الرد المبين على من يطعن في عائشة أم المؤمنين
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربُّه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد:
فإن الرد بطريقة علمية قوية على الحاقدين على الإسلام، الذين يطعنون في ريحانة بيت النبوة، أم المؤمنين؛ الصديقة عائشة رضي الله عنها – إنما هو في الحقيقة دفاعٌ عن شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفاع عن الإسلام جملة وتفصيلًا، وسوف نذكر بعض الشُّبُهات والطعون التي أثارها الحاقدون على الإسلام ضد الطاهرة العفيفة أمِّ المؤمنين عائشةَ زوجةِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونذكر الرد على هذه الشبهات والطعون، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الشبهة الأولى:
قال الطاعنون: “أذاعت عائشةُ سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
الرد على هذه الشبهة:
الرد من وجهين:
ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة.
روى الشيخان عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ((لم أزَلْ حريصًا على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]، فحججتُ معه، فعدل وعدلت معه بالإداوة (إناء)، فتبرز حتى جاء، فسكبتُ على يديه من الإداوة فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، مَنِ المرأتان مِن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله عز وجل لهما: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]؟ فقال: وا عَجَبِي لك يا ابن عباس، عائشةُ وحفصة))؛ [البخاري حديث: 2468، مسلم حديث: 1479].
أولًا: هؤلاء الطاعنون يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكرُ ذنوبٍ ومعاصٍ بيِّنة لمن نصت عنه من المتقدمين، يتأولون النصوص بأنواع التأويلات، وأهل السنة يقولون: بل أصحاب الذنوب تابوا منها، ورفع الله درجاتهم بالتوبة، وهذه الآية ليست بأَوْلَى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات، فإن كان تأويل تلك سائغًا، كان تأويل هذه كذلك، وإن كان تأويل هذه باطلًا، فتأويل تلك أبطل.
ثانيًا: بتقدير أن يكون هناك ذنبٌ لعائشةَ وحفصة، فإنهما قد تابتا منه، وهذا ظاهر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]؛ فدعاهما الله تعالى إلى التوبة، فلا يُظَنُّ بهما أنهما لم يتوبا، مع ما ثبت من علوِّ درجتهما، وأنهما زوجتا نبينا في الجنة، وأن الله خيَّرهن بين الحياة الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة؛ [منهاج السنة لابن تيمية، ج: 4، ص: 313، 314].
الشبهة الثانية:
قال الطاعنون: “قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((إنكِ تقاتلين عليًّا، وأنتِ ظالمة له))”.
الرد على هذه الشبهة:
هذا الحديث وهو قوله لها: ((تقاتلين عليًّا وأنتِ ظالمة له))، فهذا لا يُعرَف في شيء من كتب العلم المعتمدة، ولا إسنادَ معروف له، وهو كذِبٌ قطعًا؛ فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنَّت أن في خروجها مصلحةً للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أَوْلَى، فكانت إذا ذكرت خروجها، تبكي حتى تبلَّ خمارها.
وهكذا عامة السابقين ندِموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندِمَ طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم؛ فإنه لما تراسل عليٌّ وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكنوا، طلبوا قتلة عثمان أهلَ الفتنة، وكان عليٌّ غيرَ راضٍ بقتل عثمان ولا معينًا عليه، كما كان يحلف فيقول: “والله ما قتلت عثمان، ولا مالأتُ على قتله”، وهو الصادق البارُّ في يمينه، فخشيَ القتلة أن يتفق عليٌّ معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظن طلحة والزبير أن عليًّا حمل عليهم، فحملوا دفعًا عن أنفسهم، فظن عليٌّ أنهم حملوا عليه، فحمل دفعًا عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة رضي الله عنها راكبة، لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال؛ [منهاج السنة لابن تيمية، ج: 4، ص: 316، 317].
الشبهة الثالثة:
قال الطاعنون: “خالفت عائشة أمر الله في قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]”.
الرد على هذه الشبهة:
عائشة رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سَفْرَةٍ، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبدالرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية؛ ولهذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن – كما كُنَّ يحججن معه – في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبدالرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزًا، فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين، فتأولت في ذلك؛ [منهاج السنة لابن تيمية، ج: 4، ص: 317، 318].
الشبهة الرابعة:
قال الطاعنون: “إن عائشة خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليًّا على غير ذنب”.
