“الله غيب” هل تعني أن وجوده غير يقيني ؟
من المفاهيم الخاطئة والخطيرة أنَّ كون الإيمان غيبيًا يعني أنَّه شيءٌ غير يقينيٍّ، ليس أكيدًا، احتمالٌ كبيرٌ جدًا لكن لا تستطيع أن تقول: مائةً بالمائة.
يقولون لك: لا أحد يستطيع أن يجزم بصحَّة ما لديه وخطأ الطرف الآخر؛ لأنَّه غيبٌ في النهاية. وترى مَن يطبِّق ذلك حتَّى على المسألة الكبرى؛ على وجود الله تعالى، ويقول: “الإيمان هو أن تؤمن بشيءٍ دون وجود كلِّ الأدلَّة الحاسمة والقاطعة عليه، الإيمان يحتاج إلى قفزة إيمان؛ أي إلى شيءٍ لا يمكن البرهنة عليه بشكلٍ قطعيٍّ، الإيمان يحتاج هذه القفزة الشجاعة في الفراغ”.. ومثل هذه العبارات التي تجعل الإيمان بوجود الله وبالغيب عمومًا أمرًا حَدْسِيًّا، تخمينيًّا، لا قطعيًّا يقينيًّا، تجعله أمرًا بغلبة الظنِّ، احتماله كبيرٌ لكنَّه دون المائةً بالمائة. فهل الإيمان بوجود الله هو كذلك فعلًا في المنظومة الإسلاميَّة؟ يقينًا لا؛ بل الإيمان بوجود الله هو إيمانٌ بما تدلُّ الأدلة عليه بشكلٍ قطعيٍّ حاسمٍ لا يقبل الشكَّ ولا التردُّد، وكونه غيبًا لا يعني أبدًا أنَّه لا يمكن الجزم به؛ غيبٌ لا يساوي مبهمًا أو غامضًا، ولا يعني أنَّ الإيمان بالله هو موقفٌ عاطفيٌّ تسليميٌّ محضٌ؛ بل هو موقفٌ برهانيٌّ استدلاليٌّ فطريٌّ عقليٌّ.
الإيمان بوجود الله هو إيمانٌ يدلُّك عليه العقل والفطرة دون أنْ يمنعك مرض القلب أو اتِّباع الهوى.
والغريب أنَّ هذه المسألة -التي هي أَوْلى بدَهيِّات الإسلام- ليست واضحةً عند بعض مَن يتصدَّى لمحاربة الإلحاد، إنْ كان الإيمان بالله عند بعض أتباع الأديان الأخرى قد اختلط بصورة مشوَّهة عن الله تعالى وصفاته ممَّا جعل أتباع هذه الأديان يحتاجون القفزَ في الفراغ، والتسليمَ غير المستَنِد إلى العقل، فنحن لا نحتاجه في الإسلام -والحمد لله-. هذه الحلقة للمسلمين، وهي أيضًا للمتشكِّكين الذين قد يظنُّون أنَّنا ندعوهم إلى الإيمان الحَدْسيِّ العاطفيِّ التسليميِّ؛ بل نحن ندعوهم إلى إيمانٍ فطريٍّ عقليٍّ مُبرْهَنٍ. كما أنَّ التسليم الذي ندعو الناس إليه ليس في مسألة وجود الله، التسليم ليس هنا؛ بل التسليم هو في أمورٍ في تفاصيل الإسلام المبنيَّة على إيمانٍ فطريٍّ عقليٍّ مُبرْهَنٍ القرآن الذي ندعو إليه يقول: ﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ﴾ [القرآن 15:49]؛ أي: آمنوا إيمانًا يشمل التصديق الجازم الذي لا يُخالطه شكٌّ، وليس غلبة ظنٍّ، ولا إيمانًا احتياطيًّا، ولا إيمانًا اعتباطيًّا، نؤمن هكذا مع أنَّنا نرى أنَّ الأدلة على وجود الله غير قطعَّيةٍ؛ بل المنظومة الإسلامية تنصُّ على أنَّ وجود الله -عزَّ وجلَّ- هو الحقيقة الكبرى بل الله نَفْسُه هو الحقُّ، ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل﴾ .
