الآثار السيئة لهجر الخوارج للسنة النبوية
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
الخوارج يُنكرون حجية الإجماع، والسُّنن الشرعية، ويزعمون ألاَّ حجة في شيء من أحكام الشريعة إلاَّ من القرآن، ومع ذلك فهم يجمدون على المعنى الظاهر من النص دون بحثٍ عن معناه الذي يهدف إليه، أو يؤولون النصوص تأويلًا يوافق أهواءهم1.
ولقد ضَلَّ الخوارج برفضهم السُّنة، ووقعوا في أخطاء جسيمة؛ لأنهم كفَّروا المسلمين بالذنوب والسيئات، واستحلُّوا دماءهم، وجعلوا دار المسلمين دار حرب، ودارهم دار الإيمان؛ كما تقدَّم من كلام ابن تيمية2.
لقد كان للخوارج أثر سيء في التاريخ الإسلامي منذ بدايتهم حتى العصر الحديث، وهذه الآثار السيئة كان سببها الرئيس هجرهم للسنة النبوية وبعدهم عنها؛ إمَّا بردِّها، أو بتأويلها تأويلًا فاسدًا، أو بتقديم القياس عليها، وفي النقاط التالية نُشير إلى الآثار السيئة لهجر الخوارج للسنة النبوية قديمًا وحديثًا كما يلي:
أولًا: آثار هجر الخوارج للسنة قديمًا:
أ– فيما يتعلَّق بالأحكام الشرعية والعقدية:
قد ترتَّب على هجرهم السنة النبوية أنْ وقعوا في تخبُّطاتٍ لا حصر لها؛ في العقائد والأحكام الفقهية التي خالفوا فيها جمهور المسلمين، بل خالفوا فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة تخبطات الخوارج في أحكام الشريعة:
بعضهم يرى: أنَّ التيمم جائز، ولو على رأس بئر، وبعضهم يرى: أن الواجب من الصلاة إنما هو ركعة واحدة بالغداة وأُخرى بالعشي، وبعضهم يرى: أنَّ الحج في جميع شهور السنة، وبعضهم: يُبيح دم الأطفال والنساء ممن لا ينتمي إلى عسكرهم، وبعضهم: جَوَّز نكاحَ بنتِ الابن وبنتِ الأخ والأخت، وبعضهم: أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأنَّ مَنْ قال: لا إله إلا الله؛ فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه.
وقد توسَّعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفَّروا مَنْ ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إن كان قادرًا، وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرةً، وحُكم مرتكب الكبيرة عندهم حُكم الكافر، وكفُّوا عن أموال أهل الذمة، وعن التَّعرُّض لهم مطلقًا، وفتكوا بمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب، وغير ذلك الكثير والكثير3.
وهذا يدل على جهلٍ عميق حتى بالقرآن الكريم، وأكثر ذلك أتاهم من أنهم لا يعتدون برواية جمهور المسلمين، وكيف يأخذون دينهم عن قوم هم كفَّار في نظرهم، وإنما يعتمدون ما رواه لهم أئمتهم، وهم خَلَوا من العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خلوا من فهم أحكام القرآن على وجهها الصحيح.
ب– فيما يتعلَّق بالفتنة وأضرارها:
لقد ترتَّب على آراء الخوارج الشاذة في مسائل التكفير والخروج على حُكَّام المسلمين وغيرها؛ أنْ خرجوا أوَّل ما خرجوا على عثمان بن عفان رضي الله عنه وانتهت الفتنة بقتله، ثم تجدَّدت في عهد عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه فرفضوا التحكيم وخرجوا عليه، وانتهت الفتنة بقتله، فنتج عن فتنتهم مقتل خليفتين راشدين من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما مَنْ هما من رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانةً ومنزلةً وقرابةً وصهرًا. فكانت فتنتهم بذرة الشِّقاق الأُولى في جسد الأمة المسلمة؛ بسبب جهلهم وتركهم سنته صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: آثار هجر الخوارج للسنة في العصر الحديث:
لا توجد جماعةٌ بعينها – في العصر الحديث – تُسمِّي نفسَها الخوراج أو الحرورية، ولكن هناك جماعات عندما تُقابِل أفكارها ومعتقداتها وآرائها بما كان عليه الخوارج؛ فإننا نجد تشابهًا كبيرًا يصل إلى حدِّ التطابق بينهم، ونجد أُخرى تشترك معهم في كثير من صفاتهم وآرائهم، غير أننا نجد أنفسنا أمام تيار فكري يسيء إلى الأمة الإسلامية ويضعفها؛ بسبب ممارساته الشاذة، ومن أهم آثارهم السيئة في الأمة ما يلي:
- تكفيرهم حُكَّامَ المسلمين، فترتَّب على ذلك التكفير أنْ كفَّروا أعوانَ الحُكَّام ومَنْ يواليهم، فاستباحوا دماءهم واستحلُّوا حرماتهم، فكانت التفجيرات التي حدثت وما تزال تحدث بين الفينة والفينة، والتي تكلِّف الأمة القدر الكبير من الأموال التي لو استُثمِرت في بناء الأمة لكان أصلح لها.
- الغدر بالآمنين من أبناء الإسلام في المجتمعات الإسلامية، وكذا بأهل الذمة الذين لهم في أعناقنا عهد أمانٍ وذمَّة؛ وذلك من خلال اللجوء إلى المجمَّعات السكنية بسيارات مفخخة محمَّلة بالمتفجرات، والناس آمنون مطمئنون، فيفجرون المساكن بدعوى إخراج المشركين من جزيرة العرب.
- تفجير المساجد وقتل المصلين الأبرياء في مصلاهم.
- زعزعة أمن البلاد وتهديد مصالح العباد في التجارة والاقتصاد؛ وذلك بمحاولة تفجير المنشآت الحيوية التي تعود بالخير على مجتمعات المسلمين.
- إعطاء مسوِّغ لغير المسلمين والمُتربِّصين في مهاجمة الإسلام ونبزه بالإرهاب، فتُصاب الدعوة بالشلل، وتتوقف في كثير من بقاع الأرض.
- إعطاء غطاء للاستعمار؛ كي تتدخل الدول الاستعمارية في شؤون المسلمين؛ بل يأتون بأسلحتهم وعتادهم وجنودهم وحشودهم للسطو على خيرات بلاد المسلمين واحتلال أرضهم؛ بذريعة ما يطلق عليه “مكافحة الإرهاب” أو “محاربة الإرهاب”.
الخوارج وروايتهم الحديث:
وُجِدَ من الخوارج مَنْ رُوِيَ عنه حديثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، واعتمده بعض أئمة الحديث؛ كالبخاري – كما قال ابن الصلاح في مُقدِّمته – فقد احتج بعِمْرانَ بنِ حِطَّان، وهو من الخوارج، لا سيما إذا علمتَ أنَّ الخوارج يحكمون بكفر مَنْ يكذب؛ لأنَّ مرتكب الكبيرة كافر في نظرهم، والكذب من الكبائر4.
واحتجاج الإمام البخاري “بعِمْرانَ بنِ حِطَّان”، وبغيره من المبتدعة محمول على أحد ثلاثة أمور:
- أنه خرَّج لهم ما حُمِلَ عنهم قبل ابتداعهم.
- أو تابوا ورجعوا عن بدعتهم في آخر حياتهم.
- أو تبرَّؤوا مما نُسِبَ إليهم.
قال ابن حجر رحمه الله: (وإنما أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع، إذا كان صادق اللَّهجة مُتديِّنًا، وقد قيل: إنَّ عمران تاب من بدعته، وهو بعيد، وقيل: إنَّ يحيى بن أبي كثير حَمَلَه عنه قبل أنْ يبتدع)5.
وليس لعمران بن حِطَّان في “صحيح البخاري” سوى حديثين: أحدهما متابعة6، والآخَر أصل7. وعلى الأقوال السابقة يُحمل أيضًا ما أخرجه الإمام مسلم في “صحيحه” عن بعض المبتدعة8.
لم يكن الخوارج يكذبون في الأحاديث:
والحق يُقال: إنَّ الخوارج لم يكونوا يكذبون في الأحاديث؛ لأنهم يُكفِّرون مرتكب الكبيرة، وهم أيضًا لا يستحلِّون الكذب ولا الفسق ولا التقية، ولم يأت دليل يدل على أنَّ الخوارج قد وضعوا الأحاديث واختلقوها كما فعلت الروافض.
قال د. مصطفى السباعي رحمه الله: (لم أعثر على حديثٍ وضَعَه خارجي، وبحثتُ كثيرًا في كتب الموضوعات، فلم أعثر على خارجيٍّ عُدَّ من الكذَّابين والوضَّاعين…
لقد حاولتُ أنْ أعثرَ على دليل علمي يؤيد نسبة الوضع إلى الخوارج، ولكني رأيتُ الأدلة العلمية على العكس، تنفي عنهم هذه التهمة، فقد كان الخوارج – كما ذكرنا – يُكفِّرون مرتكب الكبيرة أو مرتكب الذنوب مطلقًا، والكذبُ كبيرة، فيكف إذا كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)9.
