الأدلة على عدم جواز الترحم على غير المسلم بعد موته، مع رد شبهات المجيزين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
دائمًا ما تُثارُ قضيةُ الترحُّم على غير المسلم عند موته، عندما يموت إنسانٌ غيرُ مسلم له نِضالٌ معروفٌ ضد الظلم، أو جهادٌ مشهورٌ ضد البغي، أو يكون له من أعمال الخير ما سارت به الرُّكْبانُ، وتحدَّث به الزمانُ، فعندما يموت مثلُ هذا الإنسانِ يبدأ هناك كثيرٌ من الشفقة عليه، والتعاطُف معه، محبة أن يُنجيَه اللهُ من عذابِ جهنمَ؛ لجهاده المشكور وبِرِّه الموفور، فيبدأ كثيرٌ من المسلمين بالدعاء له بالرحمةِ والمغفرةِ وفي ظنِّهم أنَّ هذا نافِعُه، وأنه من الممكن أن يرحمه اللهُ؛ لما سلَف له من أعمالِ خَيْرٍ وبِرٍّ، وهم ما فعلوا ذلك إلا استعظامًا أنْ يُعذِّب اللهُ عز وجل مثلَه، مع ما له من كلِّ هذه الأعمال الجليلة، وفي غَمْرةِ هذا التعاطُفِ يَنْسَونَ أن الترحُّم على غير المسلم إذا مات لا يجوز؛ لأنه يُناقِضُ العقيدةَ، ويُصادِم القرآنَ، ولكنهم لا يأْبَهُون لهذا فيؤوِّلون آياتِ القرآن الكريم لتُوافِق ما ذهبوا إليه، ويَلْوُون أعناقَ النصوص لتُؤيِّد ما يتوهَّمُون أنه الصواب. وما ساقهم إلى ذلك إلا الشفقة والعطف.
ومن المسلمين من يذهب إلى الترحُّم على غير المسلم؛ بداعي إظهار أن الإسلامَ دينُ الرحمة، وأنه دينُ الإنسانية، وما فعلوا ذلك إلا لإرضاء أهل الأديان الأخرى، عندما رمَوا الإسلامَ بأنه دينُ الإرهاب والقسوة، ودينُ التطرُّفِ والعنف، فأرادوا أن يُبيِّنوا لهم خطأَ مزاعمِهم، وأن الإسلام يَسَعُ الجميعَ برحمته حتى الكافرُ به المعاندُ لآياتِه تسَعُه الرحمةُ، أليس الله هو القائل: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، والكافرُ شيءٌ من الأشياء؛ إذا تسَعُه رحمةُ اللهِ عز وجل، هكذا يقولون.
لكن عند الحقيقة نجد أنَّ هؤلاءِ وهؤلاءِ قد جانبَهم الصوابُ فيما ذهبوا إليه، وأن الترحُّمَ على غير المسلم لا يجوز، وهذا ما ذهب إليه كافةُ العلماء، والأدلةُ على ذلك كثيرةٌ، والبراهينُ عليه موفورةٌ، فمن هذه الأدلة:
- قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، فهذه الآيةُ دليلٌ قاطعٌ على عدم جواز الترحُّمِ على غير المسلم؛ لأن هذه الآية نزلت في نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمِّه أبي طالب1، ومن هو عمُّه أبو طالب؟ إنه الذي ربَّاه صغيرًا، وكفَلَه يتيمًا، واعتنى به شابًّا، فكان في مقام أبيه، واستمرَّ هذا البِرُّ من أبي طالبٍ إلى ما بعد بَعْثَتِه، فقد كان يحميه من أذى المشركين، ويَمنعه من عُدْوانهم، ومع كل هذه الأيادي البيضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، لما مات كافرًا نهاه اللهُ عز وجل أن يطلُبَ له المغفرةَ والرحمةَ، فكيف بمن هو دون أبي طالب من عامَّةِ غير المسلمين ولم يُقدِّموا للإسلام ورسولِ الإسلامِ ما قدَّمَه أبو طالب؟! ولو كان طلبُ الرحمةِ والمغفرةِ لغير المسلم جائزًا لكان أبو طالب أوْلَى الناسِ بها.
