الاستشراق قراءة نقدية
يؤكد مؤلف الكتاب، الباحث د. صلاح الجابري، أن الاستشراق تعرّض لانتقادات عديدة من طرف مفكرين وباحثين في البلدان العربية والإسلامية، خصوصاً بعد أن أصدر المفكر الراحل إدوارد سعيد كتابه الشهير عن الاستشراق في أواخر سبعينيات القرن العشرين المنصرم.
ويعتقد المؤلف أن إدوارد سعيد انطلق من أنه إذا كان الاستشراق قد طرح بنيته المعرفية حول الشرق، وقد اكتملت هذه البنية، فهل يمكن تفكيكها بآليات العقلانية المستنبتة داخل الثقافة الغربية نفسها؟ ويجزم بأن سعيد نجح نجاحاً منقطع النظير.
واكتشف أمراً خطيراً وهو أن الصورة التي كونها الاستشراق عن الشرق، وهمية تمثيلية. ولولا إلمام سعيد وآليات الثقافة الغربية المعاصرة اللغوية واللسانية والأنثروبولوجية والتاريخية، لما استطاع أن يقدم هذا الكشف.
أما سؤال المؤلف فيتمحور حول إمكانية تفكيك البنية المعرفية للاستشراق من منطق رؤية نقدية إسلامية، مع توخي أقصى درجات الموضوعية، وذلك باتباع منهجية، تتمثل في محاولة تسويغ الوحي داخل التاريخ.
حيث لا يجد المؤلف أي تناقض، وفقاً للمسلمات الفلسفية، في قيادة الوحي للحياة، أو في تحريكه لقوى التاريخ المختلفة، يرى في هذا معنى الحركة الجوهرية التي ينفرد بها الفكر الإسلامي في تعليل الواقع التاريخي والبشري.
وقد تعامل المخيال الغربي مع الشرق وفق أسلوب التمثيل، حيث يعبر التمثيل عن محاكاة صور ورؤى مسبقة في الذهنية الغربية، وليس من وظيفة التمثيل أن يعكس واقعا موضوعيا، أي لا يمثل التمثيل استحضاراً للشرق، بقدر ما هو إقصاء له وإلغاء، وإعادة إنتاج لشرق متخيل، يشبع الرغبة الغربية والمقموعات التاريخية. فالشرق الذي يتعامل معه الغربي هو شرق مخلوق ذهنياً وإسقاطيا، ومفروض على واقع خارجي.
وقد جرى التعامل مع الشرق منذ نهاية القرن الثامن عشر وفق منطق التمثل، حيث لا يتم التعامل مع واقع موضوعي، بل مع واقع افتراضي، وكما بيّن إدوارد سعيد فإنه مهما فعل الشرق وغير وقدم، فهو ليس إلا ذلك الهجين المخلق عبر مخيلة المستشرق، والمكتسب كل خصائص الصورة البشعة المرسومة عنه تاريخيا.
ولقد انطوى فهم المشرق الإسلامي بالنسبة إلى الغرب على محاولة تحويل تنوعه إلى جوهر وحداني غير قابل للتطور، وقلب أصالته إلى نسخة منحطة من الثقافة المسيحية، ومسخ شعوبه إلى كاريكاتورات مثيرة للرعب.
وبخصوص علاقة الاستشراق بالأنثروبولوجيا، يرى المؤلف أن موضوع الاستشراق هو الشرق، نظام حياته، ثقافته، لغته، دينه، علمه، فنه… إلخ. وهذه هي عينها الموضوعات التي عنت بتحليلها الإنثروبولوجيا، وبالتالي فإن الحقلين لا ينفصلان عن الأيديولوجيا التي تشكل ذهنية الباحث الغربي. ففي الأنثروبولوجيا الكلاسيكية كانت المرجعية المعيارية في الأحكام هي المركزية الإثنية الغربية، وبالمثل؛ كان الحال في الاستشراق.
وإذا كانت الأنثروبولوجيا قد انتهت إلى وضع جديد، علمي، يسعى إلى التخلص مما علق بها من اتهامات بمساندة الامبريالية الغربية، فالأمر نفسه حصل للاستشراق، وقد حاول التنصل من مساندة الامبريالية الغربية والنظرة المتحيزة.
لكن الأمر مختلف بالنسبة للأنثروبولوجيا؛ فهي بحث تجريبي ميداني، يمكن تصور دخولها ميدان البحث العلمي الموضوعي في دراسة أصول الشعوب وثقافاتها بحياد وتجرد، وهذا المستوى يصعب تصوره بالنسبة للاستشراق؛ لأنه مرتبط بالإيديولوجيا، ارتباطا لا يفصم.
ويعترض المؤلف على دعوة المستشرقين وتلامذتهم إلى تناول التراث الإسلامي بصورة تجرده من صفة القداسة غير الواضحة. وبحسب المنهجية التي يقترحها المؤلف، لا يجري رفض العوامل المادية التي يعول عليها المستشرق في خلق الحضارة والتاريخ، لكنها لا تكفي لتحقيق التغيير والنهوض الحضاري، وتحتاج ـ في أنماط معينة من الحضارة ـ إلى دفع وتحريك من مصادر عليا، كالعقل والوحي.
والمصدر الأول، المادي، هو مصدر عام يمكن أن يكون أساسا لعديد من الحضارات التي ظهرت في التاريخ، ومنها الحضارة الغربية المعاصرة، وهو الأسلوب الذي يميز المشروع الفكري للعلمانية، بوصفها حركة عقلانية تعطي قيمة كبرى للإنسان والطبيعة بطريقة تعزله عن أي اتصال بعالم غيبي أو إلهي.
ويعتبر المؤلف أن الوحي في التاريخ هو ليس كالوحي في السماء، لأن الوحي في التاريخ يوصف بمجموعة الجهود البشرية لصياغة نظام الحياة وفقاً لمبادئ محددة، يخضع للسنن التاريخية. ولذلك يمكن دراسته وفق المنهج العلمي. أما الوحي ؟ كما هو في السماء ؟
فلا يمكن أن يمسك به البحث العلمي، ولا يمكن طرحه كموضوع قابل للإدراك. والجهد البشري سواء الذي بذله الرسول صلى الله عليه وسلم هو عبارة عن أنسنة الوحي، ومن دون هذه الأنسنة لا يمكن أن يتحول الوحي إلى مبادئ عمل.