أديان وفرق ومذاهبالمسيحية

المسيحية كما جاء بها المسيح (3)

بعثة عيسى عليه السلام ومعجزاته:

بُعث عيسى – عليه السلام – ولم يرد في القرآن الكريم ولا في الآثار الصحاح بيانُ السِّنِّ التي بُعث عند بلوغها عليه السلام، ولكن ورد في بعض الآثار أنَّه بعث في سن الثلاثين، وهي السن التي تذكرُ الأناجيلُ المعتبرة – عند النَّصارى – أنَّه بعث على رأسها، ويصح لنا أن نفرض أنه بُعث في هذه السن على هذا الأساس.

بعث عيسى – عليه السلام – يبشِّر بالروح وعجزِ الملاذِ التي استغرقت النفوس في تلك الأيام واستولت عليها، ويبشر بعالم الآخرة، ولقد أيَّده الله بمعجزاتٍ. وإنَّ ولادته نفسَها معجزة، كما جاء في “الملل والنحل” للشهرستاني؛ فقد قال – رحمه الله – في ذلك: «كانت له آياتٌ ظاهرة، وبيّنات زاهرةٌ، مثل: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ونفس وجوده وفطرته آيةٌ كاملة على صدقه؛ وذلك حصوله من غير نطفة سابقةٍ، ونطقه من غير تعليم سابقٍ».

ومعجزاته التي ذكرها القرآن الكريم تتلخص في خمسة أمورٍ جاء ذكر أربعةٍ منها في سورة المائدة في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ﴾… إلى قوله – تعالت كلماته -: ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 110 – 115].

ويستبين من هذه الآيات الكريمة أربع معجزاتٍ:

الأولى: أنَّه يصور من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، أيْ أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق على يديه طيرًا من الطين، فالخالق هو الله سبحانه وتعالى، ولكن جرى الخلق على يد عيسى وبنفخٍ من روحه عليه السلام، بإذن الله تعالى.

الثانية: إحياؤه عليه السلام الموتى بإذن الله جلَّتْ قدرتُه، والمحيي في الحقيقة هو الله العلي القدير، ولكن أجرى الإحياء على يد المسيح عليه السلام، ليكون ذلك برهانَ نبوَّتِه، ودليلَ رسالتِه.

الرابعة: إنزال المائدة من السماء بطلبِ الحواريين، لتطمئنَّ قلوبهم، وليعلموا أن قد صدقهم.

وهناك خامسةٌ ذُكرت في سورة آل عمران، وهي:

إنباؤه عليه السلام بأمورٍ غائبة عن حسِّه، ولم يعاينها؛ فقد كان ينبئ صحابته وتلاميذه بما يأكلون وما يدَّخرون في بيوتهم، وقد ذكر الله تعالى ذلك في قول تعالى حاكيًا عنه: ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 49].

الحكمة من كون معجزاته عليه السلام من ذلك النوع:

هذه معجزات عيسى عليه السلام، وهنا يتساءل القارئ: لماذا كانت معجزاته عليه السلام من ذلك النوع؟

يجيب عن ذلك ابنُ كثيرٍ في كتابه “البداية والنهاية” بقوله:

«كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان؛ فذكروا أنَّ موسى عليه السلام كانت معجزاته مما يناسب أهل زمانه، وكانوا سحرةً أذكياء، فبُعث بآياتٍ بهرت الأبصار، وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه، وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا ممن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقًا له أسلموا سراعًا، ولم يتلعثموا. وهكذا عيسى ابن مريم بُعث في زمنِ الطبائعيَّة الحكماء، فأُرسل بمعجزاتٍ لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنَّي لحكيمٍ إبراءُ الأكمه الذي هو أسوأ حالًا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميّتَ من قبره، وغير هذا مما يعلمُ كلُّ أحدٍ أنَّه معجزة دالة على صدقِ مَن قامت به، وعلى قدرة من أرسله. وهكذا محمدٌ صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين بُعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجزة تحدَّى به الأنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثله، أو بعشرِ سورٍ من مثله، أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقررون لا في الحال، ولا في الاستقبال، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا، وما ذلك إلا لأنه كلام الخالق عز وجل، والله لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله».

