أديان وفرق ومذاهبتعزيز اليقينمقالات

الإسلام (مقال نادر)

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ﴾ [آل عمران: 19].

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

يسألونك عن الإسلام، قل هو الدين الأزلي الأبدي، القديم السرمد، الجديد الخالد، الذي رضيه الله لعباده منذ عمروا الأرض إلى أن تقوم الساعة. هو السلسلة الذهبية المتماسكة الحلقات: أمسك بأحد طرفيها آدم أو الشر وأول الأنبياء، وأمسك بظرفها الآخر محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين، وقام الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم من بينهما يمسك كل منهم بحلقة من حلقاتها، وهم إخوان متناصرون وأحباء متعاونون؛ يوصي أولهم بمتابعة آخرهم، ويدعو سابقهم إلى طاعة لاحقهم.

هو الطود الراسخ والبناء الشامخ، وضع أساسه آدم بأمر ربه، وصار كل نبي من ذريته يأتي من بعده يضيف إليه لبنة أو يرفع من بنائه سافاً، أو يصف مدماكاً، وما زال ينموا بنمو العقل البشري، ويرقي برقيّه، ويكمل بكماله؛ ويضاف إليه ما يوائم استعداده؛ حتى جاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فأكمل البناء وزخرفه وجمّله ولم يدع ثغرة إلا سدها، ولا نقصاً إلا كمله؛ ولا وسيلة من وسائل الراحة والنعيم إلا أعدها، ولا حاجة مما يتمم سعادة الدنيا والآخرة إلا وفّرها، فحقت كلمة ربك. ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3].

••••

قال سائلي: هذا كلام لو كتبه الشادون في الأدب لسُرَّ أساتذة البيان الذين يروقهم أن يتصيد تلاميذهم روائع الأساليب من ههنا ومن هنا، ولكنه – على حلاوة جرسه وانسجام موسيقاه – لا يعجب العلماء الذين ألِفوا ألا يقبلوا قولاً لا يؤيده دليل، ولا يسيغوا حكماً لا يدعمه البرهان.

قلت: أما الدليل فعلى طرف التمام. اتل قول الله تعالى ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وتدبره تعلم أن الإسلام هو الدين الذي يقبله الله تعالى ويرضاه لعباده، ويدعوهم إلى اعتناقه ويصرفهم عن قيره؛ ولا يرضى غيره دينا، وهو دين الأنبياء والمرسلين كافة. يدلك على ذلك قول الله تعالى ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، فهذا القول الحكيم يشعرك أن الإسلام الذي شرعه الله تعالى لنا هو ما وصى به الرسل السابقين؛ وأخص ما فيه إقامة الدين والاستقامة عليه وإسلام الوجه لله، والاجتماع على طاعته.

وتدبر قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 51-52]، تدرك أن أتباع الرسل جميعاً أمة واحدة، ولا تكون الشعوب المختلفة أمة واحدة إلا إذا جمعتها آصرة واحدة؛ ووشجت بها قرابة قريبة، وألفت وتؤلف بين المختلفين رابطة الدين، ولا أدل على ذلك من الأمة الإسلامية في صدر الإسلام قبل أن تتفشى الشعوبية بين المسلمين، فلقد كان المسلم الصيني أخاً للمسلم الأندلسي على ما بينهما من بُعد الدار، وشط المزار.

وهاك نصوصاً أصرح دلالة وأوضح بياناً. قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67]، وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، وقال تعالى ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].

فهذه النصوص شاهدة بأن الإسلام دين الأنبياء والرسل جميعاً دعوا إليه أممهم وأوصوا بنيهم بالاستمساك به والحرص عليه، وابتهلوا إلى الله ضارعين ألا يميتهم إلا وهم به مستمسكون.

وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فتمت برسالته النعمة؛ وسما التشريع إلى القمة، ونزل القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، دعا إلى الإيمان بالأنبياء والرسل جميعاً حتى لا يجد ذو دين سماوي غضاضة في الانضواء تحت لوائه؛ والاستظلال برايته. قال تعالى ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].

فالله واحد في عنصره وجوهره وأصله، وما بعث الله رسولاً إلى أمة إلا دعاها دعوة عازمة لا هوادة فيها إلى الإيمان بالله وحده وإخلاص الدين له، وإسلام الوجه إليه، وتزكية النفس بطاعته، وإلى الإيمان باليوم الآخر والاستعداد له، وإلى الاستمساك بالخلق الكريم والحرص عليه؛ وإلى الإيمان بالوحي وتصديق النبيين وما جاءوا به من كتاب وحكمة؛ وإلى كف الشر واجتناب العدوان، والتنزه عن الخبائث.

تلك هي أصول الإسلام، أي أصول كل دين سماوي حق؛ وكل دين يدعو إلى ما يجافي هذه الأصول منكر وباطل وزور.

اغتر فريق من أهل الكتاب بدينهم بعد أن نسخ الله فروعه بالإسلام، وتثبت أصوله وقوى دعائمه بالقرآن ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111]، فرد الله عليهم مقالتهم وكذب دعواهم وأدحض حجتهم بقوله تعالى ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111-112].

وإسلام الوجه لله أن تسلم زمامك لشرعه، وتلقي قيادك في يد كتابه، وتقتفي أثر رسوله؛ فحيث وجّهك توجهت، وحيث قادك انقدت، وما أمرك فعلت، وما نهاك اجتنبت. والإحسان أن تتقي الله حقا تقاته وأن تعبده كأنك تراه وذلك هو الدين الحق في أتم مظاهره وأجلى معانيه.

وما من نبي إلى أوصى أمته باتباع من يأتي بعده من الرسل حتى تتحقق الوحدة الدينية بين الأمم جميعاً، وبذلك أخذ الله العهد على النبيين حتى يسلّم كل منهم مشعل الهداية إلى من بعده، حتى إذا ختم الله المرسلين بخاتمهم صلى الله عليه وسلم جعل هذا المشعل في أيدي الطائفة الظاهرة على الحق التي يجدد بها الملة على رأس كل مائة حتى يبلغ الكتاب أجله ويرث الله الأرض ومن عليها.

قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 81-82].

لو أن كُتب الله ظلت سليمة لم تعبث بها يد التحريف ولم يحرف فيها الكلم عن مواضعه، لكان أهل الكتاب من أسرع الناس إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسبقهم إلى تأييده ونصره، عملاً بنصوص كتابهم ووفاء بميثاقهم، وحفظاً للعهد الذي أخذه الله عليهم؛ ولكن أحبارهم ورهبانهم أفسدوا عليهم أمرهم، وأضلوهم عن سواء السبيل.

أخذ الله العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتيه من الرسل مصدقاً لما معه، وأن يأخذ العهد على أمته أن تؤمن بالرسول الذي يأتيها مصدقاً لكتابها، وبذلك تتحقق الوحدة الدينية، وتنتقل الأمانة الكبرى في الأجيال.

قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].

ومن هذا تفهم السر في أن أولي العلم من أهل الكتاب بادروا إلى اعتناق الإسلام حين جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يجدونه مكتوبا ً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. وأولئك هم الذين قال الله فيهم: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 82-83].

قال محدثي: فإنك قد جلوت علينا ناحية مشرقة من نواحي الإسلام جديرة بأن تقفنا على حقيقته وتكشف لنا عن بعض فضله. ولو أن المسلمين وقفوا على حقيقة دينهم وفقهوا سره لاعتزوا بمكانهم منه، وحرصوا جهد طاقتهم على أن يعيدوا من عزه ما غبر، وأن يجددوا من مجده ما اندثر، ولكنه جوهرة ثمينة في كف من يجهل قدرها وينكر سرها.

ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور.

زر الذهاب إلى الأعلى