أديان وفرق ومذاهبالشيعةشبهات حول الصحابةشبهات وردود

الرد على من يطعن في أبي بكر الصديق

الحمد لله تعالى ناصر أوليائه الصادقين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وأصحابه الغرِّ الميامين، وأزواجه أمهات المؤمنين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فإن بعض الناس قد طعنوا في شخصية الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأصبح من الواجب علينا الردُّ على هذه الطعون، فأقول وبالله تعالى التوفيق والسَّداد:

فضائل أبي بكر الصديق:

سوف نذكر بعض فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

  1.  روى الشيخان عن أنس، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: “قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما))؛ (البخاري 3653، مسلم حديث: 2381).
  2.  روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مِن أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكرٍ، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر))؛ (البخاري حديث3654).
  3.  روى الشيخان، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: “أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة))، فقلت: من الرجال؟ فقال: ((أبوها))، قلت: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب))، فعد رجالًا”؛ (البخاري حديث: 3662، مسلم حديث: 2384).
  4.  روى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان  روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: “كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين))؛ (حديث صحيح)، (صحيح الترمذي، للألباني حديث2897).
  5.  روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: “أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت عتيق الله من النار فيومئذ سمي: عتيقًا”؛ (حديث صحيح)، (صحيح للألباني حديث 2905).
  6. روى الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: “أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت اليوم أسبِق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟))، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: ((يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟)) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا؛ (حديث حسن)، (صحيح الترمذي للألباني حديث 2902).
  7.  روى الترمذي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نفعني مال أحد قط، ما نفعني مال أبي بكر))؛ (حديث صحيح)، (صحيح الترمذي، للألباني حديث 2894).
  8.  كان أبو بكر رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال، ثم أخذ يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد كبير، منهم خمسة مِن العشرة المبشرين بالجنة وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيدالله؛ (سيرة ابن هشام جـ1 صـ212).

طعون وشبهات حول أبي بكر الصديق والرد عليها:

سوف نذكر بعض الشبهات والطعون، التي ذكرها بعض الناس في شخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ونذكر رد العلماء عليها:

الشبهة الأولى:

قال الطاعنون: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، مرةً بعد أخرى، مكررًا لذلك: ((أنفِذوا جيش أسامة، لعن الله المتخلِّف عن جيش أسامة، وكان الثلاثة معه، ومنع أبو بكر وعمر من ذلك))”.

الرد على هذه الشبهة من عدة وجوه:

أولًا: نطالب الطاعنين أن يأتوا بدليل على صحة هذا النقل؛ فإن هذا لا يُروى بإسناد معروف، ولا صححه أحدٌ من علماء النقل، ومعلوم أن الاحتجاج بالمنقولات لا يسوغ إلا بعد قيام الحجة بثبوتها، وإلا فيمكن أن يقول كل أحد ما شاء.

ثانيًا: هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل مَن يعرف السيرة، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة، وإنما روي ذلك في عمر، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة، وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه، اثني عشر يومًا، ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر؛ فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة، وهو يأمره بالصلاة بالناس؟!

ثالثًا: جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش أسامة قبل أن يمرض، وجعله أميرًا على جيش عامتهم المهاجرون، منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف، وأمره أن يغير على أهل مؤتة، وعلى جانب فلسطين، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فلما جلس أبو بكر رضي الله عنه للخلافة أرسل أبو بكر أسامة أميرًا على ذلك الجيش، غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة؛ لأنه ذو رأي ناصح للإسلام، فأذن له، وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب في ذلك العدو مصيبةً عظيمةً، وغنم هو وأصحابه، وقتل قاتل أبيه، وردهم الله سالمين إلى المدينة؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ5 صـ488:485).

الشبهة الثانية:

قال الطاعنون: “منع أبو بكر فاطمة إرثها في خيبر وفدك، فقالت له: يا ابن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي؟ والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة))، والقرآن يخالف ذلك؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأمة دونه صلى الله عليه وسلم، وكذب روايتهم فقال تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [النمل: 16]، وقال تعالى عن زكريا: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 5].

الرد على هذه الشبهة من عدة وجوه:

أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة رضي الله عنها: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يعلم صحته عنها، وإن صح فليس فيه حجة؛ لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أولى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها، ولا هو ممن حرم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضًا ممن جعل الله محبته مقدمةً على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك.

والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهةً لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا، وخلفوها لورثتهم، وأما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشِّعر صيانةً لنبوته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.

الثاني: قولهم: “القرآن يخالف ذلك؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأمة دونه صلى الله عليه وسلم.

فنقول: هذا في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث.

روى الشيخان عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقسم لها ميراثها، مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث، ما تركنا صدقة))، فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركًا شيئًا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ؛ (البخاري حديث: 3092 و3093).

