الرد على افتراءات المرجفين حول انتشار الإسلام بحد السيف
مجمل الفِرْيَة:
يدَّعي بعض أعداء الإسلام من المنصِّرين والمستشرقين واليهود ونحوهم أن الحروب في الإسلام كانت لإجبار غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وأن الذين اعتنقوا الإسلام دخلوا فيه بالإكراه والقهر، لا عن اقتناع وتسليم.
وزعموا أن السيرة النبوية شاهدة على انتشار الإسلام بحد السيف، وأن الغزوات التي غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم كان الهدف منها هو إجبار الناس على الدخول في الإسلام عنوة، وقالوا: إن الإسلام بذلك لا يكفل حرية الاعتقاد للناس، ويَفرض عليهم وصاية تَسلبهم حق اختيار الاعتقاد الذي يَقتنعون به.
الرد على الفرية:
هذه الفرية مردود عليها من وجوه، تتلخَّص فيما يلي:
- لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يَدعو بالحُجة والموعظة الحسنة بلا قتال أو إراقة نقطة دم، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُستضعَفين يتعرَّضون للتعذيب والتنكيل ليَرجعوا عن دينهم كما ذكرنا آنفًا، فما صرَفَهم هذا عن الإسلام، وما زادهم إلا إصرارًا على اتباع الحق، فإن كان هناك إكراه ففي الصد عن الإسلام لا في اتِّباعه.
- دخل الإسلام إلى أهل يثرب المدينة النبوية بلا أي قتال؛ فقد اقتنع سادتهم بالإسلام حين عرضه عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فبايعوه بيعتي العقبة الأولى والثانية، ثم أرسل إليهم مصعب بن عمير، فاجتهد في دعوة أهل المدينة حتى دخل معظمهم في دين الإسلام، فأين شبهة الإجبار في إسلام أهل المدينة؟
- إذًا صار من المسلَّمات التي لا يداخلها شك أن المهاجرين والأنصار الذين هم ركيزة الدولة الإسلامية الأُولى – قد دخلوا في دين الله عن اقتناع وتسليم، وتحمَّلوا في سبيله الابتلاءات والاضطهادات؛ مما يَنفي أي شبهة إكراه وإجبار.
- إن الحروب الإسلامية في العصر النبوي غالبها لم يكن بمُبادرة من المسلمين؛ فقد غُزي المسلمون مثلاً في بدر وأُحُد والأحزاب، وأما غزوات اليهود وفتح مكة ومؤتة وتبوك وغيرها، فكانت تأديبًا لمن خانوا العقود، وخالفوا العهود والمواثيق، وبدؤوا بالاعتداء أو قتَلوا رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- كان المسلمون يدخلون في الغالب في معارك غير متكافئة من حيث العدد والعدة؛ حيث كان خصمهم يتفوق عليهم تفوقًا ساحقًا، ففي غزوة مؤتة على سبيل المثال نجد أن عدد جنود المسلمين ثلاثة آلاف رجل، في حين كان عدد جيش الخصوم مائتي ألف مقاتل، ناهيك عن التفوق في العدة والآلة الحربية، فهل يظن بهذه القلة المستضعفة أن تغرَّها قوتها وتشرع في فرض ما معها من الحق على هذه الجموع الغفيرة؟ وهل سعى ثلاثة آلاف مسلم في فرض الإسلام على مائتي ألف شخص؟
- إن العقائد لا تستقر في النفوس تحت وطأة السيف والقهر على الإطلاق؛ وإنما تستقر بالإقناع وبالحُجة الواضحة، ولو كانت الشعوب قد دخلت في الإسلام مُجبَرة فسرعان ما كانت تمرَّدت عليه ولفَظتْه، ولكن الحقيقة التي يشهد لها التاريخ والواقع أن الشعوب الإسلامية هي أكثر الشعوب تمسُّكًا بدينها رغم ما تعانيه من اضطهادات وحروب في كثير من أنحاء العالم.
- من المعلوم أن هناك كثافة إسلامية في جنوب شرق آسيا والفلبِّين وإندونيسيا، وهناك عشرات بل مئات الملايين أسلَموا ولم تطأ بلادَهم قدمُ مُجاهد مسلم فاتح، فمَن الذين أجبر هؤلاء على اعتناق الإسلام؟ وهل ثبت تاريخيًّا أن جيوش المسلمين حاربت هناك؟ وجدير بالذكر أن هؤلاء يُشكِّلون غالبية المسلمين في عصرنا، كما أن هناك كثيرًا من المسلمين في دول أوربا والأمريكيتين، وهي بلاد لم يدخلها الفاتحون المسلمون.
- ومما يؤكد بطلان هذه الفرية أن التاريخ يثبت أن بعض القوات والجيوش التي حاربت المسلمين وانتصرت عليهم كالتتار مثلاً، قد أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا، في سابقة لعلها لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، فأنى للمُنتصِر أن يدخل في دين المَهزوم؟ وأي شبهة إكراه ها هنا؟
- إن تشريع الجهاد لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام؛ وإنما لإقامة الحق، ورد الظلم، وتأمين المسلمين، وإزالة كل العقبات من سبيل الدعوة، ورد كل عدوان يقع على الإسلام والمسلمين كما بينَّا سابقًا.
- من نصوص الشرع ما يشهد على عدم الإكراه والإجبار في الدين؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، وقوله تعالى: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
- قال العلامة السعدي في تفسيره لآية البقرة:
- “هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه – لكمال براهينه واتضاح آياته، وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح، ودين الحق والرشد، فلكماله وقَبول الفطر له – لا يحتاج إلى الإكراه عليه؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تَنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق، أو لما تخفى براهينه وآياته، وإلا فمن جاءه هذا الدين وردَّه ولم يقبله، فإنه لعناده؛ فإنه قد تبين الرشد من الغي، فلم يبق لأحد عذرٌ ولا حُجة إذا رده ولم يقبله.
- ولا منافاة بين هذا المعنى وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد؛ فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين، وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماضٍ مع البَرِّ والفاجر، وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي الفعلي، فمَن ظنَّ من المفسرين أن هذه الآية تُنافي آيات الجهاد فجزم بأنها منسوخة، فقوله ضعيف لفظًا ومعنى كما هو واضح بيِّن لمن تدبَّر الآية الكريمة”1.
- قال العلامة السعدي في تفسيره لآية البقرة:
- لا شك أن غاية الجهاد العظمى هي إقامة التوحيد وجعل كلمة الله هي العليا، والقضاء على الشرك، وتطهير الأرض من الكفر، سواء قبل الناس ذلك أو لم يقبلوه.
فلو أن إنسانًا أخذ على عاتقه مسؤولية تحرير الناس من الظلم، أو القضاء على الفواحش وسيئ الأخلاق، وبذل في ذلك دمه وروحه، لعدَّه الناس بطلاً عظيمًا، فأي ظلم أشد على البشرية من الشرك بالله؟ وأي ذنب أعظم من الكفر؟ وأي شرف أسمى من مُحارَبة الكفر والشرك، وإقامة المجتمع على أسس مِن العدل والإيمان والتوحيد؟
نعم، إن الإسلام كما أنه لا يقبل ممارسة الإباحية والفجور باسم الحرية الشخصية، فإنه من باب أولى لا يقرُّ الكفر والشرك تحت شعار حرية الاعتقاد، ولا يسمح بأجواء تدعو للشرك وتجهر بالكفر وتكون فتنة للناس في دينهم، فمن كفر في خاصة نفسه فحسابُه عند من اطَّلع على ما تُخفي الصدور.
وإننا نشاهد في واقعنا وثنيات فاجرة تعظِّم عبادة الأحجار والأشجار والأبقار والكواكب والنجوم، وإلحادًا يسبُّ الله ورسله، ويسخر من أنبياء الله ويُجاهر بالطعن فيهم، ويحتقر الأديان ويعدُّها دربًا من الخرافات والأساطير.
وكل ذلك ما هو إلا إفراز منطقي لدعاوى حرية الاعتقاد والفكر، وما كان الإسلام بشريعته الكاملة المطهَّرة ليذر الناس يعيشون في هذه الأجواء الممتلئة بأوبئة الضلال الفاتكة الفاتنة.
لا بد من توفير أجواء صحية يتبين فيها الرشد من الغي، ويتميز فيها الحق من الباطل.
أجواء طاهرة لا تنشر الكفر والإلحاد، ولا تشيع الفواحش والضلالات، ولا يؤذى فيها أهل الحق، أو يضلَّل فيها الغافلون ويغرقون في بحور الهلاك.
من أجل ذلك كان لا بد للحق من قوة تَدعمه، وتدحض الباطل وتدمغه، لا سيما بعد أن تُوفِّيَ الدعوة دورَها، وتقام الحجة والبيِّنة على جميع الخلق.
- تفسير السعدي (ص: 92). ↩︎