أديان وفرق ومذاهبالمسيحية

السيد المسيح والمؤامرة اليهودية‏

ما إن أدرك السيد المسيح – عليه السلام – أن قُوَى الخطيئة ابتدأت تطارده في عنف وقسوة، وأنهم يودُّون النَّيْل منه قتلاً وتعذيبًا، وخاصة بعد القرار الخطير الذي اتَّخذه رئيس الكهنة الذي يدعى‏ “‏قيافا‏”‏ بمطاردة السيد المسيح – عليه السلام – والإمساك به، حتى قد ظهرت بوادر النهاية لدَوْر المعلِّم العظيم في مجتمع الخِرَاف الضالَّة‏.‏

ويبدو أن الإمساك بالسيِّد المسيح، وتنفيذ ما يريد القوم الثائرون عليه الرافضون لدعوته، كان قد أدركها السيد المسيح – عليه السلام – وأنهم في العيدِ الذي كان قد حلَّ واقترب يودُّون أن يجعلوا التخلُّص منه في عيدهم، فقالوا – فيما يرويه إنجيل ‏”‏متى‏”‏ من الإصحاح السادس والعشرين -: ‏‏”ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها، قال لتلاميذه: تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح، وابن الإنسان يسلم ليُصلَب‏”‏‏.‏

وعلى ضوء آيات الأناجيل، فإن السيد المعلِّم العظيم قد قصد أن يهيِّئ النفوس، ويشعر القلوب أن القوم جميعًا يُقبِلون على خطر محقَّق، وأن شيئًا غير طبيعي يُوشِك أن يحلَّ بالجميع، وفي الوقت نفسه كأن السيد المسيح أراد أن يتركَ سلوة عزاء، ودفقة إيمان من نفسه للجماعات الذين يحيطون به في موقف تضحية، ففي يوم العيد الذي يسمى‏ “‏عيد الفطير‏”‏ طلب السيد المسيح من تلاميذه أن يذهبوا ليخبروا واحدًا من المؤمنين بأن المعلِّم يرغب في قضاء العيد عنده؛ كي يكون في هذا اللقاء فرصةٌ من أمان يلتقي فيها مع تلاميذه ومريديه، ومن عجب أن قوى الخطيئة التي تتابع السيد المسيح بالمرصاد، كان أمرها قد شاع في أنها تريد التخلص من السيد المسيح، وحول تقرير مثل هذا المعنى الذي يُلقِي أضواءً على هذا الموقف، يقول إنجيل ‏”‏متى‏” ‏في الإصحاح السادس والعشرين‏”‏‏: ‏”‏‏.‏‏.‏‏. ‏وفي أول أيام الفطير، تقدَّم التلاميذ إلى يسوع، قائلين له‏: ‏أين تريد أن نعدَّ لك لتأكل الفصح؟ فقال: اذهبوا إلى المدينة إلى فلان، وقولوا له‏: المعلِّم يقول: إن وقتي قريب، عندك أصنع الفصح مع تلاميذي، ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدُّوا الفصح‏”.‏

وهنا في هذا اللقاء تتضح جوانب المعجزة، وتؤدي دورها العظيم في كشف خيوط المؤامرة التي تُحَاك ضد السيد المسيح، وفي هذا الدور الذي تؤدِّيه المعجزة، تتوعد جميع أطراف المؤامرة وتطلب من جماعات المؤمنين بالمعلِّم أن يظلوا على إيمانهم، ويرتبطوا به، وأن يعملوا ما أمكنهم العمل والبذل والتضحية في سبيل إيمانهم، فيقول ‏”‏متى‏”‏‏: “‏‏.‏‏.‏‏.‏ لما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر، وفيما يأكلون قال: الحق أقول لكم، إن واحدًا منكم يسلمني، فحزنوا جدًّا، وابتدأ كل واحد منهم يقول له: هل أنا هو يا رب، فأجاب، وقال: الذي يغمس يده معي في الصَّحْفة هو يسلمني، إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يُولَد، فأجاب يهوذا مسلمه، وقال: هل أنا هو يا سيدي؟ قال له: أنت قلت‏.‏‏.‏‏”.‏