ما نراه حكمة صحيحة:

من هذا الكلام يستفاد أن معجزة المسيح كانت من نوع إبراء المرضى الذين يتعذر شفاؤهم وإحياء الموتى، لأن القوم كانوا على علمٍ بالطب الطبيعي وكانوا فلاسفةً في ذلك، فجاءت المعجزة من جنس ما يعرفون؛ ليكون عجزهم حجةً عليهم وعلى غيرهم ممن هم دونهم في الطب، ولكنَّ (رينان) الفيلسوف المؤرخ الفرنسي يقرِّر أن اليهود ما كانوا على علمٍ بالطب الطبيعي؛ فيقول: «كانت صناعة الطب في المشرق في ذلك الزمان كما هي اليوم، فإنَّ اليهود في فلسطين كانوا يجهلون هذه الصناعة التي وضعها اليونان منذ خمسة قرون قبل ذلك التاريخ، وكان قد ظهر قبل ذلك بأربعة قرون ونصف كتابٌ لأبُقراط أبي الطب موضوعه العلة المقدسة يعني: الهستريا، وفيه وصفُ هذه العلة وذكرُ دوائها، إلا أن اليهود في فلسطين كانوا يجهلون صدور هذا الكتاب، وكان في اليهودية في ذلك الزمان كثيرون من المجانين، وربما كان ذلك ناشئًا من شدَّة الحماسة الدينية».

فاليهود الذين بُعث المسيح بين ظهرانيهم لم يكونوا على علم إذن بالطب، أو الطب الطبيعي على رأي ذلك الفيلسوف المؤرخ. وفي الحق أن الذي نراه تعليلًا مستقيمًا لكون معجزات السيد المسيح عليه السلام جاءت على ذلك النحو هو مناسبة ذلك النوع لأهل زمانه، لا لأنهم أطباء، فناسبهم أن تكون المعجزة مما يتصل بالشفاء والأدواء، بل لأنَّ أهل زمانه كان قد سادهم إنكارُ الروح في أقوال بعضهم، وأفعال جميعهم، فجاء عليه السلام بمعجزةٍ هي في ذاتها أمرٌ خارقٌ للعادة، مصدق لما يأتي به الرسول، وهي في الوقت ذاته إعلان صادق للروح، وبرهان قاطع على وجودها، فهذا طين مصورٌ على شكل طيرٍ، ثم ينفخ فيه فيكون حيًّا، ما ذاك إلا لأن شيئًا غير الجسم وليس من جنسه فاض عليه، فكانت معه الحياة، وهذا ميِّتٌ قد أكله البلى، وأخذت أشلاؤه في التحلل وأوشكت أن تصير رميمًا أو صارت، يناديه المسيح عليه السلام فإذا هو حيٌّ يجيب نداء من ناداه؛ وما ذاك إلا لأن روحًا غير الجسم الذي غيَّره البلى حَّلت فيه بذلك النداء، ففاضت عليه الحياة، وهكذا.

فكانت معجزة عيسى عليه السلام من جنس دعايته، وتناسب أخصَّ رسالته، وهو الدعوة إلى تربية الروح، والإيمان بالبعث والنشور، وأنَّ هناك حياة أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

وهل ترى أن معجزة إحياء الموتى تسمح لمنكر الآخرة بالاستمرار في إنكاره، أو تسمح لجاحد البعث والنشور أن يستمر في جحوده. وقد أسلفنا لك القول أنَّ اليهود كان يسود تفكيرهم عدم الاعتراف بوجود الآخرة، وعدم الإيمان باليوم الآخر، إن لم يكن بالقول فبالعمل، فكان إحياء الموتى صوتًا قويًّا يحملهم على الإيمان حملًا، ولكنهم كانوا بآيات الله يجحدون.

المصدر: «محاضرات في مقارنة الأديان» (ص 17 – 21)

المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى