الآثار السيئة لهجر المعتزلة للسنة
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
ذمَّ المعتزلةُ مَنْ تعلَّم الحديث، وحذَّروا من تعلُّمِه، وقلَّلوا من فائدته والاستدلال به، ونصُّوا على أنه لا حاجة إليه؛ لأنَّ العقول تُغني عنه، ووضعوا شروطًا تعسُّفية في قبول خبر الآحاد، وأخرجوا خبرَ الآحاد من كونه وحيًا قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فيردُّون معظم الأحاديث بحجَّة أنها أخبار آحاد، ومن الآثار السيئة لهجر المعتزلة للسنة النبوية، ما يلي:
1- معاداة الصحابة رضي الله عنهم واتِّهامهم في دينهم: فالمعتزلة ما بين شاكٍّ في عدالة الصحابة، منذ عهد فتنة عثمان رضي الله عنه؛ كواصل بن عطاء، وما بين مُوقن بفسقهم؛ كعمرو بن عبيد، وما بين طاعنٍ في أعلامهم، مُتَّهمٍ لهم بالكذب والجهل والكفر والنفاق؛ كالنَّظَّام، وما بين مستهزئٍ بالصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم؛ كثمامة بن أشرس، وقد امتد قدح المعتزلة من الصحابة إلى التابعين رضي الله عنهم؛ لينفروا الأمة عن اتِّباع السُّنة وأهلها1.
وقد ذكر أبو منصور البغدادي رحمه الله: (أنَّ نسبة النَّظَّام الصحابةَ إلى الجهل والنفاق يترتب عليه خلود أعلام الصحابة في النار على رأي النظام؛ لأنَّ الجاهل بأحكام الدين عنده كافر، والمُتَعمِّد للخلاف بلا حجة عنده منافق كافر أو فاسق فاجر، وكلاهما من أهل النار على الخلود)2.
2- تأويل آيات القرآن بما يُوافق أصولهم وأهواءهم: وعن خطورة هذا الأمر قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: (إنَّ كثيرًا من الزائغين عن الحق؛ من المعتزلة، وأهل القدر، مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومَنْ مضى من أسلافهم، فتأوَّلوا القرآن على آرائهم تأويلًا لم ينزل به الله سلطانًا، ولا يصح به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول ربِّ العالمين، ولا عن السلف المُتقدِّمين)3.
وقال د. محمد أبو شهبة رحمه الله: (المعتزلة من أعظم الناس كلامًا وجدالًا، وقد صنَّفوا تفاسيرهم على أصول مذهبهم؛ مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، شيخ إسماعيل بن عُلَيَّه، الذي كان يُناظر الشافعي، ومثل كتاب أبي علي الجبائي، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، والتفسير لعليِّ بن عيسى الرماني، والكشاف لأبي القاسم الزمخشري.
والمقصود: أنَّ مثل هؤلاء اعتقدوا رأيًا، ثم حملوا ألفاظَ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين في رأيهم، ولا في تفسيرهم، وما من تفسيرٍ من تفاسيرهم الباطلة إلاَّ وبطلانه يظهر من وجوهٍ كثيرة، وذلك من جهتين: تارةً من العلم بفساد قولهم، وتارةً من العلم بفساد ما فسروا به القرآن… ومن هؤلاء من يكون حَسَن العبارة فصيحًا، ويدسُّ السُّمَّ في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون؛ كصاحب الكشاف ونحوِه، حتى أنه يروج على خَلْقٍ كثير من أهل السلف؛ كثيرٌ من تفاسيرهم الباطلة)4.
3- ردُّهم للسنة النبوية، وطعنهم في رواة الأحاديث: وذمُّهم لمَنْ تعلَّم الحديث، وما تعارض من الأحاديث الصحيحة مع أصول المعتزلة؛ إمَّا يؤوِّلونه تأويلًا يُشبِه الرد، وإمَّا يُصرِّحون بالرد بِحُجَّة أنَّ الخبر آحاد، والآحادُ لا يحتج بها في العقائد، وهم في كلِّ ذلك يتطاولون على رواة السُّنة ويطعنون فيهم؛ سواء من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين لهم بإحسان، فمَنْ بعدهم من أئمة المسلمين.