ولشدَّة بداهة وجود الله تعالى فإنَّ القرآن لا يجعل هذه القضية محور أدلَّته ومناقشاته؛ بل يدلِّل على شيءٍ زائدٍ عن مجرَّد الوجود كالتوحيد وصفات الله تعالى، أمَّا الوجود نفسُهُ فقضيَّةٌ محسومةٌ؛ ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ آيةٌ تتضمَّن الدليل الفِطريَّ والدليل العقليَّ: أفي الله شكٌّ؟ أيْ هل في وجوده شكٌّ؟ أو هل في وحدانيَّته شكٌّ؟ فوجوده ووحدانيته أمرٌ فطريٌّ مغروسٌ في النفس لا يُشَكُّ فيه، والبرهانُ العقليُّ أنَّه فاطرُ السماوات والأرض؛ فكلُّ ما في الكون يدلُّ صحيحَ العقل سليمَ القلب على وجود الخالق.
في مُحاجَجَةِ موسى لفرعون: قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين﴾؛ أيْ: بالنظر إلى هذه الكائنات فإن ربّ العالمين أَعْرَفُ مِن أنْ يُنكَر، وأظهرُ مِن أنْ يُشكَّ فيه.. “إنْ كنتم موقنين”؛ أي: إنْ كنتم مِن أهل اليقين بأيِّ شيءٍ، فإنَّ اليقين بهذا الربِّ أَوْلى مِن كلِّ يقينٍ، وإنْ قلتم: “لا يقينَ لنا بشيءٍ”، فأنتم كاذبون؛ فكلُّ إنسانٍ لا بدَّ له مِن يقينٍ بأمورٍ بَدَهيَّة ضروريَّةٍ… إلى أنْ قال فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ فردَّ عليه موسى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ؛ أي: إنْ أنكرتم اللهَ فأنتم أَوْلى بوصف الجنون؛ لأنَّكم سُلِبتُم العقلَ النافعَ.. فالعقل ما هو؟ هو في الأساس علومٌ ضروريَّةٌ مثل مبدأ السببيَّة، وهي تدلُّ على الخالق سبحانه، فإنْ كان لكم يقينٌ عَرَفتُم اللهَ، وإنْ كان لكم عقلٌ عرَفْتُم اللهَ.
بنفس المعنى أيضًا تأمَّل معي مَطلع سورة الجاثية: ﴿إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آياتٌ لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آياتٌ لقوم يعقلون * تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}﴾ نفسُ المفاهيم التي في حوار موسى لفرعون: (يوقنون)؛ فالذي عنده يقينٌ فأَوْلى اليقينِ اليقينُ بالله وبآياته الكونيَّة.
(يعقلون)؛ فمَن عنده عقلٌ فلن ينكر ربَّه، ولن تكون عنده مشكلة في أن يؤمن بالغيب وحينئذٍ. ﴿إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين ﴾ . ﴿فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون﴾ .
فالذي لا يؤمن بالله وآياته الكونيَّة مع شدَّة ظهورها فأَوْلى به ألَّا يؤمن بشيءٍ؛ لأنَّ الله وآياته أَظْهَر ما يمكن أن يؤمن به إنسانٌ؛ ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ ﴿لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾؛ فالذي لا يؤمن بالله كأنَّه ما أبصَرَ ولا سَمِع ولا أحسَّ ولا عَقِل.. وقال تعالى: ﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين﴾ ؛ لله الحُجَّة الدَّالَّةُ على صِدق كلامه، (البالغة) أيْ: الواصِلة إلى ما قُصِدت لأجله، وهو أن يُغلَب الخصم وتَبْطُل حُجَّته. هذا كلُّه في إثبات صفات الله تعالى ووحدانيَّته وتفاصيلَ مِن دِينه.