- سيدنا إبراهيم عليه السلام لما مات أبوه كافرًا تبرَّأ منه، بعد أنْ وعدَه أن يستغفرَ اللهَ عز وجل له، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114] لقد كان الوعدُ من إبراهيم بالاستغفار لأبيه حالَ حياته، وهذا جائزٌ عند كافة العلماء، بمعنى أن يهديه الله عز وجل للإيمان، فيغفر له الشركَ بعد أن يتوب منه، لكن لما مات كافرًا تبرَّأ منه، وانقطع عن الدعاء له، ولو كان الدعاءُ بالرحمة والمغفرة جائزًا بعد الموت لدعا إبراهيمُ عليه السلام لأبيه، ولم يُعلِنِ البراءةَ منه ومن كفره.
- وهذا نوح عليه السلام لما مات ولده كافرًا، عندما أبى أن يركب معه السفينة، فمات غرقًا، أخذَتْ نوحًا الشفقةُ على ولده، والعطفُ عليه، فنادى ربَّه أن يُنجيَه من العقاب، وأن يرحمه من العذاب، قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [هود: 45] هنا ردَّ اللهُ عز وجل عليه ردًّا حاسمًا: ﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46] يعني: لا تدعو له، ولا تأخذك شفقةٌ به، فهو ليس من أهلك على الحقيقة، وإنما أهلُكَ هُمْ مَنْ آمَنوا بكَ، وصدَّقُوا برسالتِكَ2، وهل هناك أغلى عند الوالد من ولده، فِلْذة من كبده، وقِطْعة من نفسه؟! ومع ذلك نهى اللهُ عز وجل نوحًا أن يدعو له؛ لأنه مات كافرًا غيرَ مؤمنٍ.
- إن الدعاءَ بالرحمة لغير المسلم بعد موته يُصادِم كثيرًا من آيات القرآن الكريم التي تجعل مصير الكافرين بالإسلام هو النار، فكيف يحكُم اللهُ عز وجل عليهم أنهم من أهل النار، وأنهم غير مرحومين، ثم يأتي أحدُهم- هكذا بكل هدوء- ليقول: إنَّ الترحُّمَ عليهم جائزٌ، ولا شيء فيه؟! اللهُ سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85] وجعل من لم يؤمن بالله ورسوله كافرًا مُعذَّبًا في جهنَّمَ وبئس المصيرُ، ﴿ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ﴾ [الفتح: 13]، إذًا الكافرُ بنصِّ القرآن الكريم هو من لم يؤمن بالله ورسوله؛ وعلى هذا فكُلُّ من ليس بمسلم فهو كافر، وحكَم اللهُ على الكُفَّار بأنَّ لهم نارَ جهنمَ خالدين فيها، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التغابن: 10]، والآياتُ كثيرةٌ جدًّا في توعُّد الكُفَّار بنارِ جهنمَ والخلودِ فيها، ثم يأتي من يضرب بكُلِّ هذه الآياتِ عُرْضَ الحائط، ويزعُم جاهلًا أو مُتعمِّدًا أنه يجوز الترحُّمُ على غير المسلم.
ولكن هناك بعض المتشابهات التي تَمسَّكَ بها من زعم جوازَ الترحُّمِ على غير المسلم، وظنُّوا أنها أدلةٌ قويةٌ على ما ذهبوا إليه، ولكن عند التحقيق نجد أنها لا ترقى إلى مستوى الأدلة، فمن ذلك:
- قوله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156] قالوا: إن رحمة الله عز وجل تسَع كُلَّ شيء، والكافرُ شيءٌ من الأشياء؛ إذًا ستَسِعُه رحمةُ الله. فلماذا تُحجِّرون واسِعًا، وتمنعون رحمةَ اللهِ من الكافر في الآخرة؟! ولو كان عند هؤلاء بعضٌ من التعقُّلِ والإنصاف لأكملوا الآية؛ لأن تكملةَ الآيةِ تُقرِّر تمامًا نقيضَ ما ذهبوا إليه، بل تُعَدُّ الآيةُ دليلًا قويًّا جدًّا على أن الكافرَ لا تنالُه رحمةُ اللهِ يومَ القيامة، والآيةُ كاملة هي: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 156، 157] فاللهُ عز وجل يُقرِّر أن الرحمة لا تنال إلا مَنِ اتَّبَع الرسولَ النبيَّ الأُمِّيَّ، وآمن به، والنبيُّ الأمِّيُّ هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ إذًا الآيةُ دليلٌ عليهم لا لهم، ولكن عندما يغيب العقلُ ويحضُر الهوى، تكون هذه هي النتيجة؛ الاستدلال بما ينقُض فكرتَهم، ويهدِم مَذْهبَهم.
- ومن المشتبهات التي تمسَّكوا بها، وحسِبُوها دليلًا لما ذهبوا إليه أن الرحمةَ غيرُ المغفرة، والمنهيُّ عنه عدمُ طلب المغفرة لغير المسلم، بمعنى مغفرة ذنب الكفر الذي اقترفه، أما الرحمة فتجوز؛ لأن الله عز وجل قد يرحَمُه بتخفيف العذاب عنه يومَ القيامة، حتى ولو لم يخرج من النار، هذه هي شُبْهتُهم، ولكن هي شُبْهةٌ واهيةٌ جدًّا، وتدُلُّ على خَلَلٍ في نمط التفكير والاستدلال، والردُّ على هذه الشُّبْهة من ثلاثةِ أوجُه:
- الأول: أن من يطلُب الرحمةَ لغير المسلم، إنما يقصِد ألَّا يُعذَّب مطلقًا في نار جهنَّمَ، وأن يكون مصيرُه إلى الجنة، وهذا هو أولُ ما يتبادَرُ إلى ذهن الداعي عندما يدعو لأي ميِّتٍ عمومًا، فالرحمةُ التي يقصِدُها دخولُ الجنةِ والنجاةُ من النار، ومن المُسْتبعَد جدًّا أن أيَّ إنسانٍ يدعو لميت بالرحمة يكون مقصودُه تخفيفَ العذاب عنه فقط يومَ القيامة، مع اعتقاده أنه من المعذَّبين في جهنم.
- الثاني: أن الله سبحانه وتعالى حكَم بعدم تخفيف العذاب عن الكافرين، وغيرُ المسلم كافرٌ بنصِّ القرآن الكريم، والدليلُ على عدم التخفيف قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [البقرة: 161، 162].
- الثالث: أن استعمالَ الرحمة والمغفرة في لغة القرآن الكريم غالبًا ما يكون بمعنًى واحدٍ؛ وهو النجاة من العذاب؛ لذلك يجعل اللهُ أحيانًا الرحمةَ في مقابل العذابِ، مثل قوله تعالى: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 54] وقوله: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ [العنكبوت: 21]، وأحيانًا يجعل المغفرةَ مقابلَ العذابِ مثل قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 129]، وقوله: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 40]؛ إذًا الرحمةُ والمغفرةُ في غالب استعمالات القرآن الكريم بمعنًى واحدٍ؛ وهو النجاةُ التي تقابلُ العذابَ؛ لذلك لما أراد ابنُ منظور في لسان العرب أن يُعرِّف الرحمةَ قال: “والرَّحْمَةُ: الْمَغْفِرَةُ “3.
- قالوا: إن الآياتِ التي تنهى عن طلب المغفرة لغير المسلم خاصةٌ بالمشركين، فأبو طالب عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو إبراهيم عليه السلام، وابن نوح عليه السلام كُلُّهم كانوا مشركين بالله عابدين للأصنام، ولو سَلَّمنا بعدم جواز الترحُّم عليهم، لم نُسلِّم لك في عدم جوازه لأهل الكتاب؛ لذلك لا مانع من الترحُّمِ على أهل الكتاب، خاصةً وأن الله عز وجل أباح التزوُّجَ منهم، فكيف يُحرِّم على المسلم أن يترحَّمَ على زوجته الكِتابيَّة، وهي زوجتُه أُمُّ أولادِه، ورفيقةُ حياته؟
- والجواب عن هذا: أنَّ كلًّا من المشركين وأهل الكتاب كُفَّارٌ بنصِّ القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 6]، فالمشركون مثلهم مثل أهل الكتاب في الكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكُلُّ من لم يؤمن بمحمدٍ فهو كافرٌ، وله عذابُ جهنمَ يومَ القيامة قال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ﴾ [الفتح: 13]، فها هو القرآن الكريم جعل المشركين وأهلَ الكتاب كُفَّارًا ومُخلَّدين في نار جهنمَ يومَ القيامة، ولم يُفرِّق بينهم، فكيف تأتي وتُفرِّق أنت بينهم، وتقول: المشركُ لا يجوز الاستغفار له، بينما يجوز لأهل الكتاب؟!
- قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] فلو كانت المغفرةُ والرحمةُ غيرَ جائزة للكافر، لما جعلها عيسى عليه السلام احتمالًا يجوز وقوعه من الله عز وجل، ولكن لما كانت محتملةً، ومن الجائز أن يرحمَهم اللهُ كما قال عيسى؛ إذًا يجوز الدعاء بالرحمة والمغفرة لغير المسلم.
- والردُّ على ذلك أن عيسى عليه السلام لم يكن في مقام طلب الرحمة لهم والاعتذار عن كُفْرهم، ولو كان الأمر كذلك لختم الآية بقوله: “وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم”، ولكن المقام مقامُ إظهارِ هَيْمَنةِ اللهِ عز وجل على خَلْقِه، وملكيته التامة لهم يوم القيامة، وأنه القادر عليهم فلا يُعجِزُه شيءٌ من أمرهم، فعيسى عليه السلام يُعلِن تبرُّؤه من كفرهم، ثم بعد ذلك يعلن مدى قوة الله وقدرته التامة على كل شيءٍ، وأنه نافذ التصرُّف في عباده، إما بتعذيبهم أو برحمتهم ومغفرة ذنوبهم؛ لذلك ختم الآية بقوله: ﴿ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ إذًا الآية ليست لطلب الرحمة لهم، وإنما لإظهار قدرة الله التامة عليهم، وتصرُّفه الكامل فيهم، ومن كان هذا شأنُه لا يجوز أن يُنسَب له الصاحِبةُ والوَلَد4.
- على أن بعض العلماء قد ذهبوا إلى أن الحوار الذي دار بين الله عز وجل وعيسى عليه السلام كان في الدنيا وليس يوم القيامة، فعيسى في السماء بعدما رفعه الله إليه، ولا مانع من أن تكون هذه المحاورة قبل يوم القيامة، وعلى هذا تكون احتماليةُ مغفرةِ الله لهم الواردة في الآية مقصودًا بها أن يتوبوا من كفرهم، فيتوب الله عز وجل عليهم، ويغفر لهم، وممن ذهب إلى هذا شيخُ المفسرين الإمام الطبري5، وعلى هذا فلا دليل لهم في هذه الآية على جواز الترحُّم على غير المسلم بعد موته؛ لتطرُّق الاحتمال أنها في الدنيا، والدليلُ إذا تطرَّقَ إليه الاحتمالُ سقَط به الاستدلالُ كما هو معروف.
- قالوا: إن قوله تعالى على لسان إبراهيم: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 35، 36] يدل على جواز الترحُّم على غير المسلم؛ لأن إبراهيمَ عليه السلام طلب الرحمةَ لمن عبد الأصنام.
- والجواب عن هذا: أن هذه الآيةَ مقصودٌ بها طلبُ الرحمة للمُشرِك الذي على قيد الحياة، بأن يتوب من شِرْكِه، فيتوب الله عليه ويغفر له ذنْبَ هذا الشرك6، وهذا غير ممنوع كما ذهب إليه عامةُ العلماء، والدليلُ على أن المقصود بها مَنْ كان على قيد الحياة، أن إبراهيم عليه السلام تبرَّأ من أبيه لما مات كافرًا، وانقطع عن الدعاء له، كما سبق ذكره، فكيف يترك الدعاءَ لأبيه بالرحمة، ويطلبُها لغيره؟! والوارد في هذه الآية مثل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لقومه بالمغفرة: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) 7.
- وقال بدر الدين العيني رحمه الله في شرح هذا الحديث: “معناه: اهدهم إلى الإسلام الذي تصحُّ معه المغفرة؛ لأن ذنب الكفر لا يُغفَر، أو يكون المعنى: اغفِرْ لهم إنْ أسلَمُوا”8.
مما سبق يتبيَّن قوةُ الأدلة على عدم جواز الترحُّم على غير المسلم بعد موته؛ لذلك ذهب كافةُ العلماء إلى ذلك، قال النووي رحمه الله: “الصلاةُ على الكافر والدُّعاءُ له بالمغفرة حرامٌ بنصِّ القرآنِ والإجماعِ” 9، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فإنَّ الاستغفارَ للكفار لا يجوز بالكتاب والسنَّة والإجماع” 10.
ويبقى تنبيهٌ يجدُر الإشارةُ إليه، وهو أن عدم ترحُّمِنا على غير المسلم المُعيَّن ليس معناه أن نحكُم عليه بأنه من أهل النار قطعًا، فهذا لا يجوز، وقد ذهب جمهورُ العلماء إلى عدم الحُكْم على غير المسلم المُعيَّن بأنه من أهل النار، إلا من ثبَت بالوحي أنه من أهل النار فعلًا؛ كفِرْعون، وأبي جهل، وأبي طالب، وغيرِهم ممَّن ذكرَهم الوحيُ، أما غيرُ هؤلاء فلا نحكُم عليهم بجنةٍ ولا نارٍ؛ لأنه حُكْم بما لا علم لنا به، فالجنةُ والنارُ مِلْكٌ لله عز وجل يُدخِل الجنةَ من يشاء برحمته، ويُدخِل النارَ من يشاء بعدله؛ لأنه دائمًا ما يحدُث خلطٌ بين عدم جواز الترحُّم على غير المسلم، والحُكْمِ بأنه من أهل النار، فيظُن الظانُّ أن عدم ترحُّمِنا عليه هو حُكْمٌ عليه بدخول النار، وهذا طبعًا خطأٌ، عدم ترحُّمنا عليه مع الحكم بكفره فيما يظهر لنا هو حكمٌ شرعيٌّ يتعلَّق بتعاملنا مع غير المسلم في الدنيا، أما في الآخرة فنُفوِّض الأمرَ في مصيره إلى الله عز وجل مع اعتقادنا الجازم بعَدْل الله، وأنه لا يظلِمُ أحَدًا.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
- يُنظر: تفسير ابن كثير 4/ 221، وسبب نزول هذه الآية أخرجه البخاري (3884) باب (قصة أبي طالب). ↩︎
- يُنظر: تفسير ابن كثير 4/ 325. ↩︎
- لسان العرب 12/ 230 مادة: رحم. ↩︎
- يُنظر: التفسير الكبير للرازي 12/ 467. ↩︎
- يُنظر: تفسير ابن كثير 3/ 232. ↩︎
- يُنظر: تفسير القرطبي 9/ 368. ↩︎
- صحيح البخاري (3290) ↩︎
- عمدة القاري شرح صحيح البخاري 23 / 19. ↩︎
- المجموع 5 / 119. ↩︎
- مجموع الفتاوى 12 / 489. ↩︎