الثالث: أن قوله تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾ [النمل: 16]، وقوله تعالى عن زكريا: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ﴾ [مريم: 5، 6].

المراد بهذا الإرث في هذه الآيات هو إرث العلم والنبوة، ونحو ذلك لا إرث المال.

وذلك لأنه قال: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [النمل: 16]، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان، فلا يختص سليمان بماله؛ (منهاج السنة لابن تيمية جـ4 صـ225:193).

روى الترمذي، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر))؛ (حديث صحيح)، (صحيح الترمذي، للألباني حديث: 2159).

الشبهة الثالثة:

قال الطاعنون: “قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق أبي ذر: ((ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر))، ولم يسموه صديقًا، وسموا أبا بكر بذلك مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه”.

الرد على هذه الشبهة:

أولًا: هذا الحديث لم يرد به النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق، فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سائر النبيين، ومن علي بن أبي طالب، وهذا خلاف إجماع المسلمين كلهم من السنة والشيعة، فعلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق، ليس غيره أكثر تحريًا للصدق منه، ولا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحري الصدق، أن يكونَ بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق، وفي عظم الحق الذي صدق فيه وصدق به، وذلك أنه يقال: فلان صادق اللهجة إذا تحرى الصدق، وإن كان قليل العلم بما جاءت به الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: ما أقلت الغبراء أعظم تصديقًا من أبي ذر؛ بل قال: ((أصدق لهجةً)).

ثانيًا: أبو ذر لم يعلم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما علمه أبو بكر رضي الله عنه، ولا حصل له من التصديق المفصل كما حصل لأبي بكر، ولا حصل عنده من كمال التصديق معرفةً وحالًا كما حصل لأبي بكر؛ فإن أبا بكر أعرف منه، وأعظم حبًّا لله ورسوله منه، وأعظم نصرًا لله ورسوله منه، وأعظم جهادًا بنفسه وماله منه، إلى غير ذلك من الصفات التي هي كمال الصدِّيقية.

ثالثًا: لقب الصديق ثابت في حق أبي بكر؛ (منهاج السنة، لابن تيمية جـ4 صـ267:264).

روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اثبت أُحُد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان))؛ (البخاري حديث: 3675).

الشبهة الرابعة:

قال الطاعنون: “سموا أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلفه في حياته، ولا بعد وفاته عندهم، ولم يسموا أمير المؤمنين خليفة رسول الله مع أنه استخلفه في عدة مواطن، منها: أنه استخلفه على المدينة في غزوة تبوك”.

الرد على هذه الشبهة من وجهين:

الأول: الخليفة، إما أن يكون معناه: الذي يخلف غيره، وإن كان لم يستخلفه، كما هو المعروف في اللغة، وإما أن يكون معناه: من استخلفه غيره؛ فإن كان هو الأول؛ فأبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خلفه بعد موته، ولم يخلف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحد بعد موته إلا أبو بكر، فكان هو الخليفة دون غيره ضرورةً؛ فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي صار ولي الأمر بعده، وصار خليفةً له يصلي بالمسلمين، ويقيم فيهم الحدود، ويقسم بينهم الفيء، ويغزو بهم العدو، ويولي عليهم العمال والأمراء، وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاةُ الأمور؛ فهذه باتفاق الناس إنما باشرها بعد موته أبو بكر، فكان هو الخليفة للرسول صلى الله عليه وسلم فيها قطعًا.

وأما إن قيل: إن الخليفة من استخلفه غيره؛ كما قاله بعض أهل السنة وبعض الشيعة، فمن قال هذا من أهل السنة فإنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر رضي الله عنه؛ إما بالنص الجلي، كما قاله بعضهم، وإما بالنص الخفي كما أن الشيعة القائلين بالنص على عليٍّ؛ منهم مَن يقول بالنص الجلي، ومنهم من يقول بالنص الخفي، وعلى هذا التقدير: فلم يستخلف بعد موته أحدًا إلا أبا بكر، فلهذا كان هو الخليفة؛ فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته، أو استخلفه بعد موته، وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر؛ فلهذا كان هو الخليفة.

ثانيًا: أما استخلافه لعليٍّ على المدينة، فذلك ليس من خصائصه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلًا من أصحابه؛ كما استخلف ابن أم مكتوم تارةً، وعثمان بن عفان تارةً، واستخلف ابن أم مكتوم في غزوة بدر وغيرها، وعثمان في غزوة ذات الرقاع وغطفان التي يقال لها: غزوة أنمار، واستخلف في بدر الوعيد بن رواحة، وزيد بن حارثة في المُريسيع، واستخلف أبا لبابة في غزوة بني قينقاع، وغزوة السويق، وفي غزوة الأبواء سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ في غزوة بواط، وفي غزوة العشيرة أبا سلمة؛ (منهاج السنة، لابن تيمية جـ4 صـ272:268).

