المسيحية كما جاء بها المسيح (2)
مريم والمسيح في القرآن:
وإذا كانت شخصية المسيح هي اللب في المسيحية الحاضرة، وأساس الاعتقاد فيها، وجب أن نبينها كما جاءت في القرآن، كما سنبينها كما جاءت في المسيحية، ليستطيع القارئ أن يوازن بين الشخصيتين، ويعرف أيهما أقرب إلى التصور، والعقل يتقبلها بقبول حسن، ولنبدأ بأمه.
يذكر القرآن الكريم مريمَ أم عيسى عليه السلام، فيقص خبر الحمل بها وولادتها وتربيتها في سورة آل عمران. فيقول – تعالت كلماته -: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 35 – 37].
هذه هي الأحوال التي اكتنفت الحمل بالبتول مريم وولادتها وتربيتها، ويلاحظ القارئ أن العبادة والنسك أظلاها، وهي جنين في بطن أمها إلى أن بلغت مبلغ النساء، واصطفاها الله لأمر جليل خطير، فأمُّها – وهي حامل بها – نذرت أن يكون ما في بطنها محرَّرًا خالصًا لخدمة بيت الله وسِدانته، والقيام بشئونه، واستمرت مصممة على الوفاء بنذرها، فلما وضعتْ – وكان نذرها على فرض الذكورة – كما يبدو من إشارات النصوص القرآنية، جددت العزم على الوفاء بالنذر، وقد وجدت ما تسوِّغه النفس للتحلُّلِ من النذر، فكان ذلك الإصرار عبادة أخرى؛ إذ وُجدت في النفس داعيات التردد، والرجوع والتحلل من الوفاء، فكان كفُّها هذه الداعيات والقضاء عليها عبادةً أخرى.
ثم انصرفت الفتاة الناشئة منذ طراوة الصبا إلى النُّسك والعبادة، وقام على تنشئتها وهدايتها وتعليمها نبي من أنبياء الله الصِّديقين الصالحين؛ فكفلها زكريا، ووجهها إلى العبادة الصحيحة، وتنزيه القلب من كل أدران الشر والإثم، وكان الله سبحانه وتعالى يُدرُّ عليها أخلاف الرزق من حيث لا تقدر ولا تحتسب، ومن غير جهد ولا عَنَتٍ، حتى أثار ذلك عجب نبي الله كافلِها فكان ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].
ولقد كانت تلك التنشئة الطاهرة التي تكوَّنت في ظلها بريئة من دنس الرذيلة – لا يجد الشيطان سبيلًا أو منفذًا ينفذ إلى النفس منها – تمهيدًا لأمرٍ جليل قد اصطفاها الله تعالى له دون العالمين، ولذا خاطبتها الملائكة وهي الأرواح الطاهرة باجتباء الله لها: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43]. ولقد كان ذلك الاصطفاء هو اختيار الله لها لأن تكون أمًّا لمن يولد من غير نطفة آدمية، وكان ذلك لكي تكون آية مشهورة، تحمل – فيما حفَّ بها من أحوال – القرائنَ التي تقطع ريب المرتاب، وألسنة كل أفاك، وتغير السبيل أمام المؤمنين إذ أن ولادته من غير أب من أم كانت حياتها للنسك والعبادة، والعكوف على التقوى، وتحت ظل نبي من أنبياء الله تعالى لم تُزَنَّ بريبةٍ قطّ – يجعل المؤمن يعتقد بآية الله الكبرى في هذا الكون، ولا يجعل شيئًا يقف أمام مريد الهداية من تطنن بالأم أو ريبة فيها، فحياتها كلها من قبل ومن بعد تنفي هذه الريبة، وتبعدها عن موطن الشبهة .
الحمل بالمسيح وولادته:
حملتِ العذراء البتول مريم بالسيد المسيح عليه السلام، وهو الأمر الذي اجتباها الله له، واختارها لأجله، ولقد فوجئت به، إذ لم تكن به عليمة، فبينما هي قد انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، أرسل الله إليها ملكًا تمثل لها بشرًا سويًا ﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 18 – 23].
حملت السيدة مريم البتول بعيسى من غير أب، ثم ولدته، ولم تبين الآثار النبوية مدة الحمل، فلم يرد في الصحاح آثار تبين تلك المدة، ولو كانت مدة الحمل غريبة لذكرت، فليس لنا إذن إلا أن نفرض أن مدة الحمل كانت المدة الغالبة الشائعة بين الناس، وهي مدة تسعة أشهر هلالية.
ولما ولدته وخرجت به على القوم كان ذلك مفاجأة لهم، سواء في ذلك من يعرف نسكها وعبادتها، ومن لا يعرف، لأنها فاجأتهم بأمر غريب، وهي المعروفة بينهم بأنها عذراء ليس لها بعل، فكانت المفاجأة داعية الاتهام، لأنه عند المفاجأة تذهب الروية، ولا يستطيع المرء أن يقابل بين الماضي والحاضر، وخصوصًا أن دليل الاتهام قائم، وقرينته أمر عادي لا مجال للريب فيه عادة، ولكن سبحانه وتعالى رحمها من هذه المفاجأة، فجعل دليل البراءة من دليل الاتهام لينقضَ الاتهام من أصله، ويأتي على قواعده ويفاجئهم بالبراءة وبرهانها الذي لا يأتيه الريب، ليعيد إلى ذاكرتهم ما عرفوه في نُسُكها وعبادتها، ولذلك نطق الغلام وهو قريب عهد بالولادة، أشارت إليه ﴿ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 29 – 33].
