حلقة اليوم هي مناقشةٌ لمقولةٍ شائعة، خلاصتها: (لا تخلطوا الإيمان بالعلم التجريبي)؛ فالإيمان يَقُوم على قناعاتٍ غيبيَّة، بينما العلم التجريبي يقوم على علومٍ مادِّيَّة.
دعونا نناقش هذه العبارات: هل بالفعل العلم التجريبي مادِّيٌّ، ويجب عدم خلطه بالإيمان؟ نحن في حلقة اليوم نحاول أن نرسم العلاقة بين الإيمان بالخلق، والمادِّيَّة، والعلم التجريبي.
نحن في حلقة اليوم نحاول أن نرسم العلاقة بين الإيمان بالخلق، والمادِّيَّة، والعلم التجريبي. دعونا بدايةً نُعرِّف مصطلحات:
الإيمان بالخلق: هو الإيمان بأنَّ هناك خالقًا خَلَق الكون والحياة.
المادِّيَّة: تعني استثناء الغيب -أيَّ شيءٍ خارج إطار المادَّة-، استثناؤه تمامًا من تفسير الكون والحياة، بما في ذلك استثناء وجود خالق للكون والحياة.
والعلم التجريبي يعني العِلم التَّجريبي الرَّصدي، لا أختصره بالعِلم لأنَّنا سنبرهن على أنَّ العلم التجريبي ليس الشَّكل الوحيد للعِلم؛ فالعِلم أعم والعلم التجريبي شكلٌ من أشكاله.
العلم التجريبي يشمل الاختراعات والاكتشافات النَّافعة للإنسان في الصحَّة، والاتصالات، والنقل، والعمران، وغير ذلك.
تعالوا نرى على ماذا يعتمد العلم التجريبي، ثُمَّ نرى هل هذه الأشياء التي يَعتمِد عليها موجودة في منهج الإيمان بالخلق، أم في المادِّيَّة؟ لنحكم على العبارات التي ذكرناها.
أوَّلًا: لا شكَّ أن العلم التجريبي يعتمد على العقل، العقل الذي يحلِّل المعلومات، يستنتج، يتوقَّع، يربط، يصوغ الفَرَضيَّات، يحكم على أشياء بالصِحَّة والبطلان.
ثانيًا: العلم التجريبي يعتمد على مُسَلَّماتٍ (بَدَهِيَّات): أمور لا يختلف عليها العقلاء، هذه البَدَهِيَّات ينطلق منها العقل في الرَّبط والتَّوقع والاستنتاج، ولذلك تُسَمَّى الضَّرورات العقليَّة أو الأوَّليَّات العقلية.
ثالثًا: العلم التجريبي يعتمد على تراكُم المعرفة؛ أي على ما يُخبِر به الباحثون قبلنا من نتائج أبحاثهم واكتشافاتهم.
رابعًا: العلم التجريبي يعتمد على الحِسّ، الذي يُدخِل مدخلات إلى دعونا نسميها (مصادر العلم التجريبي):
العقل.
والمُسلَّمات البَدَهيَّة مثل أن لكل شيءٍ حادث في الكون سببا.
والخبر: يعني الأبحاث السابقة.
والحِسّ والذي يشمل رصد الأشياء أو رصد آثارها.
في المقابل: المادِّيَّة ترفض هذه المقدِّمة (أنَّ الكون والحياة والإنسان هي مخلوقاتٌ لخالقٍ)، وتفترض المادِّيَّة بديلًا عن ذلك أنَّها نتيجة الصُّدفة.
فحسب المادِّيَّة: الدماغ وأدوات الإدراك جاءت بالصُّدفة، وبالتَّالي فالعقل جاء بالصُّدفة دون قصدٍ من أحد.
داروين “Darwin” نفسه طعن في مصداقية العقل، حيث قال في مراسلاته مع ويليام غراهام “William Graham”: “ينتابني دائمًا شكٌّ فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان -والذي بدوره تطوَّر من عقول حيوانات أدنى- تتمتَّع بأيَّ قيمة أو تستحقُّ أدنى ثقة”.
وستجد مثل كلامه هذا في ملحق كتابه (أصل الأنواع طبعة Ontario: Broadview) حيث يصف عقل الإنسان بأنَّه “تَطوَّر عن عقلٍ كعقل أدنى حيوان”، وعليه يُشكِّك في مصداقيته.
القواسم المشتركة بين الأبحاث العلمية هي: استنتاج وتحليل عقلّي، الانطلاق من ضروراتٍ عقليَّة، رصد علاقاتٍ سببيَّة، اعتماد أخبار آخرين بعد التوثُّق من مصداقيتها بناءً على أبحاثهم، افتراض أنَّ كلَّ شيءٍ يسير بنظام، حِسّ، تجريب، استنتاج وجود أشياء من رصد آثارها، وهذه كلُّها لا قيمة لها إلا في منهج الإيمان بالخلق الذي تسلم فيه مصادر العلم التجريبي هذه وتتناسق فيما بينها. لذلك فعبارة “لا تخلطوا الإيمان بالعلم التجريبي” عبارةٌ مضحكةٌ لشِدَّة جهلها؛ فالعلم التجريبي ابن الإيمان، لا يستغني عنه أبدًا.
المادية التي تستثني وجود خالق عليمٍ حكيمٍ من تفسير الكون والحياة تهدم قيمة العقل ومصداقيته تمامًا، وبالتالي تهدم قيمة الاستنتاجات والتأمُّلات والتحليلات التي يمارسها العقل في إنتاج العلم التجريبي.
وهذا وحده كافٍ في إثبات أنَّ العلم التجريبيَّ لا يمكن أبدًا وصفه بأنه ماديّ، فهو يحتاج إلى العقل الذي لا قيمة له إلا في منهج الإيمان بالخلق.