الرد على هذه الشبهة:
هذا كذب على عائشة رضي الله عنها؛ فإنها لم تخرج لقصد القتال، ولا كان أيضًا طلحة والزبير قصدهما قتال عليٍّ، ولو قُدِّرَ أنهم قصدوا القتال، فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 9، 10]، فجَعَلَهُم مؤمنين إخوةً مع الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتًا لمن هو دون أولئك المؤمنين، فهم به أَوْلَى؛ [منهاج السنة لابن تيمية، ج: 4، ص: 321، 322].
الشبهة الخامسة:
قال الطاعنون: “إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان، وتقول في كل وقت: اقتلوا نعثلًا، قتل الله نعثلًا، ولما بلغها قتله فرحت بذلك”.
فائدة:
نعثل: اسم يهودي عظيم اللحية في المدينة، فشُبِّهَ عثمان به، وسُمِّيَ به.
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟.
ثانيًا: المنقول الثابت عن عائشة يكذِّب ذلك، ويبين أنها أنكرت قتل عثمان، وذمَّت مَن قتله، ودعت على كل مَن شارك في قتل عثمان رضي الله عنه؛ [منهاج السنة لابن تيمية، ج: 4، ص: 329].
- روى ابن سعد عن الأعمش عن خيثمة عن مسروق عن عائشة، قالت حين قُتل عثمان: ((تركتموه كالثوب النقيِّ من الدَّنَسِ، ثم قربتموه تذبحونه كما يُذبح الكبش، هلا كان هذا قبل هذا؟ فقال لها مسروق: هذا عملكِ، أنتِ كتبتِ إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه، قال: فقالت عائشة: لا والذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون، ما كتبتُ إليهم بسوداءَ في بيضاءَ، حتى جلست مجلسي هذا، قال الأعمش: فكانوا يَرَون أنه كُتب على لسانها))؛ [إسناده صحيح، الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 60].
- روى البخاري في التاريخ الكبير عن طلق بن خشاف، قال: ((قُتل عثمان، فتفرقنا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة قالت: قُتل مظلومًا، لعن الله قَتَلَتَهُ))؛ [إسناده حسن، التاريخ الكبير للبخاري، ج: 4، ص: 358، حديث: 3137].
- روى أحمد عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تقول (في فتنة مقتل عثمان): ((يا ليتني كنت نسيًا منسيًّا، فأما الذي كان من شأن عثمان، فوالله ما أحببتُ أن يُنتهَكَ من عثمان أمرٌ قط إلا انتُهك مني مثله، حتى لو أحببتُ قتله قُتلت، يا عبيدالله بن عدي، لا يغرنَّك أحد بعد الذي تعلم، فوالله ما احتقرت أعمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نجم النفر الذين طعنوا في عثمان، فقالوا قولًا لا يُحسِن مثله، وقرؤوا قراءةً لا يُحِسن مثلها، وصلوا صلاةً لا يصلى مثلها، فلما تدبرت الصنيع، إذًا والله ما تقاربوا أعمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أعجبك حسنُ قولِ امرئ، فقل: ﴿ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]، ولا يستخفنك أحد))؛ [حديث صحيح، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، ج: 1، ص: 462، حديث: 750].
ثالثًا: ثبت أن عائشة رضي الله عنها قد روت أحاديثَ في فضائل عثمان بن عفان.
- روى مسلم عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذِنَ له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذِنَ له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوَّى ثيابه – قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد – فدخل فتحدث، فلما خرج، قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ولم تُبالِهِ، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسوَّيْتَ ثيابك، فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة))؛ [مسلم حديث: 2401].
- روى الترمذي عن النعمان بن بشير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصُك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه لهم))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث: 2923].
- روى ابن ماجه عن قيس بن أبي حازم عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ((وددت أن عندي بعض أصحابي، قلنا: يا رسول الله، ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت، قلنا: ألا ندعو لك عمر؟ فسكت، قلنا: ألا ندعو لك عثمان؟ قال: نعم، فجاء، فخلا به، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، ووجهُ عثمانَ يتغير، قال قيس: فحدثني أبو سهلة مولى عثمان أن عثمان بن عفان قال يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهِدَ إليَّ عهدًا، فأنا صائرٌ إليه، وقال عليٌّ في حديثه: وأنا صابر عليه، قال قيس: فكانوا يَرَونه ذلك اليوم))؛ [حديث صحيح، صحيح ابن ماجه للألباني، حديث: 91].
الشبهة السادسة:
قال الطاعنون: “سمُّوا عائشة بنت أبي بكر الصديق أمَّ المؤمنين، ولم يسمُّوا غيرها بذلك”.
الرد على هذه الشبهة:
هذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد، ومن المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يُقال لها: “أم المؤمنين”، وزوجات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هم: خديجة بنت خويلد، وسودة بنت زمعة، وعائشة بنت الصديق أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وزينب بنت خزيمة، وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وصفية بنت حيي بن أخطب، وميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنهن أجمعين؛ قال الله تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وهذا أمر معلوم للأمة علمًا عامًّا، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن؛ فهن أمهات المؤمنين؛ [منهاج السنة لابن تيمية، ج: 4، ص: 366 – 369].
الشبهة السابعة:
قال الطاعنون: “سجَّل المؤرخون على عائشة بنت أبي بكر أنها لا تريد ذكرَ اسمِ علي بن أبي طالب”.
الرد على هذه الشبهة:
الرد على هذا الكذب من وجهين:
أولًا: نحن نسأل هؤلاء الطاعنون: من هؤلاء المؤرخون؛ حتى نعرف من الصادق ومن الكاذب؟ وما المراجع التي اعتمدتم عليها في نقل هذا الكلام؟
ثانيًا: الثابت المعلوم لجميع الناس أن عائشة كانت تذكر عليًّا بكل خير.
روى مسلم عن شريح بن هانئ قال: ((أتيتُ عائشةَ أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فَسَلْهُ؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلةً للمقيم))؛ [مسلم حديث: 276].
الشبهة الثامنة:
قال الطاعنون: “إن عسكر عائشة لما أتَوا مدينة البصرة نهبوا بيت المال، وأخرجوا عامل الأمير عثمان بن حنيف الأنصاري مهانًا، مع أنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
الرد على هذه الشبهة:
الرد من وجهين:
أولًا: هذه الأمور لم تقع برضا عائشة، ولا علمت بذلك، حتى إنها لما علمت ما جرى في حق عثمان بن حنيف، اعتذرت له واسترضته.
ثانيًا: مثل هذا وقع لعسكر علي بن أبي طالب مع أبي موسى الأشعري، فقد أحرقوا بيته، ونهبوا متاعه لما دخلوا الكوفة؛ [مختصر التحفة الاثنى عشرية للدهلوي، ص: 269].
الشبهة التاسعة:
قال الطاعنون: “روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: ((ما غِرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها))؛ [البخاري حديث: 3818، مسلم حديث: 2435].
الرد على هذه الشبهة:
أولًا: الغَيرة أمر طبيعي في النساء، ولا مؤاخذة عليهن في مثل هذه الأمور.
ثانيًا: لو صدر قول أو فعل مخالف للشرع نتيجة الغيرة، فلا بد من توجيه اللوم إلى المرأة التي صدر منها ذلك.
ثالثًا: روى النسائي عن أبي المتوكل عن أم سلمة: ((أنها أتت بطعام في صَحفة (وعاء) لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرةً بكساء ومعها فِهرٌ (حجر)، ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة، ويقول: كلوا، غارت أمُّكم، مرتين، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة، فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة عائشة))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن النسائي للألباني، ج: 2، ص: 62].
في هذا الحديث لم يعاتبِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها ولم يوبِّخها، فكيف نسمح لأفراد الأمة أن يجعلوا أمهات المؤمنين هدفًا لسهام مطاعنهم؟ [مختصر التحفة الاثنى عشرية للدهلوي، ص: 270].
الشبهة العاشرة:
قال الطاعنون: “كانت عائشة تقول في آخر حياتها: قاتلت عليًّا، ووددت أني كنت نسيًا منسيًّا”.
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: هذه الرواية غير صحيحة بهذا اللفظ، والذي صحَّ أن عائشة كانت تذكر يوم الجمل وتبكي بكاء شديدًا، حتى يبتل خمارها بالدموع، ندمًا على ذهابها إلى العراق؛ [مختصر التحفة الاثنى عشرية للدهلوي، ص: 270].
ثانيًا: كانت عائشة تحدِّث نفسها أن تُدفَن في بيتها، فقالت: ((إني أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثًا، ادفنوني مع أزواجه))، فدُفنت بالبقيع رضي الله عنها.
قال الإمام الذهبي: “تعني بالحدث: مسيرها يوم الجمل، فإنها ندمت ندامةً كليةً، وتابت من ذلك، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة، قاصدة للخير، كما اجتهد طلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وجماعة من الكبار رضي الله عن الجميع”؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 193].
ثالثًا: قال ابن أبي عتيق: قالت عائشة: ((إذا مرَّ ابن عمر، فأرونيه، فلما مر بها، قيل لها: هذا ابن عمر، فقالت: يا أبا عبدالرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري (أي: إلى العراق)؟ قال: رأيت رجلًا قد غلب عليكِ؛ يعني: عبدالله بن الزبير))؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 2، ص: 193].
الشبهة الحادية عشرة:
قال الطاعنون: “روى أحمد عن عائشة أم المؤمنين قالت: ((لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس – أو لابن عم له – وكاتبته على نفسها، وكانت امرأةً حلوةً مُلاحةً لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها))؛ [حديث حسن، مسند أحمد، ج: 43، ص: 384، حديث: 26365]، وهذا دليل على أن عائشة كانت تكره جويرية بنت الحارث”.
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: قول عائشة في هذا الحديث محمولٌ على الغيرة الطبيعية التي خلق الله تعالى عليها النساء، فكَونُ عائشة تغار على زوجها من امرأة أجنبية أمر طبيعي، ولا يستطيع إنسان عاقل أن يلوم عائشة عليه.
ثانيًا: هذا القول صدر من عائشة قبل إسلام جويرية بنت الحارث، وقبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: عندما أسلمت جويرية بنت الحارث، وأصبحت زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، زالت كراهية عائشة لها، وأثنت عليها أفضل الثناء.
روى أحمد عن عائشة أم المؤمنين قالت: ((لقد أعتق بتزويجه – أي: النبي صلى الله عليه وسلم – إياها – جويرية بنت الحارث – مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأةً كانت أعظم بركةً على قومها منها)).
رابعًا: لو كانت عائشة تكره جويرية بنت الحارث ما ذكرت هذا الحديث في مناقب جويرية؛ [حديث حسن، مسند أحمد، ج: 43، ص: 384، حديث: 26365].
الشبهة الثانية عشرة:
قال الطاعنون:”كانت عائشة تسيء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم”، واستدلوا على ذلك بالحديث الآتي:
روى أبو يعلى الموصلي عن عائشة قالت: ((كان متاعي فيه خِفٌّ، وكان على جمل ناجٍ، وكان متاع صفية فيه ثِقَلٌ، وكان على جمل ثَقالٍ بطيء يتبطَّأ بالركب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حولوا متاع عائشة على جمل صفية، وحولوا متاع صفية على جمل عائشة؛ حتى يمضيَ الركب، قالت عائشة: فلما رأيت ذلك، قلت: يا لَعبادِ الله، غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أمَّ عبدالله، إن متاعك كان فيه خِفٌّ، وكان متاع صفية فيه ثقل، فأبطأ بالركب، فحوَّلنا متاعها على بعيرك، وحولنا متاعكِ على بعيرها، قالت: فقلت: ألستَ تزعم أنك رسول الله؟ قالت: فتبسم، قال: أو في شكٍّ أنتِ يا أمَّ عبدالله؟ قالت: قلت: ألستَ تزعم أنك رسول الله، فهلَّا عدلتَ؟ وسمعني أبو بكر وكان فيه غَرْبٌ – أي: حِدَّة – فأقبل عليَّ، فلطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلًا يا أبا بكر، فقال: يا رسول الله، أما سمعت ما قالت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغَيْرَى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه))؛ [مسند أبي يعلى، حديث: 4670].
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: هذا الحديث ضعيف، ولا تقوم به حجة، وهو في [سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني، حديث: 2985].
ثانيًا: لو افترضنا صحة هذا الحديث، فإن عائشة هي التي روته، وقد اعترفت بهذا الخطأ، وتابت منه، بدليل أنها ذكرت هذا الحديث.
ثالثًا: النبي صلى الله عليه وسلم قد التمس لعائشةَ العذرَ بسبب غيرتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه)).
واستدل الطاعنون أيضًا بالحديث الآتي:
روى النسائي في السنن الكبرى عن النعمان بن بشير قال: ((استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عاليًا، وهي تقول: والله قد علمت أن عليًّا أحب إليك من أبي، فأهوى إليها أبو بكر ليلطمها، وقال: يا ابنة فلانة، أراكِ ترفعين صوتكِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر مغضبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، كيف رأيتِني أنقذتكِ من الرجل؟ ثم استأذن أبو بكر بعد ذلك، وقد اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة فقال: أدخلاني في السلم، كما أدخلتماني في الحرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا))؛ [حديث صحيح، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، حديث: 2901].
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
أولًا: عائشة رضي الله عنها ليست معصومة من الخطأ، وقد تابت من ذلك.
ثانيًا: النبي صلى الله عليه وسلم قد عذر عائشة، بدليل أنه لم يعاتبها على قولها، بل أمسك أبا بكر؛ حتى لا يضربها.
ثالثًا: اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة بعد هذه الحادثة مباشرة، وهذا دليل على عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة.
الشبهة الثالثة عشرة:
قال الطاعنون: “زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أحدث صراعًا بين عائشة بنت أبي بكر وزينب بنت جحش؛ مما يدل على سوء أخلاق عائشة”.
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: إن الله تعالى هو الذي زوَّج زينب بنت جحش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تعترض عائشة على أمر الله تعالى؟
قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37].
ثانيًا: كانت عائشة تغار على النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وذلك أمر طبيعي يحدث بين زوجات الرجل الواحد، وليس في ذلك مطعنٌ على الصديقة عائشة.
روى مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ((أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذِنَ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنَنِي إليك يسألْنَكَ العدلَ في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي – أي: نالت مني – فاستطالت عليَّ، وأنا أرقب – أنظر – رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه، هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعتُ بها لم أنْشَبْها – أي: لم أمهلها – حتى أنْحَيْتُ عليها – أي: قصدتها – قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها ابنة أبي بكر؛ أي: هذه الفصاحة والفطنة من ذاك))؛ [مسلم حديث: 2442].
ثالثًا: مما يرد على هذا الطعن حُسنُ موقف الصديقة عائشة ليلة بناء النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش.
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بُنيَ – الدخول بالزوجة – على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيًا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدًا أدعو، فقلت: يا نبي الله، ما أجد أحدًا أدعوه، قال: ارفعوا طعامكم، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك؟))؛ [البخاري حديث: 4793].
رابعًا: كانت الصديقة عائشة تثني على زينب بنت جحش.
- روى مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ((أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تساميني – أي: تساويني – منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرَ امرأةً قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل روى مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسرعكن لِحاقًا بي أطولكن يدًا، قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، قالت: فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق))؛ [مسلم حديث: 2452].
الشبهة الرابعة عشرة:
قال الطاعنون: “لقد اغتابت عائشة بن أبي بكر صفية بنت حيي بن أخطب، وهذا دليل على سوء خلقها”؛ فقد روى أبو داود عن عائشة قالت: ((قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبُك من صفيةَ كذا وكذا؛ تعني: قصيرة، فقال: لقد قلت كلمةً لو مُزجتْ بماء البحر لمزجتْهُ؛ أي: خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه؛ لشدة قبحها))؛ [حديث صحيح، صحيح أبي داود للألباني، حديث: 4080].
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: من عقيدة أهل السنة والجماعة أننا لا نعتقد العصمةَ لأحدٍ من الناس إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة رضي الله عنها تخطئ وتصيب، وقد أخطأت في هذا القول، ولكنها قد تابت منه؛ بدليل أن هذا القول لم يتكرر منها بعد هذا الموقف.
ثانيًا: هذا الكلام قد صدر من عائشة رضي الله عنها نتيجة الغيرة، وهو أمر قد يحدث بين زوجات الرجل الواحد.
ثالثًا: النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن لعائشةَ أن هذا القول غِيبةٌ محرمة، وقد استجابت لذلك رضي الله عنها.
الشبهة الخامسة عشرة:
قال الطاعنون: “إن عائشة بنت أبي بكر الصديق خدعت أسماء بنت النعمان الجونية، فقالت لها: إن أردت أن تحظي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتعوَّذي بالله منه، فطلَّقها النبي صلى الله عليه وسلم”.
الرد على هذه الشبهة:
الرد من عدة وجوه:
أولًا: روى ابن سعد وغيره عدة روايات خاصة بهذه القصة، وسوف نذكر روايتين منهما:
- روى ابن سعد من طريق محمد بن عمر الواقدي، قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: ((تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان، وكانت من أجمل أهل زمانها وأشبَّهُ، قال: فلما جعل رسول الله يتزوج الغرائب، قالت عائشة: قد وضع يده في الغرائب، يوشكن أن يصرفن وجهه عنا، وكان خطبها حين وفدت كندة عليه إلى أبيها، فلما رآها نساء النبي صلى الله عليه وسلم حسدْنَها، فقلن لها: إن أردت أن تحظي عنده، فتعوذي بالله منه إذا دخل عليكِ، فلما دخل وألقى الستر، مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: أمِنَ عائذ بالله، الحقي بأهلكِ))؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 8، ص: 145].
- روى ابن سعد والحاكم عن أبي أسيد الساعدي وكان بدريًّا، قال: ((تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصةُ لعائشة: أخضِبيها أنتِ، وأنا أمشِّطها، ففعلتا، ثم قالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك، فلما دخلت عليه، وأغلق الباب وأرخى الستر، مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بكُمِّهِ على وجهه، فاستتر به، وقال: عذتِ بِمَعاذ ثلاث مرات، قال أبو أسيد: ثم خرج إليَّ فقال: يا أبا أسيد، ألحقها بأهلها، ومتِّعْها بِرازِقِيَّيْنِ – ثياب بيض طوال من الكتان – فكانت تقول: ادعوني الشقية))؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد (ج: 8، ص: 145)، مستدرك الحاكم (ج: 4، ص: 37)].
ثانيًا: هذه الروايات موضوعة؛ لأن مدارها حول محمد بن عمر الواقدي، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبيه، وأبي صالح، وسوف نذكر أقوال العلماء فيهم.
(1) قال الذهبي: “محمد بن عمر الواقدي: لم أسُقْ ترجمته هنا؛ لاتفاق العلماء على ترك حديثه”؛ [تذكرة الحفاظ للذهبي، ج: 1، ص: 254، رقم: 334].
وقال ابن حجر العسقلاني: “محمد بن عمر الواقدي متروك”؛ [تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، ج: 1، ص: 498، رقم: 6175].
(2) هشام بن محمد بن السائب الكلبي: قال الدارقطني عنه: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة؛ [لسان الميزان لابن حجر، ج: 6، ص: 196، رقم: 700].
وقال الذهبي: “هشام بن الكلبي الرافضي: أحد المتروكين، ليس بثقة؛ فلهذا لم أُدخِلْه بين حفاظ الحديث”؛ [تذكرة الحفاظ للذهبي، ج: 1، ص: 250، رقم: 326].
(3) محمد بن السائب الكلبي: قال الدارقطني عنه: متروك الحديث، وقال ابن حبان: وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه؛ [الضعفاء والمتروكون لابن الجوزي، ج: 3، ص: 62، رقم: 2898].
(4) أبو صالح: قال ابن الجوزي عنه: “أبو صالح لم يَرَ ابن عباس، ولا سمع منه، لا يحل الاحتجاج به”؛ [الضعفاء والمتروكون لابن الجوزي، ج: 3، ص: 62].
رابعًا: الروايات الصحيحة لهذه القصة تظهر براءة عائشة وسائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطعن.
- روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ((أن ابنة الجون لما أُدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عُذْتِ بعظيمٍ، الحقي بأهلكِ))؛ [البخاري، حديث: 5254].
- روى الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: ((ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها، فأرسل إليها فقدمت، فنزلت في أُجُمِ بني ساعدة – بناء يشبه القصر – فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاءها، فدخل عليها فإذا امرأة منكِّسة رأسها – مائلة برأسها إلى الأرض تنظر إليها – فلما كلمها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد أعذتكِ مني، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبكِ، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك؛ تريد أنها كانت شقية))؛ [البخاري حديث: 5637، مسلم حديث: 2007].
- (3) روى البخاري عن أبي أسيد رضي الله عنه، قال: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له: الشَّوط، حتى انتهينا إلى حائطين، فجلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا ها هنا، ودخل، وقد أُتيَ بالجونية، فأُنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايَتُها حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هبي نفسَكِ لي – زوجيني نفسكِ – قالت: وهل تَهَبُ الملكةُ نفسَها للسُّوقة – الواحد من الرعية؟ قال: فأهوى بيده – أمالها عليها – يضع يده عليها لتسكن – لتهدأ وتطمئن نفسها – فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذتِ بِمَعاذ، ثم خرج علينا، فقال: يا أبا أسيد، اكسُها رازِقِيَّتَيْنِ – ثياب بيض طوال من الكتان – وألحقها بأهلها))؛ [البخاري، حديث: 5255].
ختامًا:
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.