العَظَمة في كل مكان !
في هذه الحلقة (العَظَمة في كل مكان !) تجدون:
1. تأملات لقول الله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)
2. لماذا لا تكون “القوانين” هي التي تمسك السماوات والأرض؟
3. لفتة جميلة إلى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)
إخوتي الكرام، عندما نتكَّلمُ عن الأدلَّة العقليَّةٍ على وجود الله، فإنَّ أكثر دليلين يُذكران عادةً هما: دليل الإيجاد، ودليل الإتقان. دليل الإيجاد للمخلوقات تكلَّمنا عنه في حلقة (لماذا لا بدَّ مِن خالقٍ؟). أمَّا دليل الإتقان، فنبدأ بالحديث عنه اليوم.
والحقيقة أنِّي أتهيَّبُ مِن الإقبال على الحديث عن هذا الموضوع -موضوع الإتقان في الخَلْق-؛ أتهيَّب لأنَّه المهمَّة السَّهلة الصَّعبة. نعم، مِن السَّهل أن تتكلَّم عن إتقان الخَلْق؛ لأنَّه لو مُثِّلَتْ أنواعُ الكائنات أمامكَ على جدار غرفتكَ في لوحةٍ كبيرةٍ تحتوي كلُّ نقطةٍ منها على صورةٍ لكائنٍ أو جزءٍ منه، ثّم أغمضتَ عينيكَ ووضعت إصبعك عشوائيًّا على أيَّة نقطةٍ، فإنَّ بإمكان العِلْمِ أن يُحدِّثك لساعاتٍ عن عظَمة الإتقان والإحكام في هذه النُّقطة!
لكنْ في الوقت ذاته هناك صعوبةٌ في الحديث عن الإتقان؛ صعوبةٌ لأنَّ الحديث عن نموذجٍ ونموذجين أو عشرةٍ وعشرين من الإتقان يهضِم الموضوعَ حقَّه.
فالإتقان مبثوثٌ في كلِّ تفصيلٍ من تفاصيل هذا الوجود، بل الإتقان يساوي الوجود، قال الله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وقال: ﴿ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾
لذلك فعندما أقول لك: تعال نرَ نماذج من الإتقان، فهذا يساوي أن أقولَ لك: تعال نرَ نماذج من الوجود، فالإتقان يساوي كلَّ شيءٍ في الوجود.
إتقان الخَلْقِ يظهرُ في تَهْيِئةِ لساني وفكَّيَّ وأسناني لأستطيعَ التحدُّث لكم عن الإتقانِ في الخَلْق..
يظهرُ في إبصاركم لي وسماعِكم صوتي وفهمِكم كلامي، واحتفاظكم في ذاكرتكم بما أقول.. يظهر حتَّى في حركاتِ المُنكِر الذي يتأهَّب ليَسخَر، أو يُكذِّب ما أقولُ، مع أنَّ كلَّ العمليَّات التي يقوم مِن خلالها بذلك تشمل إتقانًا في تفاصيل خَلْقه..
نحن لا نُقدِّر حالةِ الإتقانِ والنظامِ والإحكامِ التي نعيش فيها، لأنَّنا لم نجرِّب البديلَ عنها، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [القرآن 35: 44]، آيةٌ عظيمةٌ حقًّا!
أكثر مِن تسعين عنصرًا طبيعيًا مُكتشَفًا في هذا الوجود، رُتِّبت نيوترونات كلٍّ منها وبروتوناتُه في أنْوِيَةٍ محدَّدة الحجم بدقّةٍ، تجذِب الإلكترونات في مداراتٍ بالأبعادِ اللّازمة، هذه العناصر تفاعلت بقوانين كيميائيةٍ ثابتةٍ لتعطيَ مُركَّبات، فتهيَّأت الفرصةُ للحياة.
غلافٌ جويٌ بالارتفاع والكثافة المناسِبَينِ، يحتوي غازاتٍ بالنِّسب اللازمة، وينقل الموجات الصوتيَّة بسرعةٍ مضبوطةٍ. تربةٌ مهيَّأةٌ لاستقبال البذور واختزان ماء الأمطار.
ماءٌ بِلُزوجةٍ وخواصِّ إذابةٍ محدَّدةٍ، يتبخَّر عند درجة حرارةٍ معيَّنةٍ ليُشكِّل السُّحب، ويتكثَّف عند درجةٍ أخرى ليهطل مطرًا، وكلُّ ذلك بالمقادير المناسبة لدورته في الطبيعة.
ضوءٌ يسيرُ بالسُّرعة المناسبة.
جاذبيةٌ أرضيةٌ بالمقدار اللّازم، بحيث لا نَسبحُ في الهواء، ولا تلتصقُ أقدامنا في الأرضِ.
أرضٌ تدور بسرعةٍ دقيقةٍ لليلٍ ونهارٍ يتعاقبان للنَّوم والعمل.
فصولٌ أربعةٌ تجدِّد النَّفس وتُحيي الثمار.
بُعدٌ دقيقٌ للشَّمس، فلا تُحرقنا ولا نتجمَّد.
آلاف المليارات من الكواكب والنجوم، تسير بسرعةٍ مناسبةٍ في مداراتٍ محدَّدةٍ بدقّةٍ شديدةٍ، فلا تصطدم. نشأنا ونحن نرى الكون هكذا، فاعتدنا عليه، ولا نتصوَّر كم هو مذهلٌ مدهشٌ، لأنَّنا لم نرَ حالةً ليس فيها نظامٌ. نحن نعرفُ معنى الشَّبعِ لأنَّنا جرَّبنا الجوعَ، نعرف معنى الرَّاحةِ لأنَّنا جرَّبنا التَّعبَ، وبضدِّها تتميَّزُ الأشياءُ.
لكنَّنا لا نُقدِّر عظَمة النِّظام والإتقان لأنَّنا لم نر حالةً ليس فيها إتقانٌ، بمعنًى آخر: لا نُقدِّر عظَمة وجود الله لأنّنا لم نجرِّب حالةً ليس فيها الله. لذلك فعندما نَذْكر في هذه السلسلة ما يقوله الإلحاد، فإننا نرسم الظلامَ حتى نستطيع أن ندركَ قيمةَ نورِ اللهِ بالمقارنة به، نرسم الظَّلامَ الذي لم نشاهده يومًا ولن نشاهده، ظلامَ عدم وجود الله.
نحن نُعتّم صورة الكونِ الكليَّةِ، ونتركُ النورَ في هذا الجزءِ المحدَّدِ، لنستطيعَ أن نراه ونعطيه شيئًا من قَدْره بعدما ألِفناه طويلًا ولم نحسَّ بالعظَمةِ في إتقانه.
ما ذكرناه وما لم نذكرهُ من قوانينَ ضابطةٍ تسمح بالحياة، لو اختلَّ شيء منها ولو بمقدارٍ ضئيلٍ لما بقيتْ حياةٌ، ولزالتْ حالة النِّظام والتناسق في الكون.
مَن يُمسك الجسيماتِ في الذَّرَّاتِ أن تتناثر؟! مَن يُمسك طاقةَ الذرَّات أن تتحرَّرَ وتتفجَّرَ كما تتحرَّرُ الطاقةُ في القنابلِ الذريَّة؟! مَن يُمسك المخلوقاتِ على الأرضِ أن تتطاير؟! مَن يُمسك الكواكبَ والنجومَ أن تصطدمَ؟! ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ﴾