التضليل الإعلامي والوعي المعلب
هذا هو عنوان الفصل الأول من كتاب “المتلاعبون بالعقول” لمؤلفه الأمريكي هربرت شيللر، الذي كان أستاذاً لمادة “وسائل الاتصال” بجامعة كاليفورنيا، وغيرها من الجامعات.
تحدثت سابقاً عن هذا الكتاب ووعدت القارئ الكريم أن أرجع إليه مرة أخرى لأهميتّه، وهأنذا أفي بوعدي.
قال المؤلف في مقدمته:
يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسسٍ لعمليةِ تداولِ (الصورِ والمعلوماتِ)، ويشرفون على معالجتها، وتنقيحها، وإحكامِ السيطرة عليها. تلك الصور والمعلومات التي تُحدّد معتقداتِنا، ومواقفَنا، بل وتحدّد سلوكنا في النهاية. وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكارٍ وتوجّهاتٍ لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي فإنهم يتحوّلون إلى (سائسي عقول)…
إن تضليل عقول البشر هو – على حدّ قول باولو فرير – (أداة للقهر). إنه يمثل إحدى الأدوات التي تسعى (النخبة) من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة.
إن امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها متاحٌ لمن يملكون رأس المال. والنتيجة الحتمية لذلك هي أن تُصبح محطات الإذاعة، وشبكات التلفزيون، والصحف، والمجلات، وصناعة السينما، ودور النشر مملوكةً جميعاً لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية. وهكذا يصبح الجهاز الإعلامي جاهزاً تماماً للاضطلاع بدور فعال وحاسم في العملية التضليلية.
إن فهم آليات الصناعة الثقافية الأمريكية أصبح ضرورةً ملحة؛ فمنتجاتُ مبتدعات هذه الصناعة يتمّ إنجازها وَفْقاً لمواصفاتٍ محدّدة، وبمقوّماتٍ تمّ اختبارها عملياً. ويُشار على (المشاهدين)، والمستمعين، والقراء، (داخل البلاد وخارجها)، أن يعوّدوا أنفسهم على هذه السمّات المميزة. إلا أنه يتعيّن أن نلاحَظَ أنّ هذا التعوّد أو (التعويد) يمكن في ظروف معينة أن يُلحق الضرر بصحتّكم العقلية!!.
هذا بعض ما جاء في المقدمة. والكتاب زاخر بالمعلومات التي تغيّرت تفاصيلها وإحصائياتها كثيراً لقدم تاريخ طباعته، لكن الأُطُرَ العامة فيه لم تتغيّر فيما أظن. ونحن – على أي حال – لا نأخذ كل ما نقرأ بالتسليم. لكننا نحاكمه في ضوء الواقع، وفي ضوء الاستماع إلى وجهات نظر أخرى مخالفة.
وسأقتطف من مواضع متفرقة من الكتاب بعض ما يناسب المقام حسب اجتهادي:
• تصاب المجموعات، والشركات ذاتُ النفوذ الاقتصادي القوي بتوترٍ بالغ إذا ما تمّ لفتُ الأنظار للممارسات الاستغلالية التي تشارك فيها!.
• في أمريكا يحوّل النظام التنافسي الأخبار إلى سلع، ويتحقق الامتياز لمن يسبق الآخرين في الحصول على تلك السّلعة السريعة التلف (أي: الأخبار) وبيعها للمستهلك. ومن الأمثلة النموذجية لذلك حالة (جاك أندرسون)، وهو كاتبُ عمودٍ حقّق نجاحاً واسعاً، وسجّل انتصاراتٍ صحفيةً عديدة نالت شهرة واسعة.
فقد انساق إلى توجيه العديد من التهم على الهواء، ودون وثائق، ضد ثوماس ايجلتون الذي كان يخوض معركته من أجل البقاء ضمن لائحة مرشحي الحزب الديموقراطي عام 1972م لمنصب نائب الرئيس. وعند مواجهته بعدم صحة معلوماته، وبعد أن أضرّ بايجلتون ضرراً بالغاً، اعتذر أندرسون بالوضع التنافسي، فلو أنه لم يشرع هو في الاتهام لسبقه إلى ذلك صحفي آخر!!!.