نموذجان لرفض المعتزلة للأحاديث وطعنهم في الرواة:
النموذج الأول: يتمثَّل في “عَمْرو بن عبيد” – شيخُ المعتزلة في عصره – لمَّا سمع حديثًا يُخالف هواه وبدعته؛ وهو حديث “الصَّادق المصدوق” الذي أخرجه البخاري ومسلم في (الصحيحين): حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا… ) الحديث5.
قال عَمْرو بن عبيد – بعد سماعه الحديث: (لو سمعتُ الأعمشَ يقول هذا؛ لَكَذَّبتُه! ولو سمعتُ زيدَ بنَ وهبٍ يقول هذا؛ ما صَدَّقتُه! ولو سمعتُ عبدَ الله بنَ مسعودٍ يقول هذا؛ ما قَبِلْتُه! ولو سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول هذا؛ لَرَدَدتُّه! ولو سمعتُ اللهَ تعالى يقول هذا؛ لقلتُ له: ليس على هذا أخذتَ مِيثاقَنا!)6.
النموذج الثاني: يتمثَّل في ردَّ “القاضي عبد الجبار” الذي رَفَضَ حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا…) الحديث7، فقد زعم أنَّ مَثْلَ هذه الأخبار لا يجوز التَّصديقُ بها إذا كانت مُخالفةً للأدلة القاطعة! والأدلة القاطعة – عن المعتزلة – هي الأنظار العقلية الخاصة بهم8.
وقد صرح القاضي عبد الجبار – كما سبق ذكره – بأنَّ العقل هو أوَّل الأدلة، فيقول – في معرض حديثه عن الأدلة: (أوَّلُها: دلالة العقل؛ لأنَّ به يُميَّز بين الحُسْن والقُبح، ولأنَّ به يُعرف أنَّ الكتاب حُجَّة، وكذلك السُّنة والإجماع)9. إذًا صحة دلالة الكتاب والسنة – في نظر المعتزلة – متوقِّفة على العقل، فالعقل حاكم عليهما، ومُقَدَّم!
فتأمَّل هذا الكفرَ الصُّراح، وهذه الوقاحة الشَّنيعة من رؤوس البدع والضَّلالات تجاه أحاديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو أمر ليس بغريب على مَنْ رَضَعَ البدعَ والأهواءَ والضَّلالات، وتَلَوَّث عقلُه وقلبُه بها، عندها يُظلم الفؤاد بالهوى والضلال والباطل.
4- منهج المعتزلة بوابة كبرى وَلَجَ منها أعداءُ الإسلام والسُّنة: فهاجموا الشريعةَ الإسلامية وأثاروا الشبهات حولها؛ إذْ صوَّروا الإسلام في صورة الخرافات، وطعنوا في الصحابة واتَّهموهم بالكذب، وكذلك طعنوا في أئمة المسلمين وتاريخهم وحضارتهم المجيدة، وقد اغتر بهم الجهلة في عصرنا الحاضر ونسجوا على منوال أساتذتهم، ورموا علماء المسلمين – في كل عصر – بكل نقيصة وبهتان، والله يشهد إنهم لكاذبون10.
وغير خافٍ ما فعله المستشرقون، ودعاة التغريب، واللادينية، من مهاجمةٍ للسنة النبوية، وإثارةٍ للشبهات؛ حيث وجدوا في الاعتزال والمعتزلة منهجًا له أثره في إفساد الفكر الإسلامي على العموم، وإبطال حجية السنة وتعطيلها على الخصوص، ويبدو هذا واضحًا في إحيائهم للفكر الاعتزالي والثناء عليه، ووصفهم للمعتزلة بأنهم أغارقة الإسلام الحقيقيون، أو وصفهم بالمعتزلة العِظام، أو المفكرون الأحرار في الإسلام11، وزعموا أنَّ المنهج العقلي المعتزلي؛ هو المنهج الحق، وربَّما ادَّعوا بأنه منهج سلفنا الصالح12.
5- تأثُّر رُوَّاد المدرسة العقلية الحديثة بمنهج المعتزلة: في التعامل مع نصوص الوحي وردِّها بالعقل، وسَيْرهم على خطاهم حذو القذة بالقذة، بل هناك قاسم مُشترك، وصلة قوية تربط المعتزلة والمستشرقين والمدرسة العقلية الحديثة؛ وهي اعتماد كلِّ مدرسة على منهج سابقتِها في ردِّ نصوص السُّنة بالعقل13.