الشبهة الخامسة:

قال الطاعنون: “قال أبو بكر عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل للأنصار في هذا الأمر حقٌّ؟ وهذا يدل على أنه في شكٍّ من إمامته، ولم تقع صوابًا”.

الرد على هذه الشبهة:

هذا كذب على أبي بكر رضي الله عنه، وهو القول ليس له إسناد، ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل، فلا بد أن يذكر إسنادًا تقوم به الحجة، فكيف بمن يطعن في السابقين الأولين بمجرد حكاية لا إسناد لها؟! (منهاج السنة، لابن تيمية جـ4 صـ481).

الشبهة السادسة:

قال الطاعنون من الشيعة: “قال أبو بكر عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنةً في لبنة، مع أنهم قد نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار)).

الرد على هذه الشبهة من عدة وجوه:

أولًا: قول أبي بكر رضي الله عنه هذا عند احتضاره يحتاج إلى دليل صحيح، والثابت عنه أنه لمَّا احتضر، وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ♦♦♦ إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدرُ

فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19].

ثانيًا: نقل عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه قال في صحته: ليت أمي لم تلدني! ونحو هذا قاله خوفًا إن صح النقل عنه، ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة السلف الصالح أنهم قالوه خوفًا وهيبةً من أهوال يوم القيامة؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ4 صـ483:481).

الشبهة السابعة:

قال الطاعنون: “قال أبو بكر: ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير، وكنت الوزير”، وهذا يدل على أنه لم يكن صالحًا يرتضي لنفسه الإمامة.

الرد على هذه الشبهة:

إن كان أبو بكر رضي الله عنه قال هذا فهو دليلٌ على أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن هو الإمام، وذلك أن قائل هذا إنما يقوله خوفًا من الله أن يضيع حق الولاية، وأنه إذا ولى غيره، وكان وزيرًا له، كان أبرأ لذمته، فلو كان عليٌّ هو الإمام لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعةً للإمامة أيضًا، وكان يكون وزيرًا لظالم غيره، وكان قد باع آخرته بدنيا غيره، وهذا لا يفعله من يخاف الله، ويطلب براءة ذمته، وهذا كما لو كان الميت قد وصَّى بديون، فاعتقد الوارث أن المستحق لها شخص، فأرسلها إليه مع رسوله، ثم قال: يا ليتني أرسلتها مع من هو أدين منه، خوفًا أن يكون الرسول الأول مقصرًا في الوفاء، تفريطًا أو خيانةً، وهناك شخص حاضر يدعي أنه المستحق للدين دون ذلك الغائب، فلو علم الوارث أنه المستحق؛ لكان يعطيه، ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ4 صـ485:484).

الشبهة الثامنة:

قال الطاعنون: “لم يول النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ألبتة عملًا في وقته، بل ولى عليه عمرو بن العاص تارةً وأسامة أخرى”.

الرد على هذه الشبهة:

أولًا: هذا من أبين الكذب؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر رضي الله عنه على الحج عام تسع، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله حج في الإسلام، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة، فإن مكة فتحت سنة ثمان، أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد، الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، ثم أمر أبا بكر سنة تسع للحج، بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وفيها أمر أبا بكر بالمناداة في الموسم: ((ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان))، ولم يؤمِّر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية، فولاية أبي بكر كانت من خصائصه.

ثانيًا: أما قصة عمرو بن العاص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عمرًا في سرية، وهي غزوة ذات السلاسل، وكانت إلى بني عذرة، وهم أخوال عمرو، فأمَّر عمرًا ليكون ذلك سببًا لإسلامهم، للقرابة التي له منهم، ثم أردفه بأبي عبيدة، ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين، وقال: ((تطاوعا ولا تختلفا))، فلما لحق عمرًا قال: أصلي بأصحابي وتصلي بأصحابك، قال: بل أنا أصلي بكم، فإنما أنت مدد لي؛ فقال له أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك، فإن عصيتني أطعتك، قال: فإني أعصيك، فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك، فأشار عليه أبو بكر ألا يفعل، ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر، فكانوا يصلون خلف عمرو، مع علم كل أحد أن أبا بكر وعُمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو، وكان ذلك لفضلهم وصلاحهم؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ4 صـ493:489).

ثالثًا: إن عدم ولاية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يدل على نقصه، بل قد يترك النبي صلى الله عليه وسلم ولايته؛ لأنه عنده أنفع له منه في تلك الولاية، وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية، فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له، يقول كثيرًا: ((دخلت أنا وأبو بكر وعمر))، و((خرجت أنا وأبو بكر وعمر))، وكان أبو بكر يسمر عنده عامة ليله، وعمر لم يكن يولي أهل الشورى؛ كعثمان، وطلحة، والزبير، وغيرهم، وهم عنده أفضل ممن ولاه مثل: عمرو بن العاص، ومعاوية، وغيرهما؛ لأن انتفاعه بهؤلاء في حضوره أكمل من انتفاعه بواحد منهم في ولاية يكفي فيها مَن دونهم؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ295:294).

الشبهة التاسعة:

قال الطاعنون: “أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر لأداء سورة براءة، ثم أرسل عليَّ بنَ أبي طالب خلفه، وأمره برد أبي بكر إلى المدينة، وأن يتولى هو ذلك، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها، فكيف يصلح للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة؟!”.

الرد من وجوه:

الأول: هذا كذب باتفاق أهل العلم، وبالتواتر العام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر رضي الله عنه على الحج سنة تسع، لم يرده ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام، وعلي رضي الله عنه من جملة رعيته، يصلي خلفه، ويدفع بدفعه، ويأتمر بأمره كسائر من معه، وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم: لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال: إنه أمره برده؟! ولكن أردفه بعليٍّ لينبذ إلى المشركين عهدهم؛ لأن عادتهم كانت جاريةً ألا يعقد العقود، ولا يحلها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد.

روى البخاري عن حميد بن عبدالرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنًى: ((ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان))، قال حميد بن عبد الرحمن: “ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعليِّ بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة”، قال أبو هريرة: فأذن معنا عليٌّ يوم النحر في أهل منًى ببراءة، «وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان»؛ (البخاري حديث: 4655).

قال الإمام أبو محمد بن حزم: “ما حصل في حجة الصديق كان من أعظم فضائله؛ لأنه هو الذي خطب بالناس في ذلك الموسم والجمع العظيم، والناس منصتون لخطبته، يصلون خلفه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من جملتهم، وفي السورة فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكر الغار، فقرأها عليٌّ على الناس، فهذا مبالغة في فضل أبي بكر، وحجة قاطعة”.

ثانيًا: تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هذا كان بعد قوله: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟))، ولا ريب أن شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه، يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة، ويجيئون إلى ما وقع فيقبلونه، ويزيدون فيه وينقصون.

ثالثًا: قولهم: “الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة”.

هذا قول باطل؛ فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها، لا تحتاج فيها إلى الإمام، إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء، وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومةً، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها، إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة، وإذا خفي عنه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك، كما «سألهم عن ميراث الجدة، فأخبره من أخبره منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس»؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ298:295).

الشبهة العاشرة:

قال الطاعنون: “قطع أبو بكر يسار سارق، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى”.

الرد على هذه الشبهة:

قولهم: إن أبا بكر يجهل هذا مِن أظهر الكذب، ولو قدر أن أبا بكر رضي الله عنه كان يجيز ذلك، لكان ذلك قولًا سائغًا؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعين اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: “فاقطعوا أيمانهما“، وبذلك مضت السنة؛ ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى؟ وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف في ذلك قولًا، مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ4 ص494 – 495).

الشبهة الحادية عشرة:

قال الطاعنون: “أحرق أبو بكر الفجاءة السلمي بالنار، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار”.

الرد على هذه الشبهة:

الإحراق بالنار عن علي بن أبي طالب أشهر وأظهر منه عن أبي بكر.

روى البخاري عن عكرمة قال: أتي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذبوا بعذاب الله))، ولقتلتُهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه))؛ (البخاري حديث 6922).

فعليٌّ حرق جماعةً بالنار، فإن كان ما فعله أبو بكر منكرًا، ففِعْل عليٍّ أنكر منه، وإن كان فعل عليٍّ مما لا ينكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أولى ألا ينكر عليه؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ4 صـ496:495).

الشبهة الثانية عشرة:

قال الطاعنون: “خفي على أبي بكر أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان”.

الرد على هذه الشبهة:

أولًا: قولهم: وخفي على أبي بكر أكثر أحكام الشريعة:

هذا من أعظم البهتان، كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة، ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويفتي إلا هو؟! ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورةً لأحد من أصحابه منه له ولعمر، ولم يكن أحد أعظم اختصاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر، وقد ذكر غير واحد؛ مثل: منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره – إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة، وهذا بيِّن، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة، كما بين لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتهم على الإيمان، وقراءته عليهم الآية، ثم بين لهم موضع دفنه، وبين لهم قتال مانعي الزكاة لما شك فيه عمر بن الخطاب، وبين لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة، لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش.

وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم المناسك أدق ما في العبادات، ولولا سَعةُ علمه بها لم يستعمله، وكذلك الصلاة استخلفه فيها، ولولا علمه بها لم يستخلفه، ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة، وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر، وهو أصح ما روي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء، وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر رضي الله عنه مسألة من الشريعة غلط فيها.

ثانيا: أما قولهم: “لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه”.

فهذا من أعظم علمه؛ فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده، فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر رضي الله عنه، وهو من لا ولد له ولا والد، والقول بالرأي معروف عن سائر الصحابة، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل؛ لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران؛ كرأي الصديق، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ4 صـ502:496).

ثالثًا: أفتى أبو بكر الصديق في الكلالة برأيه؛ لأنه أمرٌ ناب المسلمين، واحتاجوا إليه في مواريثهم، وقد أبيح له اجتهاد الرأي فيما لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، ولم يأت له في الكتاب شيء كاشف، وهو إمام المسلمين ومفزعهم فيما ينوبهم، فلم يجد بدًّا من أن يقول؛ (تأويل مختلف الحديث؛ لابن قتيبة الدينوري صـ34).

الشبهة الثالثة عشرة:

قال الطاعنون: “قضى أبو بكر في الجد بسبعين قضيةً؛ أي: رأي، وهو يدل على قصوره في العلم”.

الرد على هذه الشبهة:

هذا كذب، وليس هو قول أبي بكر رضي الله عنه، ولا نقل هذا عن أبي بكر؛ بل نقل هذا عن أبي بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم، ولكن نقَل بعضُ الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضيةً؛ أي: رأي، ومع هذا هو باطل عن عمر؛ فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدًّا كل منهم كان لابن ابنه إخوة، وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولًا مختلفةً، بل هذا الاختلاف لا يحتمله كلُّ جد في العالم، فعلم أن هذا كذب، وأمَّا مذهب أبي بكر في الجد، فإنه جعله أبًا، وهو قول بضعة عشرة من الصحابة، وهو مذهب كثير من الفقهاء؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ4 صـ503:502).


الشبهة الرابعة عشرة:

قال الطاعنون: “أهمل أبو بكر حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حيث قتل مالك بن نويرة، وكان مسلمًا، وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها، وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل”.

الرد على هذه الشبهة:

أولًا: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي؛ فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة، وهو خليفة المسلمين، وقد قُتل مظلومًا شهيدًا بلا تأويل مسوغ لقتله، وعلي لم يقتل قتلته، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي؛ فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك؛ فعليٌّ أولى ألا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان، وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة، وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي؛ فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم، وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عبيدالله بن عمر بالهرمزان، هو من هذا الباب، وإذا قال القائل: علي كان معذورًا في ترك قتل قتلة عثمان؛ لأن شروط الاستيفاء لم توجد، إمَّا لعدم العلم بأعيان القتَلة، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة، ونحو ذلك.

قيل: فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة؛ لوجود الشبهة في ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات.

وإذا قالوا: عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد، وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان.

قيل: وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان، مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود، أقام عليهم حجةً، وسلموا لها: إما لظهور الحق معه، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، وعليٌّ لمَّا لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود، وجرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم، وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجَمَل وصِفِّين، فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ، ففي ذلك أولى؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ5 صـ516:514).

ثانيًا: غاية ما يقال في قصة مالك بن نويرة: إنه كان معصوم الدم، وإن خالدًا قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يا أسامة، أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) فأنكر عليه قتله، ولم يوجب عليه قودًا ولا ديةً ولا كفارةً؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ5 صـ518).

ثالثًا: قوله: إن عمر أشار بقتله.

فيقال: غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد، كان رأي أبي بكر رضي الله عنه فيها ألا يقتل خالدًا، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمرُ بأعلم من أبي بكر: لا عند السنة، ولا عند الشيعة، ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح، فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبًا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علمًا ودينًا؟ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ5 صـ519).

الشبهة الخامسة عشرة:

الشبهة الخامسة عشرة:

قال الطاعنون: “قول أبي بكر: “أقيلوني؛ أي: التمسوا لي العذر؛ فلستُ بخيركم”، ولو كان إمامًا لم يجز له طلب الإقالة”.

أولًا: ينبغي بيان صحة هذا القول، وإلا فما كل منقول صحيحًا، والقدح بغير الصحيح لا يصح.

ثانيًا: إنْ صح هذا عن أبي بكر رضي الله عنه لم تجزْ معارضته بقول القائل: الإمام لا يجوز له طلب الإقالة؛ فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، فلِمَ لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك؟ بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع على نقيض ذلك ولا نص، فلا يجب الجزم بأنه باطل، وإن لم يكن قاله فلا يضر تحريم هذا القول.

ثالثًا: هذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها، وخوف الله ألا يقوم بحقوقها، وهذا يناقض ما يقوله الرافضة: إنه كان طالبًا للرياسة، راغبًا في الولاية؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ288).

الشبهة السادسة عشرة:

قال الطاعنون: “قول أبي بكر: إن لي شيطانًا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني، ومن شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يطلب منهم الكمال؟”.

الرد على هذه الشبهة من وجوه:

الأول: أن المأثور عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: “إن لي شيطانًا يعتريني؛ يعني عند الغضب؛ فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم”، وقال: “أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم”، وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يمدح به.

الثاني: الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب، فخاف عند الغضب أن يعتدي على أحد من الرعية؛ فأمرهم بمجانبته عند الغضب.

روى الشيخان عن أبي بكرة قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان))؛ (البخاري حديث: 7158، مسلم حديث: 1717).

وهذا هو الذي أراده أبو بكر، أراد ألا يحكم وقت الغضب، وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكمًا، أو يحملوه على حكم في هذا الحال، وهذا من طاعته لله ورسوله.

الثالث: أن يقال: الغضب يعتري بني آدم كلهم.

روى مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اللهم إني أتخذ عندك عهدًا لن تخلَفَينه، فإنما أنا بشر؛ فأي المؤمنين آذيته شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاةً وزكاةً، وقربةً تقربه بها إليك يوم القيامة))؛ (مسلم حديث: 2601).

وأيضًا فموسى رسول كريم، وقد أخبر الله عن غضبه بما ذكره في كتابه.

فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة، فكيف يقدح في الإمامة؟! مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه وحلمه، وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله؛ فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة، فكيف تنافيها شدة أبي بكر؟!

الرابع: قصد بذلك أبو بكر رضي الله عنه الاحتراز أن يؤذي أحدًا منهم.

الخامس: قال موسى لما قتل القبطي: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 15]، وقال فتى موسى: ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [الكهف: 63]، وذكر الله في قصة آدم وحواء: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36]، وقوله: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 20].

فإذا كان عَرَضُ الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء عليهم السلام، فكيف يقدح في إمامة الخلفاء؟!

سادسًا: قوله: “فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني”، فهذا من كمال عدله وتقواه، وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك، وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك، فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى، وإن زاغ وأخطأ بيَّنوا له الصواب ودلوه عليه.

سابعًا: قولهم: “من شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يطلب منهم التكميل؟”

الرد على ذلك من وجوه:

أولًا: معناه أنه يجب على الإمام والرعية أن يتعاونوا على البِر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج، والدين قد عرف بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به، ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات، فإن كان الحق فيها بينًا أمر به، وإن كان متبينًا للإمام دونهم بينه لهم، وكان عليهم أن يطيعوه، وإن كان مشتبهًا عليهم تشاوروا فيه حتى يتبين لهم، وإن تبين لأحد من الرعية دون الإمام بينه له، وإن اختلف الاجتهاد؛ فالإمام هو المتبَع في اجتهاده.

الثاني: كل من المخلوقين قد استكمل بالآخر؛ كالمتناظرين في العلم، والمتشاورين في الرأي، والمتعاونين المتشاركين في مصلحة دينهما ودنياهما.

الثالث: أنه ما زال المتعلمون ينبهون معلمهم على أشياء، ويستفيدها المعلم منهم، مع أن عامة ما عند المتعلم من الأصول تلقَّاها من معلمه، وكذلك في الصناع وغيرهم.

الرابع: موسى صلى الله عليه وسلم قد استفاد من الخضر ثلاث مسائل، وهو أفضل منه، وقد قال الهدهد لسليمان: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ [النمل: 22]، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه، وكان أحيانًا يرجع إليهم في الرأي؛ كما قال له الحباب يوم بدر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل: أهو منزل أنزلكه الله تعالى فليس لنا أن نتعدَّاه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فقال: ((بل هو الحرب والرأي والمكيدة))؛ فقال: ليس هذا بمنزل قتال، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي الحباب.

الخامس: أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عند الأمة إلا شرفًا وتعظيمًا، ولم تعظم الأمة أحدًا بعد نبيها كما عظَّمت الصديق، ولا أطاعت أحدًا كما أطاعته، من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة أخافهم بها، بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعًا، مقرِّين بفضيلته واستحقاقه، ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم، ومراجعتهم له، وهذا أمر لا يشركه فيه غيره؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8صـ276:273).

الشبهة السابعة عشرة:

قال الطاعنون: “قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40].

هذه الآية تدل على ضعف أبي بكر وقلة صبره، وعدم يقينه بالله، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: يموتا جميعًا، وبقضاء الله وقدره”.

الرد على هذه الشبهة:

هذا كله كذب ظاهر، ليس في الآية ما يدل على هذا، والرد من عدة وجوه:

أولًا: هذه الآية دليل على حزن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام، وكان أبو بكر يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارةً ووراءه تارةً، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: “أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك”.

وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الروافض أنه لم يرض بأن يموتا جميعًا؛ بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله.

وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))، وحزن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته، ونصحه له، واحتراسه عليه، ودفع الأذى عنه، وهذا من أعظم الإيمان؛ فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول أعظم من حزن الإنسان على ابنه؛ فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه.

ثانيًا: قولهم: “إنه يدل على قلة صبره” فباطل؛ بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به؛ فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك.

روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب؛ ولكن يعذب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يرحم))؛ (البخاري حديث: 1304/ مسلم حديث: 924).

ثالثًا: قولهم: “إنه يدل على عدم يقينه بالله”.

هذا كذب وافتراء، فإن الأنبياء قد حزنوا، ولم يكن ذلك دليلًا على عدم يقينهم بالله؛ كما ذكر الله عن يعقوب، روى مسلم، عن أنس بن مالك، قال: (عند موت ابنه إبراهيم) دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون))؛ (مسلم حديث: 2315).

رابعًا: قولهم: “يدل على الضعف وعدم الرضا بقضاء الله وقدره”، هو باطل؛ لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من أكثر الصحابة إيمانًا بقضاء الله وقدره، وكل من قرأ سيرته المباركة يعرف ذلك؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ462:456).

الشبهة الثامنة عشرة:

قال الطاعنون: “تقديم أبي بكر إمامًا في الصلاة كان خطأً؛ لأن بلالًا لمَّا أذن بالصلاة، أمرت عائشة أن يقدم أبا بكر فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع التكبير؛ فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: أخرجوني فخرج بين علي والعباس، فنحاه عن القبلة، وعزله عن الصلاة، وتولى الصلاة “.

الرد على هذه الشبهة:

الرد من وجهين:

أولًا: هذا من الكذب المعلوم عند جميع أهل العلم بالحديث، ويقال لهم: من ذكر ما نقلتم بإسناد يوثق به؟!

ثانيًا: هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصل بهم إلا صلاةً واحدةً، وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلي بهم حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه واستخلافه له في الصلاة، بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك وصلى بهم أيامًا متعددةً؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ557:556).

روى الشيخان، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل))، قلت: إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبكي، فلا يقدر على القراءة، فقال: ((مُروا أبا بكر فليصل))، فقلت: مثله، فقال في الثالثة أو الرابعة: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل))، فصلى؛ (البخاري حديث: 712، مسلم حديث: 418).

الشبهة التاسعة عشرة:

قال الطاعنون: “لو أنفق أبو بكر الصديق في سبيل الله لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في علي بن أبي طالب: سورة (هل أتى) (الإنسان: 1)”.

الرد على هذه الشبهة:

الرد من عدة وجوه:

الأول: أما نزول سورة (هل أتى) في علي بن أبي طالب، فمما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه كذب موضوع، والدليل الظاهر على أنه كذب أن سورة (هل أتى) مكية باتفاق العلماء، نزلت قبل الهجرة، وقبل أن يتزوج عليٌّ بفاطمة، ويولد الحسن والحسين، ولم ينزل قط قرآن في إنفاق علي بن أبي طالب بخصوصه؛ لأنه لم يكن له مال، ولما تزوج بفاطمة بنت رسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له مهر إلا درعه.

ثانيًا: كل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله؛ فأبو بكر الصديق رضي الله عنه هو أول المرادين بها من الأمة؛ مثل قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ﴾ [الحديد: 10]، وأبو بكر أفضل هؤلاء وأولهم، وكذلك قوله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ [التوبة: 20].

ثالثًا: قوله تعالى: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل: 17، 18]، فذكر المفسرون مثل: ابن جرير الطبري وعبد الرحمن بن أبي حاتم وغيرهما بالأسانيد عن عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهم أنها نزلت في أبي بكر الصديق؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ555:553).

الشبهة العشرون:

قال الطاعنون: “كان أبو بكر الصديق معلمًا للصبيان في الجاهلية، وفي الإسلام كان خياطًا، ولما وَلِي أمرَ المسلمين منعه الناس عن الخياطة، فقال: إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال”.

الرد على هذه الشبهة:

الرد من عدة وجوه:

الأول: قولهم: إن أبا بكر كان معلمًا للصبيان في الجاهلية، فهذا من المنقول الذي لو كان صدقًا لم يقدح فيه، بل يدل على أنه كان عنده علم ومعرفة، وكان جماعة من علماء المسلمين يؤدبون الصبيان، منهم: أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك بن مزاحم، وعطاء بن أبي رباح، وأبو عبيد القاسم بن سلام الإمام المجمع على إمامته وفضله، فكيف إذا كان ذلك من الكذب المختلق؟!

ثانيًا: قولهم: “إن الصدِّيق كان خياطًا في الإسلام، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة”.

كذب ظاهر، يعرف كل أحد أنه كذب، وإن كان لا غضاضة فيه لو كان حقًّا، فإن أبا بكر لم يكن خياطًا، وإنما كان تاجرًا تارةً يسافر في تجارته، وتارةً لا يسافر، وقد سافر إلى الشام في تجارته في الإسلام، والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش، وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة، وكانت العرب تعرفهم بالتجارة.

ثالثًا: لما أصبح أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفةً للمسلمين أراد أن يتجر لعياله فمنعه المسلمون، وقالوا: هذا يشغلك عن مصالح المسلمين؛ (منهاج السنة؛ لابن تيمية جـ8 صـ546:540).

الشبهة الحادية والعشرون:

قال الطاعنون: “صعد أبو بكر الصديق يومًا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الحسن والحسين: «انزل عن منبر جَدِّنا»، فعلم أن ليس له لياقة الإمامة”.

الرد على هذه الشبهة:

الرد من وجهين:

الأول: هذا كذب وافتراء على الحسن والحسين، فنقول للطاعنين: نريد دليلًا صحيحًا مسندًا على صحة هذا الكلام.

ثانيًا: لو افترضنا صحة هذا الكلام؛ فإن الحسن والحسين كانا صغيرين في ذلك الوقت، فإن الحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة في رمضان، والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشرة، فلا نقص ولا عيب في ذلك، فمن دأب الأطفال أنهم إذا رأوا أحدًا في مقام محبوبهم ولو برضائه يزاحمونه، ويقولون له: قم عن هذا المقام، فلا يعتبر العقلاء هذا الكلام، وهم وإن ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكامًا، ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد كمال العقل. (مختصر التحفة الاثنى عشرية؛ للدهلوي صـ238).

الشبهة الثانية والعشرون:

قال الطاعنون: “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب فنام على فراشه ليلة الهجرة، وخشي من أبي بكر بن أبي قحافة أن يدل القوم عليه؛ فأخذه معه إلى الغار”.

الرد على هذه الشبهة:

الرد من عدة وجوه:

أولًا: سبحانك هذا بهتان عظيم، فليأتوا بدليل مسند صحيح، يؤيد هذا الكلام، إن كانوا صادقين!

ثانيًا: من المعلوم أن أبا بكر الصديق كان من أكثر الصحابة حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أكثر الصحابة خوفًا على الرسول صلى الله عليه وسلم.

روى البيهقي عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما، فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه قال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فجعل يمشي ساعةً بين يديه، وساعةً خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أبا بكر، ما لك تمشي ساعةً بين يديَّ، وساعةً خلفي؟))، فقال: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: ((يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون لك دوني؟))، قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكن من مُلمَّة إلا أحببت أن تكون لي دونك، فلما انتهينا من الغار، قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة، فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر؛ (دلائل النبوة، للبيهقي جـ2 صـ476).

ثالثًا: تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق هي من أقوى الردود في الرد على هذا الكذب.

  1.  روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أمَنِّ الناس علَيَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر))؛ (البخاري حديث: 2654).
  2.  روى الشيخان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة))، فقلت: من الرجال؟ فقال: ((أبوها))، قلت: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب فعد رجالًا))؛ (البخاري حديث3662، مسلم حديث2384).
  3.  روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدًا، وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال صلى الله عليه وسلم: ((اثبت أُحُد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان))؛ (البخاري حديث3675).
  4.  روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي، للألباني حديث2897).
  5.  روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنت عتيق الله من النار))؛ فيومئذ سمي: عتيقًا؛ (حديث صحيح)، (صحيح الترمذي؛ للألباني حديث: 2905).

الشبهة الثالثة والعشرون:

قال الطاعنون: “إن أبا بكر الصديق قد استخلف عمر بن الخطاب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا، فقد خالف أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم”.

الرد على هذه الشبهة:

الرد من عدة وجوه:

أولًا: النبي صلى الله عليه وسلم أشار باستخلاف أبي بكر الصديق، والإشارة كالعبارة.

  1.  روى الشيخان عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك (كأنها تقول: الموت)، قال: ((إن لم تجديني فأْتي أبا بكر))؛ (البخاري حديث3659، مسلم حديث2386).
  2.  روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ((ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر))؛ (مسلم حديث2387).
  3.  روى مسلم عن عائشة أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثم انتهت إلى هذا؛ (مسلم حديث2385).

ثانيًا: في زمن أبي بكر الصديق دخل كثير من العرب في الإسلام، وهم حديثو عهدٍ بالإسلام، فاجتهد أبو بكر في استخلاف عمر بن الخطاب، حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات؛ (مختصر التحفة الاثنى عشرية؛ للدهلوي، صـ242).

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى