الرد على افتراء انتشار الإسلام بالقوة والإجبار
مجمل الافتراء:
يدَّعي بعض أعداء الإسلام من المنصّرين والمستشْرقين واليهود وغيرهم: أنَّ الحروب في الإسلام كانت لإجْبار غير المسلمين على الدُّخول في الإسلام، وأنَّ الَّذين اعتنقوا الإسلام دخلوا فيه بالإكراه والقهْر، لا عن اقْتِناع وتسليم
وزعموا أنَّ السيرة النبويَّة شاهدة على انتِشار الإسلام بحدِّ السَّيف، وأنَّ الغزوات التي غزاها الرَّسول – صلَّى الله عليْه وسلَّم – كان الهدف منها هو إجْبار النَّاس على الدخول في الإسلام عنوة.
الرَّدّ
هذه الفرية مرْدود عليها من وجوه، تتلخَّص فيما يلي:
أوَّلاً: لقد مكث رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مكَّة ثلاثة عشر عامًا يدْعو بالحجَّة والموعظة الحسنة بلا قتال أو إراقة نقطة دم، وكان – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وأصحابُه مستضعفين يتعرَّضون للتَّعذيب والتَّنكيل ليرجعوا عن دينِهم، فما صرفهم هذا عن الإسْلام، وما زادَهم إلاَّ إصرارًا على اتِّباع الحقّ، فإن كان هناك إكراه، ففي الصَّدّ عن الإسلام، لا في اتِّباعه.
ثانيًا: دخل الإسلام إلى أهل يثرب – المدينة النبوية – بلا أيّ قتال؛ فقد اقتنع سادتُهم بالإسلام حين عرضَه عليْهِم الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – فبايعوه بيْعتَي العقبة الأولى والثانية، ثمَّ أرسل إليهم مصعبَ بن عُمير فاجتهَد في دعْوة أهل المدينة حتَّى دخلَ معظمُهم في دين الإسلام، فأين الإجبار في إسلام أهل المدينة؟!
إذًا؛ صار من المسلَّمات الَّتي لا يداخلُها شكٌّ أنَّ المهاجرين والأنصار – الَّذين هم ركيزة الدولة الإسلامية الأولى – قد دخلوا في دين الله عنِ اقْتِناع وتسليم، وتحمَّلوا في سبيله الابتِلاءات والاضطِهادات؛ ممَّا ينفي أيَّ شبهة إكراه وإجبار في حقِّهم.
ثالثًا: إنَّ الحروب والغزوات الإسلاميَّة في العصر النبويّ غالبُها لم يكن بِمبادرة من المسلمين، فقد غُزي المسلمون مثلاً في بدْر وأحُد والأحزاب، وأمَّا غزوات اليهود وفتْح مكَّة ومؤْتة وتبوك وغيرها، فكانت تأديبًا لِمَن خانوا العقود وخالفوا العهود والمواثيق، وبدؤوا بالاعتداء، أو قتلوا رسُل رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.
رابعًا: كان المسلِمون يدخلون في الغالب في معارك غير متكافِئة من حيث العددُ والعدَّة، حيث كان خصمُهم يتفوَّق عليهم تفوُّقًا ساحقًا.
ففي غزوة مؤْتة – على سبيل المثال – نجِد أنَّ عدد جنود المسلمين حوالَي ثلاثة آلاف رجُل، في حين كان عددُ جيش الكفَّار مائتي ألْف مقاتل، ناهيك عن التفوُّق في العدَّة والآلة الحربيَّة، فهل يظنّ بهذه القلَّة المستضعفة أن تغرَّها قوتها وتشرع في فرض ما معها من الحقّ على هذه الجموع الغفيرة؟! وهل سعى ثلاثةُ آلاف مسلم في فرض الإسلام على مائتَي ألف شخص؟!
خامسًا: إنَّ العقائد لا تستقرُّ في النفوس تحت وطْأة السَّيف والقهر على الإطلاق، وإنَّما تستقرُّ بالإقْناع وبالحجَّة الواضحة، ولو كانت الشُّعوب قد دخلت في الإسلام مُجْبرة فسرعان ما كانت تمرَّدتْ عليه ولفظته، ولكنَّ الحقيقة التي يشْهَد لها التَّاريخ والواقع أنَّ الشُّعوب الإسلاميَّة هي أكثر الشعوب تمسُّكًا بدينها، رغم ما تُعانيه من اضطِهادات وحروب في كثير من أنحاء العالم حتَّى في عصرنا هذا.
سادسًا: من المعلوم أنَّ هناك كثافة إسلاميَّة في جنوب شرق آسيا، في بلادٍ لَم تطأْها قدمُ مجاهد مسلم فاتح، كالفلبّين وإندونيسيا، فهناك عشَرات بل مئات الملايين أسْلموا، فمَن الَّذي أجْبر هؤلاء على اعتِناق الإسلام؟! وجدير بالذِّكْر أنَّ هؤلاء يشكِّلون غالبيَّة المسلمين في عصرنا.
كما أنَّ هناك كثيرًا من المسلِمين في دول أوربَّا والأمريكتَين، وهي بلاد لم يدخُلْها الفاتحون المسلمون، وهناك أقلّيات مسلمة في كلّ الدُّول غير الإسلاميَّة وهم متمسِّكون بالإسلام، والحمد لله.
وفي كلّ يوم تدخُل جموع غفيرة إلى الإسلام في بلاد غير إسلاميَّة، حتَّى ثبت بالإحصاءات الرَّسمية غير الإسلاميَّة أنَّ الإسلام هو أسرع الأدْيان انتشارًا في العالم الآن.
سابعًا: ممَّا يؤكِّد بطلان هذه الفرية: أنَّ التَّاريخ يثبت أنَّ بعض القوَّات والجيوش التي حاربت المسلمين وانتصرتْ عليْهِم كالتَّتار مثلاً – قد أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا، في سابقةٍ لعلَّها لَم يعرفْ لها التاريخ مثيلاً، فأنَّى للمنتصِر أن يدخُل في دين المهزوم؟! وأيّ شبهة إكراه ها هنا؟!
ثامنًا: من نصوص الشَّرع ما يشهد على عدم الإكراه والإجبار في الدين؛ كقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
قال السعدي في تفسيره لآية البقرة: “هذا بيان لكمال هذا الدّين الإسلامي، وأنَّه لكمال براهينه واتِّضاح آياته، وكونه هو دينَ العقل والعِلْم، ودين الفطْرة والحِكْمة، ودين الصَّلاح والإصْلاح، ودين الحقّ والرشْد، فلِكمالِه وقبول الفِطَر له لا يَحتاج إلى الإكْراه عليه؛ لأنَّ الإكراه إنَّما يقع على ما تنفر عنه القلوب ويتنافَى مع الحقيقة والحقّ، أو لِما تخفى براهينُه وآياته، وإلاَّ فمَن جاءه هذا الدين وردَّه ولم يقبلْه فإنه لعناده؛ فإنَّه قد تبيَّن الرُّشد من الغيّ، فلم يبقَ لأحد عذرٌ ولا حجَّة إذا ردَّه ولم يقبله”1.
وقد يقول قائل: ولماذا شُرِع الجهاد في الإسلام؟ أليْس لإجبار النَّاس على اعتِناق الإسلام؟
والجواب على ذلك: أنَّ الجهاد لم يشرعْ في الأساس لإجْبار النَّاس على دخول الإسلام قهرًا، وإنَّما الغاية العظْمى من الجهاد هي تطْهير الأرض من أجواء الفتن حتَّى يتمَّ تعْبيد النَّاس لله ربِّ العالمين وحده، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، وإقامة توْحيد الله في أرض الله، بين عباد الله، وإرْجاع البشر إلى أصل فطرتِهم، وهي الإسلام لله تعالى الَّذي يخلِّص البشرَ من كل عبوديَّة مذلَّة لغيره.
لذلك قال ربعي بن عامر لرستم ملك الفرس يوضِّح سبب جهاد المسلمين: “إنَّ الله ابتعثنا لنخْرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جور الأدْيان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنَا بدينِه إلى خلقِه لندعُوَهم إليْه، فمَن قَبِل ذلك قبِلْنا منه ورجعنا عنْه، ومن أَبَى قاتلْناه أبدًا حتَّى نفضي إلى موعود الله”2.
وهذا ما جاء به الحقّ في القرآن؛ حيث قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].
قال ابن كثير: “أمر الله تعالى بقِتال الكفَّار حتَّى لا تكون فتنة؛ أي: شرك، قال ابن عبَّاس وأبو العالية ومُجاهد، والحسن وقتادة والرَّبيع، ومقاتل بن حيَّان والسدّي وزيد بن أسلم: ويكون الدين لله؛ أي: يكون دين الله هو الظَّاهر على سائر الأديان”3.
قال الطبرى: “فقاتِلوهم حتَّى لا يكون شرْكٌ ولا يعبد إلاَّ الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، “ويكون الدِّين كله لله“، يقول: وحتَّى تكون الطاعة والعبادة كلّها لله خالصة دون غيره”4.
ولتوضيح ذلك نقول:
إنَّك إذا أردتَ أن تُعالج شعبًا من إدْمان الخمر، فلا بدَّ أن تغْلِق الخمَّارات، وإذا أردت لإنسانٍ أن يتوبَ من الزِّنا، فلا تجعله يعيش بين بيوت الدّعارة، وعندما تريد أن تَجعل النَّاس أصحَّاء، فيجب أن توفِّر لهم أجواء صحّيَّة نظيفة، والجهاد هو وسيلة تطْهير الأرض من أدْواء الشِّرْك وتخليصها من أمراض الكفْر، وهذا معنى: “حتَّى لا تكون فتنة“.
فالجهاد في الإسلام ليس لإكْراه النَّاس على الإسلام؛ وإنَّما لإفساح الطريق لهم لأن يعْبُدوا الله ويتركوا الشِّرْك، من خلال توفير أجواء إيمانيَّة لهم تساعدُهم على التَّفريق بين الحقّ والباطل، وتوضِّح لهم الرشْد من الغيّ؛ ولذلك قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].