نطق السيد المسيح في المهد، ليكون كلامه إعلامًا صريحًا ببراءة أمه وأنه لم يكن إلا عبدَ الله، ولد من غير أب، ويروي ابنُ كثير: « عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلًا، حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم انطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، فأكثرَ اليهودُ فيه وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية، وذلك بقوله تعالى: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 156]».
ولم يُذكر في الآثار الصحاح عن النبي عليه الصلاة والسلام حال عيسى عليه السلام في مرباه ونشأته، وكيف كان منه مما يكون إرهاصًا بنبوته، فليس لنا إلا أن نقول: إنه قد تربى بما كان يتربى به أمثاله الذين ينشئون على التقى والمعرفة في بني إسرائيل. ويغلب على الظن أن يكون قد ظهر منه وهو غلام، ما يدل على روحانيته، وما يدعو إليه بعد ذلك من حياة روحية، وسط قوم سيطرت عليهم المادة، وغلبت عليهم نزعاتها، والاتجاه إليها.
الحكمة في كون المسيح ولد من غير أب:
ولا بد من أن نشير هنا قبل أن ننتقل إلى بعثته عليه السلام إلى السبب الذي من أجله ولد عيسى عليه السلام من غير أب، فإنه لابد أن يكون ذلك لحكمه يعلمها الله جلَّت قدرتُه، وقد أشار إليها سبحانه في قوله تعالت كلماته: ﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21].
وإنا نتلمس تلك الآية الدالة في ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، فنجد أنه يبدو أمام أنظارنا أمران جليان:
أحدهما: أن ولادة عيسى عليه السلام من غير أب تعلن قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه الفاعل المختار المريد، وأنه سبحانه لا يتقيد في تكوينه للأشياء بقانون الأسباب والمسببات التي نرى العالم يسير عليها في نظامه الذي أبدعه الله والذي خلقه، فالأسباب الجارية لا تقيد إرادة الله، لأنه خالقها، وهو مبدعها ومريدها؛ فإن الأشياء لم تصدر عن الله جلت قدرته، كما يصدر الشيء عن علَّته، والمسبَّب عن سببه، من غير أن يكون للعلة إرادة في معلولها، بل كانت بفعله سبحانه وبإرادته التي لا يقيدها شيء مهما يكن شأنه، وخَلْقُ عيسى من غير أب هو بلا ريب إعلان لهذه الإرادة الأزلية، بين قوم غلبت عليهم الأسباب المادية، وفي عصر ساده نوع من الفلسفة، أساسها أن خلق الكون كان مصدره الأول كالعلة عن معلولها، فكان عيسى آية الله على أنه سبحانه لا يتقيد بالأسباب الكونية، وأن العالم كله بإرادته، ولم يكن سبحانه بمنزلة العلة من المعلول: ﴿ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 43].
الأمر الثاني: أن ولادة المسيح عليه السلام من غير أب إعلان لعالم الروح بين قوم أنكروها، حتى لقد زعموا أن الإنسان جسم لا روح فيه، وأنه ليس إلا تلك الأعضاء والعناصر التي يتكون منها، فلقد قيل عن اليهود أنهم كانوا لا يعرفون الإنسان إلا جسمًا عضويًّا، ولا يقرون أنه جسم وروح، فقد قال “رينان” في سبب الحقد الذي تغلغل في النفس اليهودية: « لو كان الشعب الإسرائيلي يعرف التعاليم اليونانية التي كان من مقتضاها اعتبار الإنسان عنصرين مستقلين: أحدهما الروح، والآخر الجسد، وأنه إذا تعذبت الروح في هذه الحياة فإنها تستريح في الحياة الثانية، لسرى عنه شيء كثير من عذاب النفس، واضطراب الفكر، بسبب ذُله وخضوعه، مع ما كان يراه في نفسه من الامتياز الأدبي والديني عن الشعوب التي كانت تذله».
يقرر “رينان” في هذا أن اليهود ما كانوا يقولون كاليونان أن الإنسان جسم وروح، ولقد يؤيد هذا ما جاء في التوراة التي بأيديهم في تفسير النفس بأنها الدم، فقد جاء فيها: «لا تأكلوا دم جسم ما، لأن نفس كل جسد هي دمه». إذن لم يكن اليهود يعرفون الروح على أنها شيء غير الجسم، فلما جاء عيسى من غير أب، وكان إيجاده بروح من خلق الله، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91] كان ذلك الإيجاد الذي لم يكن العامل فيه سوى ملك من الأرواح نفخ في جيب مريم، فكان الإنسان من غير بذرة الإنسان وجرثومته. كان ذلك إعلانًا لعالم الروح بين قوم أنكروها، ولم يعرفوها، فكان هذا قارعة قرعت حسَّهم ليدركوا الروح، وكان آيةً معلمة لمن لم يعرف الإنسان إلا إنه جسم لا روح فيه، وهذه آية الله في عيسى وأمه عليهما السلام.
المصدر: «محاضرات في مقارنة الأديان» (ص 13 – 17)