وقد ورد عن أهل العلم ما ينفي عن الخوارج تهمة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
- قول المُبَرِّد رحمه الله: (والخوارج – في جميع أصنافها – تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة)10.
- قول أبي داود سليمان بن الأشعث رحمه الله: (ليس في أصحاب الأهواء أصحُّ حديثًا من الخوارج)11.
- قول ابن تيمية رحمه الله: (ومَنْ تأمَّل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، والخوارج مع مروقهم من الدِّين فهم من أصدق الناس، حتى قيل: إنَّ حديثهم من أصح الحديث)12. وقوله أيضًا: (ليس في أهل الأهواء أكثر كذبا ًمن الرافضة، بخلاف غيرهم؛ فإنَّ الخوارج لا يكادون يكذبون، بل هم من أصدق الناس مع بدعتهم وضلالهم)13.
والسؤال: هل رواية بعض الخوارج لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تشفع لهم، أو تنفي عنهم هجرَهم للسُّنة؟
بالقطع لا؛ لأنهم إنما رووا الأحاديث عن الصحابة الذين لم ينخرطوا في الفتنة ولم يشاركوا فيها ولم يكونوا طرفًا في التحكيم، فهؤلاء في نظرهم ليسوا مرتدِّين؛ ولذا يجوز الأخذ عنهم، أمَّا غيرهم من الصحابة فقد كفَّروهم، وبالتالي ردُّوا حديثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم بذلك كمَنْ آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، فهل يشفع له إيمانه ببعضٍ فيما كفر فيه؟!
أمَّا صِدقُهم فيجري مجرى مكارم الأخلاق التي ربما توفَّرت لدى الكافر، ومثال ذلك:
ما كان من عفَّة “عنترة” في الجاهلية في قوله:
وأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لي جَارَتي … حَتَّى يُوارِي جارَتِي مَأْواها14
الخلاصة:
أن الخوارج هجروا السنة النبوية، وهم من أجهل الناس بها؛ لأنها من طريق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كفَّار في زعمهم، ومن أهم أسباب عقيدة الخوارج جفاء طبعهم وغلظتهم؛ لذا يحاربون المسلمين – في كل مكان وزمان – ويُريقون دماءَهم وينتهكون حرماتهم، فهم أحق وأجدر أن يطلق عليهم لقب “الخوارج البغاة” لخروجهم على السنة وأهلها ومعاداتهم لها15.
وإنَّ هذا الفِكر الخارجي قديمه وحديثه إنما ظهر وانتشر عندما هُجِرتْ سُنَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقُدِّم عليها آراء الرجال وأهواؤهم وأقيستهم، ولو أنهم امتثلوا أمر الله تعالى في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]. لكان خيرًا، ولربَّما تغيَّر كثير من واقع الأمة المرير، ولكن لا نملك إلاَّ أنْ نسأل الله تعالى الثباتَ على دينه، والتَّبصُّرَ فيه، ومتابعةَ سُنَّةِ نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم.
- انظر: النبوات، لابن تيمية (ص 89)؛ أصول الدين، للبغدادي (ص 19). ↩︎
- انظر: مجموع الفتاوى، (19/ 72-73). ↩︎
- انظر: فتح الباري، (12/ 296-298)؛ الملل والنحل، للشهرساتني (1/ 113). ↩︎
- الحديث والمحدثون، د. محمد أبو زهو (ص 86). ↩︎
- فتح الباري، (10/ 290). ↩︎
- انظر: صحيح البخاري، (1/ 322)، (ح 5835). ↩︎
- انظر: صحيح البخاري، (1/ 357)، (ح 5953). ↩︎
- انظر: السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، عماد السيد الشربيني (ص 82). ↩︎
- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 82-83). ↩︎
- الكامل في اللغة والأدب، (3/ 122). ↩︎
- الكفاية في علم الرواية، (1/ 130). ↩︎
- المنتقى من منهاج الاعتدال، (ص 22، 23). وانظر: منهاج السنة النبوية، (1/ 29). ↩︎
- منهاج السنة النبوية، (7/ 27). ↩︎
- ديوان عنترة بن شداد، (ص 138). ↩︎
- انظر: شرح القصيدة النونية، د. محمد خليل هراس (ص 322)؛ السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (ص 86). ↩︎