الفُقهاءَ أجمعوا على جَوَاز وَطْء الصَّغيرة، والدُّخُول بها، وإنْ كانت ستتعرَّض للموت!
(57) زعم البحيري: أنَّ الفُقهاءَ أجمعوا على جَوَاز وَطْء الصَّغيرة، والدُّخُول بها، وإنْ كانت ستتعرَّض للموت.
– الرَّدّ: وهذا باطلٌ مِن وُجُوهٍ كالتَّالي:
أولاً: جواز نكاح البنت الصَّغيرة جائز بنص كلام الله – عز وجل -: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 4، 5].
فمعنى الآية: والنِّساء المُطلَّقات اللَّاتي انقطع عنهنَّ دَمُ الحيض؛ لِكِبَرِ سِنِّهِنَّ، إن شككتم فَلَم تَدْرُوا ما الحكم فيهنَّ؟ فعدَّتهنَّ ثلاثة أشهر، والصَّغيرات اللاتي لم يحضن، فعدَّتهن ثلاثة أشهر كذلك. وذوات الحَمْل مِن النِّساء عِدَّتُهُنَّ أن يضعن حَمْلَهنَّ. ومَن يَخَفِ اللهَ، فينفذ أحكامه، يجعل له من أمره يُسرًا في الدُّنيا والآخرة.
والشاهد قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} المقصود به الصَّغيرات اللَّاتي لم يحضن، وهو قول عامَّة المُفسِّرين، فإن لم تعتدّ بهذا، فراجع قول شيخ الأزهر السَّابق «محمد سيد طنطاوي» – رحمه الله – في تفسيره «الوسيط» (14/452)، وكذلك راجع كلام الشيخ «الشَّعراوي» في «تفسيره الخواطر» (2/985) تجدهما قالا بالتَّفسير السَّابق.
وبناءً على ذلك، فلا تَفْتَرِ على اللهِ الكَذِبَ في كتابه، والله – عز وجل – يقول: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].
ثانياً: هذا إجماعُ أُمَّةٍ، نقله غيرُ واحدٍ من أهل العِلْم، منهم على سبيل المثال – هذا للعِلْم وليس للرَّدّ على البحيري -:
قال «ابنُ قُدَامَةَ الحنبلي» في «المغني» (7/40): [قال ابن المُنذر: أجمع كلّ مَن نحفظ عنه مِن أهل العِلْم، أنَّ نِكَاحَ الأبِ ابنته البِكْر الصَّغيرة جائزٌ، إذا زَوَّجَهَا مِنْ كُفْءٍ، ويجوز له تزويجها مع كراهيتها وامتناعها.]
– وقال «ابن رُشد المالكي» في «بداية المجتهد» (3/34): [وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَبَ يُجْبِرُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ الْبِكْرَ وَلَا يَسْتَأْمِرُهَا؛ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ ▲ بِنْتَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، وَبَنَى بِهَا بِنْتَ تِسْعٍ بِإِنْكَاحِ أَبِي بَكْرٍ أَبِيهَا ؓ».]
– وقال «ابنُ حَجَرٍ العسقلانيُّ الشافعيُّ» – رحمه الله – كما في «فتح الباري» (9/124): [قال ابن بطَّال: يَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ بِالْكَبِيرِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ، لَكِنْ لَا يُمَكَّنُ مِنْهَا حَتَّى تَصْلُحَ لِلْوَطْءِ.]
فهذا إجماعُ الأُمَّة، وسبيل المؤمنين، فهل تستطيع أن تُشاققهم يا بحيري أو تتَّبع غير سبيلهم، والله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
ثالثاً: قول البحيري «ويتم الدُّخُول بيها، وهو كده»، كَذِبٌ على الفُقهاء، إنَّما الفُقهاء تكلَّمُوا على جواز النِّكاح الذي هو العَقْد، وإنَّما الدُّخُول فَقَد اشترطوا له تحمُّل البِنْت وعَدَم ضَرَرها، كما سبق من كلام «ابن بطَّال» الماضي حيث قال: [يَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ بِالْكَبِيرِ إِجْمَاعًا وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ لَكِنْ لَا يُمَكَّنُ مِنْهَا حَتَّى تَصْلُحَ لِلْوَطْءِ]
فها هو إجماع الفُقهاء على أنَّ البِنْت لا يُدخل بها إلَّا إذا كانت مُستطيعة لذلك مُتحمِّلة له، بل حتى ولو كانت كبيرة، فإنَّها لا يُدخل بها إلَّا إذا استطاعت.
وأيضًا: قال «ابن قدامة» في «المُغني» (10/169): [فَصْل: وإمكانُ الوَطْء في الصَّغيرة معتبرٌ بحالها واحتمالها لذلك. قاله القاضي، وذكر أنَّهن يختلفن، فقد تكون صغيرة السن تصلح، وكبيرة لا تصلح. فمتى كانت لا تصلح للوَطْء لم يجب على أهلها تسليمها إليه، وإن ذكر أنَّه يُربِّيها، وله مَن يخدمها، لأنَّه لا يملك الاستمتاع بها، ولا يُؤمَن شَرَهُ نَفْسِهِ وإلى مواقعتها فيفضيها أو يقتلها.] اهـ
وأيضًا قال في «عُمدة القاري» (20/179): [أنّا نقول: إن بَلَغَت التِّسع ولم تقدر على الجماع كان لأهلِها منعُها، وإن لم تبلغ التِّسع وقويت على الرِّجال، لم يكن لهم منعها من زوجها. وقال الشافعي: إذا قاربت البُلُوغ وكانت جسيمة تحتمل الجماع فلزوجها أن يدخل بها، وإلَّا منعها أهلها حتى تحتمل. أي: الجماع.] اهـ
أمَّا استنكار البحيري لزواج الصَّغيرة فانظر فيه مَزيدَ تفصيلٍ في رَدِّ أحمد بن علي الجبيلي على مقال البحيري، الآتي في نهاية الفَصْل الرَّابع، والله وليّ التَّوفيق.
ونُورد هُنا من باب المُناظرة ما قاله «وِلّ ديورانت» في «قِصَّة الحضارة» (16/182): [كان الشَّابّ في عصر الإيمان قصيرَ الأجل، وكان الزَّواج يحدث فيه مُبكِّراً، وكان في وِسْع الطِّفل وهو في السَّابعة من عمره أن يُوافق على خطبته. ولقد تزوَّجت جراس صليبي Grace de Saleby في الرَّابعة من عمرها بشريف عظيم يستطيع حماية ضيعته الغنية، ثم مات هذا الشريف ميتة سريعة فتزوجت وهي في السادسة من عمرها بشريف آخر، وزُوِّجت وهي في الثَّالثة عشرة بشريف ثالث.] اهـ
وقال أيضًا في (21/95): [وكان من المُستطاع خِطْبَة البنت وهي في الثالثة من عمرها، وإن كان الزواج يؤجَّل في العادة حتى تتم الثانية عشرة. وكانت البنت في العُصُور الوسطى، إذا بقيت حتى الخامسة عشرة دون زواج، تجلل أسرتها العار.] اهـ
وقال أيضًا في (21/96): [ولسنا نعرف حُبًّا نشأ بين فتى وفتاة أعمق أو أصدق من الحبّ الذي نشأ بين فيكتوريا كولنا والمركيز بيسكارا Pescara، وقد خطبت له وهي في الرابعة.] اهـ