• عند وقوع أزمة فعلية، أو كاذبة، ينشأ جوٌّ هستيريٌ محموم بعيدٌ تماماً عن المعقولية. ويؤدي الإحساس الزائف بالطابع الملحّ للأزمة المترتب على الإصرار على فورية المتابعة، يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع.. ونتيجةً لذلك تضعف القدرة على التمييز بين الدرجات المتباينة للأهمية.. (على أن الأحداث المهمة يحتاج استيعابها إلى مدة كافية من الزمن)، وليس مما يسهّل فهم هذه التطورات أن تنقل الأقمار الصناعية رسائل الأخبار (كل بضع ثوانٍ)، فالانشغال التامّ باللحظة يدمّر الروابط الضرورية بالماضي.
أقول: وبالحاضر والمستقبل، ويضعف قدرة العقل على اتخاذ القرارات الحكيمة التي لا يتبيّن خطؤها، إلا بعد فوات الأوان!.
• لقد أصبح (حَجْبُ المعلومات) أكبرَ أداةٍ للسيطرة والتحكم داخل الحكومة نفسها. يقول جورج ريدي، السكرتير الصحفي السابق للرئيس ليندون جونسون: “من الآن فصاعداً ستجدون أن جانباً كبيراً من النشاط الفعلي للحكومة قد تركز داخل البيت الأبيض نفسه حيث يجري حجبه من خلال الامتياز التنفيذي”. ثم يمضي متحدثاً عن الصعوبات التي تتعيّن مواجهتها فيما يتعلّق بالحصول على المعلومات الصحيحة.
• يقول جون هنري مارتن في شهادته أمام إحدى لجان الكونجرس، وكان حينذاك مراقباً عاماً للمدارس في ولاية نيويورك:”إن النشاط التجاري الصناعي الكبير قد قرر أن تصبح (صناعة المعرفة) نشاطاً مربحاً. كما أن مركز الثقل بالنسبة للتغيير التعليمي ينتقل الآن من مواضع السلطة القديمة -: هيئات التدريس، ومكتب المراقب العام – إلى حاشية السلطة التنفيذية”.
• وتحت عنوان: هل تقدم استطلاعات الرأي حقائق موضوعية؟ يقول المؤلف:… نؤكد أن إجراء استطلاعات للرأي العام حول قضايا اجتماعية وسياسية بحتة في ظل النماذج القائمة من نشر المعلومات المجزأة في الولايات المتحدة، وفي أماكن أخرى عديدة، يمكن اعتباره أكثر التحايلات انطواءً على الخداع. فإذا كان الأفراد يجدون أنفسهم في واقع ينظمه لهم جهازٌ للوعي بالمدرسة والمنزل، فما هي الجدوى التي يمكن أن تنطوي عليها إجاباتهم عن أسئلة تزيد من اختزال السياق العام للقضية المطروحة؟
وبعد: فأريد أن أختم مثال اليوم بالتعليقات التالية:
- هذا كلام ليس له علاقة بما يجري اليوم على الساحة الأمريكية لأنه قد كتب عام 1974م.
- صحيحٌ الاستشهاد بقوله تعالى: (وشَهِدَ شاهدٌ من أهلها)، لأن هربرت شيللر أمريكي، لكننا (أنا وأكثر القراء الكرام) لا نستطيع أن نتأكد تماماً من صحة المعلومات التي أوردها، مع أنها تبدو منطقية.
- لا أظن أن الصورة التي يخرج بها قارئ الكتاب صحيحةٌ تماماً – وإن كانت صحيحة جزئياً -، لأن هذا يعني غياب الحقيقة، وأن نسبة ضئيلة جداً من الناس تضحك على مئات الملايين من البشر الذين عندهم ذكاء، وعقول، وثقافة، ومال، و.. إلخ.
فالهدف – إذن – من هذا المقال قدحُ زناد الفكر لنكون أقرب ما يمكن من الحقائق. والله تعالى أعلم.