المسلم والظواهر الكونية من استلهام قوانين التسخير إلى تفعيل آليات التسيير
لا شك أن السُّنَن الإلهية قد احتلت – كما هو معلوم – مكانةً رفيعةً في القرآن الكريم، ويُلاحظ أن التوكيد على أهمية التعامل العقلاني مع هذه السنن قد جاء جليًّا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن إحكام الربط العضوي بين عملية الخلق الإلهي للظواهر الكونية، والتفكُّر فيها باعتبارها آيةً لذوي العقول اللبيبة – لم يأتِ لمجرد ترسيخ اليقين بإلهية الخلق، والتسليم الحسي بتلك الحقيقة وحسب، وإنما تضمَّن نفي الخلق العبثي للظواهر، بما يفيد القصدية التامة من الخلق، اعتقادًا بترسيخ الإيمان بألوهية الخالق، وقدرته المطلقة في الخلق، وسلوكيًّا بالانتفاع العملي من فضله بالتسخير بما يتيسر من طرائق عملية للإنسان مع الزمن في كل مجالات الحياة.
ومع أن القرآن الكريم قد حثَّ الإنسان على ضرورة التفكُّر في الظواهر الكونية؛ لسبر أغوار قوانين التسخير الإلهي التي تحكمها، ولفت نظره إلى عدم عبثية التسخير بقصد تعزيز رُوح اليقين لديه، والسعي لوضع آليات التسيير العملي في إطار ممكنات الانتفاع الإيجابي مِن وراء تطويع تسخير تلك القوانين؛ لكن الملاحظ أن الاهتمام بجدلية هذه الموضوعات المهمة، لما يأخذ مداه الكامل في أوساط المسلمين اليوم، ولم تحظَ منهم تلك الجدلية بما تستحقُّه من العناية الكافية؛ حيث تم إهمال البحث في الظواهر الكونية، وتنحيتها من السبر جانبًا، الأمر الذي نجم عنه فقر مُدقع في تراكم المعرفة العلمية والتقنية، في علوم الكون، والفضاء، وفي مختلف المجالات الصناعية الأخرى لدى الوجدان الإسلامي المعاصر بشكل عام، مما حرمه مِن منافع تسخيرها العملي لصالحه، واكتفى بما يجود عليه العالم الصناعي المتقدِّم مِن معلومات متواضعة للبحث، أو التعليم، أو التطبيق في الحياة اليومية الراهنة، بقيود صارمة، وبتكاليف خيالية، وشروط استخدام مجحفة.
ولذلك فإن المطلوب من المسلمين اليوم التحرُّك الجاد لتفعيل التعامل مع السُّنَن الإلهية الكونية، وتنشيط التفاعل مع علومها، والعمل على توظيف ما استُكشف، وما سيستكشف من قوانين تحكمها، والمباشرة بتسخيرها؛ لغرَض توليد أقصى ما يمكن من منافع تُرتجى من وراء ذلك التسخير العملي؛ بهدف تحقيق تنمية مستدامة فعَّالة، ترتقي بالحال العربي المسلم المنهك بيئيًّا وتنمويًّا إلى آفاق مستهدفة متقدمة، وعدم الاكتفاء بما تورده لهم مصادر التجهيز الصناعية المتطورة مِن فتات تقنيات، تجاوزها أفق التطوُّر عندهم، لاسيما أنهم الأولى من غيرهم بتحقيق الانتفاع الكلي من قانون التسخير الذي ساقه القرآن الكريم، باعتبار الإنسان خليفة الله على الأرض، وأنه مُطالَب بإعمارها مِن غير تكاسُل في نشاطه الدنيوي عن تحقيق هدف الإعمار، والتنمية، وإشاعة الإصلاح، تناغُمًا مع قاعدة: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105].
وبعكس ما تقدَّم، فإن الحال العربي المسلم سيبقى متخلِّفًا، وسيبقى عوزه العلمي والتقني والصناعي قائمًا في كل المجالات، وإلى أمدٍ قد يطول، مما يعني تفاقُم فجوة تخلُّفه عن مواكبة العصر، وما يترتَّب على هذا الأمر مِن تداعيات مخاطر تعميق حالة التبعية العلمية والتقنية؛ ومن ثم تقييد حرية الإرادة السياسية في ردم تلك الهوة، وصعوبة تجاوز حالة التخلُّف المزري عن اللحاق بركب الأمم المتطورة، وهو حال منكفئ لم يعد مقبولًا، وينبغي الشروع بمغادرته على عجل.