6- مَنْ خالف أصولَهم المبتدعة؛ إمَّا أن يُكفِّروه أو يُفسِّقوه أو يُخطِّئوه14.
7- ردُّوا نصوصًا كثيرةً صحيحة: فمن آثار انحرافاتهم عن السنة وهجرهم لها، ما يلي15:
- أ- نفيهم لصفات الله تعالى.
- ب- قولهم بأنَّ القرآن مخلوق.
- ج- نفيهم للقدر.
- د- إنكارهم لرؤية الله تعالى يوم القيامة.
- هـ- إنكارهم لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
- و- إنكارهم لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء بين أصابعه؛ ليتوصَّلوا بذلك إلى إنكار نبوَّته صلى الله عليه وسلم.
- ز- إنكارهم للحدود التي تثبت بالسُّنة؛ كحد شارب الخمر، وحد السرقة.
- ح- إنكارهم لحجية الإجماع والقياس.
- ط- تخليدهم صاحب الكبيرة في النار.
- ي- إنكارهم لعذاب القبر.
ملاحظات على مذهب المعتزلة:
ومع المعتزلة وهجرهم للسُّنة لابد لنا من وقفة، فالمعتزلة حملة راية العقل؛ حيث قدَّموه على النقل، وجعلوه حاكمًا عليه، فيرد ما شاء ويثبت ما يشاء من نصوص السنة الشريفة، إلاَّ أننا نلاحظ ما يلي:
- عدم انتشار المذهب بين عامة الأمة، وبقي المعتزلة قلة في كلِّ عصر يُناطحون السحاب ويجمعون البَرَدَ في الصباح، فلا هم وصلوا إلى السماء، ولا هم رووا ظمأهم من الماء.
- لا اعتبار بمَنْ ساروا على نهجهم واهتدوا بهديهم من المستشرقين والعقلانيين؛ إذ أنهم كالخفافيش لا يظهرون إلاَّ في قلب الظلام؛ فلا يستطيعون إحداثَ أيِّ أثرٍ في الأمة إلاَّ في لحظات ضعفها وأوقات تراجعها، ورغم ذلك يجدون مَنْ يُفَنِّد حُجَجَهم ويرد شُبَهَهم.
- إنَّ الآثار السَّيئة لهجر السُّنة النبوية إنما تعود عليهم دون غيرهم، وإلاَّ فالسُّنة النبوية محفوظةٌ بحفظ الله لها، وما حفظه الله تعالى يستحيل أنْ يُضيعه البشر.
- انظر: تأويل مختلف الحديث؛ (ص 54)؛ الفرق بين الفرق، (ص 143)؛ الاعتصام، (1 /186)؛ السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 140)؛ السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (ص 118). ↩︎
- الفرق بين الفِرق، (ص 305) بتصرف يسير. ↩︎
- الإبانة عن أصول الديانة، (ص 14). ↩︎
- الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، (ص 146، 147). ↩︎
- رواه البخاري، (2 /649)، (ح 3367)؛ ومسلم، (2/1118)، (ح 3839). ↩︎
- أورده الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد)، (12 /170)؛ والمزي في (تهذيب الكمال)، (22 /129)؛ والذهبي في (تاريخ الإسلام)، (9 /239)؛ و(ميزان الاعتدال)، (3 /178). ↩︎
- رواه البخاري، (3 /1267)، (ح 6299)؛ ومسلم، (2 /1198)، (ح 7342). ↩︎
- انظر: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، (ص 151). ↩︎
- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، (ص 139). ↩︎
- انظر: الحديث والمحدثون، (ص 332). ↩︎
- انظر: العقيدة والشريعة، جولد تسيهر (ص 100)؛ تراث الإسلام، جوزيف شاخت (ص 203)؛ دائرة المعارف الإسلامية، (ص 576). ↩︎
- انظر: أضواء على السنة، محمود أبو رية (ص 377)؛ السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (ص 122). ↩︎
- انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2 /432)؛ منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، د. فهد الرومي (ص 120). ↩︎
- انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (1 /122). ↩︎
- انظر: موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، (ص 113) وما بعدها. ↩︎