وبهذا، فإن السيد المسيح – ‏عليه السلام – كان على علمٍ تامٍّ بكل صنيع المؤامرة والخداع ضده، وبالمعتقد الإنجيلي، فإنه يبدو أن دَور المعلم كان قد استنفذ المرحلة التي كانت تطلب هذا الدور، ولا تتحمل غيره، وبالشكل الذي تعبر الآيات الإنجيلية عنه فإنه يبدو أيضًا أن خطر المطاردة لم يجعلْ من المتيسِّر أن يفكر التلاميذ في مقاومة قوى التآمر، خاصة وبعد أن كشف السيد المسيح – ‏عليه السلام – عن بداية خيوط المؤامرة، حين قال لهم‏: ‏”‏الذي يغمس يده في الصَّحْفة هو يسلمني‏”‏، ولقد كان الحال النفسي الذي عليه السيد المسيح – كما تُصوِّره الأناجيل حين أفصحت صراحة أن بداية النهاية بهذا الشكل الآثم الذي تتكالب عليه قوى الخطيئة – من جماعات اليهود لا يُرضِيه، بل يغضبه ويؤذيه، فقال ‏”‏متى‏”‏ في الإصحاح السادس والعشرين عن الموقف الذي سبق بداية النهاية المؤلمة:‏ “‏‏‏‏.‏‏.‏‏.‏ نفسي حزينة جدًّا حتى الموت، امكثوا هنا، واسهروا معي، ثم تقدَّم قليلاً وخرَّ على وجهه، وكان يصلي قائلاً‏:‏ يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس‏”.‏

وأمام هذا المطلب الرهيب من داخل هذا الموقف العميق، والتعنيف الذي أدرك فيه المعلم أنه محاصر ممَّن يودون قتله والتخلص منه، فإنه يعبر عن الجانب البشرى والنفسي، ولكن عوامل الإعجاز في المعلم العظيم على ضوء الوحدة الموضوعية لآيات الأناجيل، تقول على الفور وتفصح‏: “‏‏.‏‏.‏‏.‏ إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت‏”‏‏.‏

ومع كل ذلك أقام مواجهًا الخطر، فإن السيد المسيح هو الذي قال بالأمر الواضح منفذًا للمشيئة: “‏هو ذا الذي يسلمني قد اقترب‏”؛ ‏‏[‏التاريخ اليهودي العام، ص 341 – 344، بتصرف‏].‏

المطاردات اليهودية ضد السيد المسيح – عليه السلام -‏:

ولهذه الحرب الكافرة ضد المسيح – على حد رواية الميراث الديني الذي بين أيدي قارئ الأناجيل وأيدي المؤمنين – أعدُّوا عُدَّتهم، وعبؤوا أنفسَهم في معركة كانت – من جانبهم – دنسة وملوثة بسلوك الوشاية والوقيعة، وأعمال التجسس والقتل، وكان ذلك حين استطاعوا أن ينفذوا إلى صفوف أتباع السيد المسيح، ويرتبطوا في وقيعة وتجسس بواحد من الأتباع الذين أتيح لهم أن يُلازِموا السيد المسيح، وأن يتعرَّفوا أخباره عن قرب، ولقد جعلوا من أنفسهم – ومن صنيع مؤامراتهم ضد صاحب الدعوة – كل مسببات الإغراء والاندفاع الأحمق والأهوج في أن يتخلَّى واحد من غير المؤمنين الصادقين عن سيده ومعلمه إلى الحد الذي بلغ فيه تأثيرهم عليه – كما تعبِّر الأناجيل – أنه كان يسعى بنفسه لمقابلته القوى المتآمرة؛ كي يَعرِض عليهم نفسَه وخدماته في أن يكون أداة لهم بالإمساك بالسيد المسيح والإيقاع به، حتى يتم القضاء عليه‏؛‏ [‏انظر في هذا: الكنز الجليل في تفسير الأناجيل، تأليف الدكتور: وليم أدي الأمريكي، الطبعة الأولى، عام 1888م، بتصرف].‏

ولقد كان الحس المتبلد بالطبع، والسجية عند جماعات اليهود – والذين كان ‏”‏يهوذا الإسخريوطي‏”‏ واحدًا منهم – قويًّا للغاية، فالرجل لم تصلْ إلى قلبه أعماقُ آيات المعلم، ولم تنفعل به مشاعره حتى يظل بإيمانه أمام الضغوط وأساليب الإغراء، كباقي الذين تحملوا عبء الإيمان والالتزام به، حتى عندما قاومهم السلطان والطواغيت من جماعات اليهود، وحملوا على الأخشاب ونشروا بالمناشير، فذهب بنفسه إلى الذين يطلبون السيد المسيح ليريقوا دمه‏‏‏‏!

‏ذهب واحد من الاثني عشر الذي يُدْعَى ‏”‏يهوذا الإسخريوطي‏”‏ إلى رؤساء الكهنة، وقال: ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم؟ فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه‏”؛ ‏‏[‏الإنجيل متى، إصحاح 26‏ (‏14 – 16‏)‏‏].‏

وهكذا من قديم الزمان‏، ‏فإن الخُلق اليهودي وأسلوب التعامل اليهودي يستغل في الفرد الإنسان جوانب من شخصيته، قد تكون غير سوية، هزيلة أو مريضة أو مترددة، ويضغط عليها بما يشتهي، حتى ولو كان صاحب مبادئ، فبالمطاردة والإلحاح قد يأتي صنيعتُهم مِن بين مَن كانوا ممن يتصور عنهم أنهم من أصحاب المبادئ، كما أمكن لهم صنع واحد من التلاميذ الذين كانوا حول المعلم العظيم‏؛‏ [‏التاريخ اليهودي العام، ص 340 – 341‏].‏

اليهود يقبضون على السيد المسيح – عليه السلام -‏:

وفي البداية أقول‏: يمكن قبول مثل هذا القول – وكذا سائر الروايات الإنجيلية في هذا الصدد – على أن الذي قُبض عليه هو المسيح، والذي صلب هو المسيح، باعتبار أن الله -تعالى- ألقى شبه المسيح على غيرِه، الذي هو ‏”‏يهوذا الإسخريوطي الخائن‏”‏ – كما صرَّح به إنجيل برنابا – فهم إذ قبضوا على الشبيه ظنوه المسيح، فالروايات باعتبار اعتقادهم أنه المسيح؛ ولذلك ساروا على هذا المنوال فيما أوردوه مما وقع بعد ذلك من حوارات، كلها تؤكد أن الذي يحدثهم ليس هو المسيح، ولكنه الشبيه، كما سنذكره بعد – إن شاء الله‏.‏

فعلى أية حال‏،‏ نحن نورد الكلام – حسب معتقد القوم – فنقول‏: ‏”‏مما توضِّحه الأناجيل عن نوع العَلاقة التي كانت بين مجموعات الوشاة والخدم والعبيد، الذين يعملون في خدمة سلطات الوالي الروماني في عصر السيد المسيح، فإن من بين أولئك الذين كانوا في نفس الوقت الذي يعملون فيه خدمًا ووشاة وعبيدًا للرومان، كان الكثير منهم القائم بأمر الأخلاق والدين بين جماهير الشعب اليهودي له سطوة وسيطرة وسيادة، ولما كان هؤلاء الوشاة أصحاب السيادة والسيطرة والامتياز على جمهور الشعب اليهودي، فقد قَوِيت العَلاقة فيما بينهم جميعًا، متكاتفين متعاونين من أجل السيطرة على كل حال الشعب اليهودي ودوام استمرارها، ومن أجل التخلص من خطر الدعوة الجديدة التي لم تتعرَّض للدولة الرومانية بهدمٍ أو بناء، ولكنها كانت تبنِي مجتمعًا جديدًا على أساس من عَلاقات الأمن والحب والدعوة إلى شريعة الضمير‏.‏

وكان هذا المنهج الأخلاقي العف المسالم يشكِّل الخطر المحقَّق على دولة الرياء والنفاق، المسيطرة على جماعات اليهود المرائين المنافقين، الذين يحبون المتكآت الأولى، والمجالس الأولى، والمحافل الأولى‏.‏

