواء أمام ملكوت الله.
مناوأة اليهود له:
لكل هذا تقدم اليهود لمناوأة المسيح، وقليل منهم من اعتنق دينه وآمن به، وأخذوا يعملون على منع الناس من سماع دعايته. فلما أعيتهم الحيلة، ورأوا أن الضعاف والفقراء يجيبون نداءه ويلتفون حوله مقتنعين بقوله – أخذوا يكيدون له، ويوسوسون للحكام بشأنه، ويحرضون الرومان عليه، ولكن الرومان ما كانوا يلتفتون إلى المسائل الدينية والخلافات المذهبية بين اليهود، بل تركوا هذه الأمور لهم يسوونها فيما بينهم، واليهود يريدون أن يغروا الرومان بعيسى كيفما كان الثمن، فبثوا حوله العيون يرصدونه، ويتسقطون قوله بشأن الحكومة والحكام عساهم يجدون كلمة له يتعلقون بها وينقلونها للحاكم الروماني، فلم يجدوا؛ لأن المسيح ما كان يدعو إلا إلى إصلاح الجانب النفسي الخلقي، ولم يكن قد اتجه إلى إصلاح الحكومة بعد. ولما ضاقت بهم الحيلة كذبوا عليه، وانتهى الأمر إلى أن تمكنوا من حمل الحاكم الروماني على أن يصدر الأمر بالقبض عليه، والحكم عليه بالإعدام صلبًا.
نهاية المسيح في الدنيا:
وهنا نجد القرآن الكريم يقرر أن الله لم يمكنهم من رقبته، بل نجاه الله من أيديهم، فما قتلوه، ولكن شبِّه لهم، وبعض الآثار تقول: إن الله ألقى شبهه على يهوذا. ويهوذا هنا هو يهوذا الاسخريوطي الذي تقول الأناجيل عنه إنه هو الذي دسَّ عليه، ليرشد القابضين إليه، إذ كانوا لا يعرفونه، وقد كان أحد تلاميذه المختارين في زعمهم.
ولقد وافق هذا إنجيل برنابا موافقة تامة، ففيه: «ولما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنوَّ جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفًا، وكان الأحد عشر نيامًا، فلما رأى اللهُ الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأدريل1 سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد… ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أُصعد منها يسوع، وكان التلاميذ كلهم نيامًا، فأتى الله العجيب بأمر عجيب، فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه، فصار شبيهًا بيسوع حتى إننا اعتقدنا أنه يسوع، أمَّا هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم، لذلك تعجبنا، وأجبنا أنت يا سيدي معلِّمنا، انسيتنا الآن… إلخ».
والأناجيل المعتبرة عند المسيحيين لم تختلف في شيء كاختلافهم في قصة الصلب، فلكلٍّ روايةٌ بشأنها.
المسيح بعد نجاته:
لم يُصلب المسيح بنصِّ القرآن، ولكن شُبّه على القوم، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: 157، 158] وإذا كان المسيح عليه السلام لم يصلب، فما هي حاله بعد ذلك؟
اختلَف في هذا الشأن مفسرو القرآن؛ فجلُّهم على أن الله سبحانه وتعالى رفعه بجسمه وروحه إليه، وأخذوا بظاهر قوله تعالى في مقابل القتل: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾، وببعض آثار قد وردت في ذلك. وفريق آخر من المفسرين – وهم الأقل عددًا – قالوا: إنه عاش حتى توفاه الله تعالى كما يتوفى أنبياءه، ورفع روحه إليه كما ترفع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء، وأخذوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 55]، ومن ظاهر قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117]، ولكلٍّ من المختلفين وجهةٌ هو موليها، ولا نريد أن ندخل في تفصيل حججِ الفريقين وترجيح إحداهما على الأخرى، فلذلك موضع ليس هذا مقامه.
ويزعم بعض الناس أن المسيح عليه السلام قد هاجر إلى الهند، وأنَّه عاش فيها حتى استوفى أجله ومات هناك وله قبر. ولقد جاء في “تفسير المنار” ما نصه: «وجد في بلدة سرى نكرا مقبرة فيها مقام عظيم يقال إنه مقام نبي جاء بلاد كشمير من زهاء ألف وتسعمائة سنة، ويسمَّى (يوز آسف) ويقال إن اسمه الأصلي عيسى، وإنه نبي من بني إسرائيل، وإنه ابن ملك، وإن هذه الأقوال مما يتناقله أهل تلك الديار عن سلفهم، وتذكر في كتبهم، وإن دعاة النصرانية الذين رأوا ذلك المكان لم يسعهم إلا أن قالوا: إن ذلك القبر لأحد تلاميذ المسيح أو رسله».
هذا ما جاء في “تفسير المنار”، وقد ذكر أن نقله عن غلام أحمد القديانى الهندي، وهو راو يُشكُّ في صدْقِه.
هذا، وإن القرآن الكريم لم يبيّن ماذا كان من عيسى بين صلْبِ الشَّبيهِ ووفاة عيسى أو رفعه على الخلاف في ذلك، ولا إلى أين ذهب، وليس عندنا مصدرٌ صحيحٌ يعتمد عليه، فلنترك المسألة، ونكتفي باعتقادنا اعتقادًا جازمًا أن المسيح لم يُصلب، ولكن شُبِّه لهم.
المصدر: «محاضرات في مقارنة الأديان» (ص 21 – 24).
- يريد إسرافيل وعزرائيل. ↩︎