وكانت هذه العَلاقة قبيل القبض على السيد المسيح قد بلغتْ ذروة التلاقي والتعاون، إلى الحال الذي أصبح أنه لم يكن يرفض من طلب أو رجاء للجماعات اليهودية التي تعمل في خدمة الوجود الروماني، والممثِّلة للسيادة والاستغلال والسيطرة على جماهير الشعب اليهودي، ويعبر عن نوع هذه العلاقة مثلاً ‏”‏الحوار‏”‏ الذي تم بين الوالي الروماني‏ “‏بيلاطس‏”،‏ وبين القوة الثائرة الساخطة حين كانت العادة أن يطلق لهم الوالي بمناسبة عيدهم كل عام مذنبًا أو مخطئًا، ولما كان السيد المسيح قد قُبِض عليه استجابةً لإلحاح وثورة القوة الممثلة للسيطرة اليهودية، ولما كان هذا القبض قد تم بمساعدة جند الرومان وسيادة الدولة، فقد كان الوالي يعلم تمامًا أن عملية القبض على السيد المسيح كانت لغير ما اتهامٍ أو جريمة، فإنه – على حدِّ رواية الأناجيل – بعد أن أرسلت إليه امرأته قائلة‏: “إياك وذلك البار‏”،‏ كان يؤثر أن يطلق سراحه عقب القبض عليه، وخاصة في مناسبة العيد استجابةً للمطلب التقليدي في أن يطلق لهم كل عام مذنبًا، ولكن تصور ‏”بيلاطس‏”‏ – على حد رواية‏ “‏متى‏”‏ – أن الجماهير اليهودية لم تكن قد استجابت لثورة كهَّانها والمسيطرين عليها، فكان يرغب في أن يكون مطلب الجماهير إطلاق سراح‏ “‏السيد المسيح‏”،‏ ولكنه أمام المطلب اليهودي في ألا يطلق سراح السيد المسيح لم يكن عليه إلا أن يستجيب‏‏‏!‏

وكانت عملية القبض على ‏”‏السيد المسيح‏”‏‏ قد تمَّت بطريقة تتنافى وقداسة السيد المعلم؛ مما يكشف عن نهاية هذه المقدِّمة التي بها تم القبض عليه، وهي أنهم لم يكن مطلبهم إطلاق سراحه، بل المطالبة بإعدامه، فقد سِيق في عنف وقسوة، كأنه مخرِّب أو مخطئ أو مسيء، ولقد استاء – عليه السلام – من أسلوب القبض عليه إلى الحد الذي يقول فيه ‏”‏متى‏”‏ – فيما يرويه عن السيد المسيح أنه قال‏ -: ‏‏”‏‏.‏‏. ‏في تلك الساعة قال يسوع للجموع: كأنه على لصٍّ خرجتم بسيوف وعصّي لتأخذوني‏”؛‏ ‏[‏التاريخ اليهودي العام، ص 344 – 346، بتصرف‏].‏

‏”‏وعقب عملية القبض التي تصورها الأناجيل، يقول‏ “‏متى‏”‏: إنه ‏”‏‏.‏‏.‏‏. ‏فيما هو يتكلم إذا يهوذا واحد من الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصّي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبِّله هو هو، أمسكوه، فللوقت تقدَّم إلى يسوع وقال‏: السلام يا سيدي وقبَّله، فقال له يسوع‏: يا صاحب، لماذا جئت؟ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه‏”؛‏ ‏[‏إنجيل متى، إصحاح 26 ‏(‏47 – 51‏)‏‏]‏.

وهنا – على حدِّ هذه الرواية الإنجيلية – يتعرَّض السيد المسيح لموقفٍ في غاية الخطورة ومنتهى الدقة في كل تصرف أو بادرة منه؛ ذلك أن الذين أمسكوه قد مضوا به إلى بيت رئيس الكهنة المدعو ‏”‏قيافا‏”؛‏ حيث كان القوم جميعًا من الكتبة، والشيوخ، وغيرهم من رؤساء الشعب اليهودي وقوَّاده، الذين كانوا قد ألَّبوا عقب القبض عليه كل جمهور الشعب اليهودي بمختلف فئاته وطوائفه، إلى الحد الذي أمكن فيه الحصول بيسر على مَن يتقدم بشهادة زور للمحاكمة الغاشمة، التي عقدت للسيد المسيح في حوار عنيد وقائم على التحدي والسخرية‏.‏

ولقد جاء – على حد رواية الأناجيل – شاهدَا زورٍ، وقالا‏: هذا قال‏: إني أقدر على أن أنقض هيكل الله، وفي ثلاثة أيام أبنيه‏”‏‏؛ ‏‏[‏إنجيل متى، إصحاح 26‏ (‏61‏)‏‏]‏.

وأمام هذا السخف في جو موبوء ومسموم بالحقد والوشاية والدسائس، كان رئيس الكهنة يقول للسيد المسيح في سخرية شامتًا‏: ‏‏”هل أنت المسيح ابن الله‏”‏‏!‏ ولا يُجِيبه السيد المسيح بغير قوله‏: “‏أنت قلت‏”، ‏وحين قال السيد المسيح للجمع المنافق المتآمر، في لقاء محاكمة غير ذات موضوع، عقب القبض عليه مباشرة: ‏”‏أقول لكم من الآن: تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا على سحاب السماء‏”،‏ مزق رئيس الكهنة الحاقد ‏”‏قيافا‏”‏ ثياب السيد المسيح قائلاً‏: ‏قد جدَّف، ما حاجتنا بعدُ إلى شهادة شهود، ها قد سمعتم تجديفه.

(‏جدف) أو التجديف في العهد القديم، كانت عقوبته الإعدام رجمًا بالحجارة؛ لذلك كان التجديف بحسب قانون اليهود سببًا كافيًا للحكم بالإعدام، وتقليد تمزيق الثياب يدل على مدى خطورة هذا الاتهام؛ نظرًا لأن هذا العمل كان مفروضًا أنه محرَّم على رئيس الكهنة حتى في حالة إظهار الحزن الشديد على ميِّت؛ [التفسير الحديث للكتاب المقدس، ص 465، بتصرف، ط/ دار الثقافة‏].

وقاموا – كما يقص إنجيل متى – في بهيمية الغوغاء والسوقة كي يبصقوا في وجهه، ويلكموه ويلطموه، قائلين‏: ‏‏”‏تنبأ لنا أيها المسيح مَن ضربك‏‏؟‏‏”؛‏ ‏[‏إنجيل متى، إصحاح 26 ‏(‏64‏)‏‏]؛ ا‏هـ، ‏[‏التاريخ اليهودي العام، ص 346 – 347].‏

أقول‏: وما كان هذا أحدًا سوى الخائن الذي أُلقِي عليه شبه المسيح، يلقى بعض جزاء خيانته في الدنيا، من بصق، ولكم، ولطم، وعنف، وقسوة، وسخرية، ولأن مَن حفر لأخيه حفرةً وقع فيها، فكيف لو كان معلِّمَه ونبيَّه؟‏‏!‏

فها هو الخائن يتلقى كل ما كان ينتظر المسيح لو قُبِض عليه، وكان هو سببًا فيه، ‏وكأني بقوله – إن صح هذا -‏: “‏أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا على سحاب السماء‏”،‏ إنما هو من باب الندم، والاعتراف بفضل سيده المسيح الذي نجا، ورفع إلى السماء، ومصداق هذا ما جاء في إنجيل برنابا بالإصحاح 15‏ (‏112، 113‏)‏‏”.

ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فإنه عند تقبيلِ الخائن للمسيح ألقى الله على الخائن شبه عيسى وملامحه تمامًا، فأصبح الدليل هو المدلول عليه، وأصبح الذي قَبَّل يحمل جميع ملامح الذي قبِّل، وتقدم جند الرومان فقبضوا على الخائن وأرتج عليه، أو أسكته الله فلم يتكلَّم حتى نفذ فيه حكم الصلب‏”‏‏؛ [‏انظر تفسير البيضاوي، ج1، ص 64، 104، بتصرف‏].‏

وبهذا نجَّى الله السيد المسيح، الذي انسل مِن بين المجتمعين، فلم يُحسَّ به أحد، وكان الأمر كما قال الله – تعالى -‏: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 158].

أما أين ذهب عيسى – عليه السلام – بعد النجاة من المؤامرة، فذلك مبحثٌ يطول شرحه حول ما إذا كان عيسى – عليه السلام – رفع إلى السماء حيًّا بجسمه وروحه‏؟‏ أو هل استوفَى أجله على الأرض وهو مختفٍ، ثم مات ودفن جسمه، ورفعت روحه إلى بارئها‏؟‏ وهذا ليس من صلب بحثنا، والله الموفِّق‏.‏

المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى