اعتقاد الصوفية في الخضر وحجة نبوته عليه السلام
الحمد لله رب العالمين، فطرنا موحدين، واصطفى لنا خير دين، وأرسل لنا الهادي الأمين فما ترك خيرًا إلا ودلنا عليه، ولا شرًّا إلا وحذرنا منه، فجزاه الله عنا بخير ما جزى نبيًّا عن أمته، وصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فلقد ظلت الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قرونًا مفضلة على نهجه إلا ما كان من شذاذ الآفاق، وبذور النفاق، وعن هؤلاء نبتت نوابت أطلت على المسلمين بقرنها، وأشاحت عن معين الوحيين بوجهها، تبعت كل ناعق، وسارت وراء كل مارق، وأصاخت بسمعها لكل مهوش للدين مفارق، فأشربت قلوبها فتنًا كقطع الليل المظلم، ولعب الشياطين برؤوسها، وخلص إلى سويداء قلوبها، ومن هؤلاء فرقة الصوفية، الذين سوغ بعض رؤوسها الخروج عن شريعة المصطفى1.
قال ابن خلدون في كتاب “المقدمة” في تعريف التصوف: “العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة والعبادة”2.
وهذا تعريف للتصوف في أصل منشئه وابتدائه، ولا ريب أنه دخل فيه من البدع والانحراف شيء كثير، خاصة عند المتأخرين منهم، ثم خرج التصوف من البدعة إلى الزندقة والإلحاد والشطحات والضلالات في الأعمال والعقائد3.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “وقد صار لفظ الصوفية لفظًا مجملًا يدخل فيه من هو صديق ومن هو زنديق”.
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل واصلوا طريقهم حتى تأثروا بعقائد الفلاسفة اليونانيين والبوذيين والهنود والنصرانية المحرفة واليهودية؛ فاعتنقوا عقائد إلحادية ووثنية وأساطير وخرافات.
أولًا: اعتقاد الصوفية بأن الخضر حي إلى يوم القيامة:
تؤمن الصوفية بحياة الخضر، وأنه باقٍ إلى الآن، ومنهم من يزعم لقاءه والتلقي عنه، ومن نظر في كتب الصوفية يجد الكثير من القصص التي تذكر لقياهم للخضر؛ قال ابن عطاء الله السكندري: “واعلم أن بقاء الخضر قد أجمع عليه هذه الطائفة، وتواتر عن أولياء كل عصر لقاؤه والأخذ عنه، واشتهر ذلك إلى أن بلغ الأمر إلى حد التواتر الذي لا يمكن جحده، والحكايات في ذلك كثيرة”4.
ويقول الصوفي أبو العباس المرسي: “وأما الخضر فهو حي، وقد صافحته بكفي هذا… فلو جاءني الآن ألف فقيه يجادلونني في ذلك، ويقولون بموت الخضر ما رجعت إليهم”5.
وقال إبراهيم الخواص: “لقيني الخضر عليه السلام، فطلب مني الصحبة، فخشيت أن يفسد عليَّ توكلي بسكوني إليه، ففارقته”6.
ویروون عن أبي الحسن الشاذلي أنه قال: “رأيت الخضر عليه السلام في برية عيذاب، فقال لي: يا أبا الحسن، أصحبك الله اللطف الجميل، وكان لك صاحبًا في الإقامة والرحيل”7.
هكذا يدَّعون، مع أن الصواب أن الخضر قد مات، ولم يدرك الإسلام، وإلا لجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتقى به وصدقه، ولو شاع أمره وحفظ ذكره بالتواتر، فكيف يصح بعد هذا أن يكون حيًّا فيمتنع من النبي صلى الله عليه وسلم ويلتقي بهؤلاء؟
وجعل الصوفية الخضر مصدرًا للوحي والإلهام والعقائد والتشريع، ونسبوا له طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها، وليس منهم صغير أو كبير ممن دخل في طريقهم إلا وادَّعى لُقيا الخضر والأخذ عنه8.
قال ابن الجوزي: “إن الخضر فارق موسی بن عمران کلیم الرحمن، ولم يصاحبه وقال له: هذا فراق بيني وبينك، فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى، ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة، الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة، ولا بمجلس علم، ولا يعرفون من الشريعة شيئًا، وكل منهم يقول: قال الخضر، وجاءني الخضر، وأوصاني الخضر، فيا عجبًا له! يفارق كليم الله تعالى، ويدور على صحبة الجهال، ومن لا يعرف كيف يتوضأ ولا كيف يصلي9.
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بنزول المسيح ابن مريم آخر الزمان، وذكر أنه يحكم فينا بكتاب الله وسنة رسوله، والمسيح أفضل من الخضر، فلو كان الخضر حيًّا لكان يكون مع محمد، ومع المسيح ابن مريم10.
قال ابن القيم: “الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد”11.
ومما يقطع بموته عليه السلام: قول الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34].
ثانيًا: اعتقاد الصوفية بأن الخضر ولي، وليس بنبي، وأن الولي عندهم أفضل:
لقد انحرف المتصوفة في اعتقادهم تجاه الخضر عليه السلام؛ حيث إنهم يعتقدون بأن الخضر عليه السلام ولي من أولياء الله تعالى، وليس بنبيٍّ، وبنوا ذلك على أن الولي يجوز له الخروج عن الشريعة كما خرج الخضر عليه السلام عن شريعة موسى، حسب زعمهم الباطل، وأنه يمكن للولي أن يصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى بدون اتباع الرسول12.
قال القرطبي رحمه في تفسيره ما نصه نقلًا عن شيخ الإسلام: “ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يُراد فهم ما يقع في قلوبهم”.
لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوز شرعًا أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول العالمين، لا يسع الخضر، ولا غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه؛ ولذلك لا وجود بتاتًا للخضر وأمثاله بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم13.
اختلف العلماء في الخضر: هل هو ولي أم نبي؟ قال ابن تيمية: “والخضر إما نبي أو من أتباع الأنبياء، وعلى التقديرين فعليه أن يؤمن بمحمد وينصره، ومعلوم أن ذلك لو وقع لكان مما تتوفر الدواعي والهمم على نقله، فقد نقل الناس من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والرهبان، فكيف لا ينقل إيمان الخضر وجهاده معه، لو كان قد وقع؟14
إن اعتقاد المتصوفة بأن الخضر عليه السلام ولي وليس بنبيٍّ واضح جدًّا، وليس يخفى على أحد؛ وذلك لأنهم يبنون على هذا الاعتقاد القول بأن الولي أعلم من النبي، وأنه يمكن أن يصل الولي إلى مرضاة الله ومحبته بدون متابعة النبي، وكذلك اعتقاد المتصوفة بأنه يجوز الخروج عن الشريعة للولي كما خرج الخضر عن شريعة موسى عليه السلام واضح أيضًا15.
ودليل هذا الاعتقاد عند الصوفية؛ حيث قال محي الدين العربي في كتابه “الفتوحات المكية: “اعلم – أيها الولي الحميم أيدك الله – أن هذا الوتد (وصف يصف به المتصوفة من يصفونهم بالأولياء) هو الخضر صاحب موسى عليه السلام، أطال الله عمره إلى الآن، وقد رأينا من رآه، واتفق لنا من شأنه أمر عجيب، وذلك أن شيخنا أبا العباس العربي رحمه الله تعالى جرت بيني وبينه مسألة في حق شخص كان قد بشر بظهوره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: هو فلان ابن فلان، وسمى لي شخصًا أعرفه باسمه، وما رأيته، ولكن رأيت ابن عمته، فربما توقفت فيه، ولم آخذ بالقبول أعني قول شيخي العريبي فيه؛ لكوني على بصيرة في أمره، ولا شك أن الشيخ رجع سهمه عليه، فتأذى في باطنه، ولم أشعر بذلك، فإني كنت في بداية أمري في الطريق”16.
قال الفخر الرازي في معرض حديثه عن الخضر عليه السلام هل هو نبي أو ولي: الأكثرون أن ذلك العبد كان نبيًّا واحتجوا عليه بوجوه17:
الحجة الأولى: أنه تعالى قال: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الكهف: 65]، والرحمة هي النبوة؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [الزخرف: 32]، وقوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴾ [القصص: 86]، والمراد من هذه الرحمة النبوة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65]، وهذا يقتضي أنه تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم، ولا إرشاد مرشد، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر، وجب أن يكون نبيًّا يعلم الأمور بالوحي من الله.
الحجة الثالثة: إن موسى عليه السلام قال: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66]، والنبي لا يتبع النبي في التعليم.
الحجة الرابعة: إن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى؛ حيث قال: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68]، وأما موسى، فإنه أظهر التواضع؛ حيث قال: ﴿ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون نبيًّا لا يكون فوق النبي.
الحجة الخامسة: احتج الأصم على نبوته؛ بقوله في أثناء القصة: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 82]؛ ومعناه: فعلته بوحي الله، وهو يدل على النبوة.
الحجة السادسة: ما رُوي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام، يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى عليه السلام: من عرفك هذا؟ قال: الذي بعثك إليَّ.
قلت: وهذه الحجج قوية لإثبات أن الخضر عليه السلام نبي وليس وليًّا فقط، كما يدعي المتصوفة ومن سار على طريقهم.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: “والصحيح أن الخضر نبي كما دل عليه ظاهر القرآن الكريم؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبينه نبي))، فدل على أن الخضر قد مات قبل ذلك، ولو فرضنا أنه ليس نبيًّا، وأنه رجل صالح، لكان اتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لو فرضنا أنه لم يتصل، لكان مات على رأس مائة سنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في آخر حياته: ((أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد))، فدل ذلك على أن من كان موجودًا في ذلك الوقت لا يبقى بعد مائة سنة بنص النبي عليه الصلاة والسلام أنهم يموتون قبل انخرام المائة18.
وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك، إلا عن طريق الوحي، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاؤوا به، ولو في مسألة واحدة، فلا شك في زندقته19.
من بين الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر عليه السلام، والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة، ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئًا مختلفًا تمامًا، فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه ولي وليس بنبي، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم أنزلت إلى جميع الأنبياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما أن الخضر – وهو ولي فقط في زعمهم – كان أعلم من موسى عليه السلام، فكذلك الأولياء من أمة محمد أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمدًا عالم بالشريعة الظاهرة فقط، والولي أعلم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة20.
وهكذا جعل المتصوفة من قصة الخضر بابًا عظيمًا لإدخال كل أنواع الخرافات والزندقة والجهل والإسفاف21.
الخضر نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، والصحيح أنه قد مات كغيره من البشر، فلا يطوف بالدنيا، ولا يتمثل في صورة مختلفة، وليس سببًا اليوم لغِنى أو فقر22.
والله تعالى أعلم.
- الخضر عند الصوفية في ضوء عقيدة أهل السنة المقدمة، سعود يوسف الخماس، المحقق الشفيع الماحي أحمد، المقدمة، بتصرف. ↩︎
- مقدمة ابن خلدون (٣/ ٢٦١). ↩︎
- مقالات الفرق، ص٢٨. ↩︎
- مقالات الفرق، وانظر: لطائف المنن، ص٨٢. ↩︎
- نفس المصدر، وانظر: جامع الكرامات، ١/٥٢١. ↩︎
- انظر: الرسالة، القشيري، ص: ١٦٦. ↩︎
- مقالات الفرق، ص: ٤٠٥، وانظر: طبقات الشعراني. ↩︎
- الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص: ١٢٥. ↩︎
- مقالات الفرق، وانظر: المنار المنيف، ص: 64. ↩︎
- من “جامع المسائل” – المجموعة الخامسة، 134، 135، الإسلام سؤال وجواب: 332928. ↩︎
- مقالات الفرق، ص: ٤٠٦، وانظر: المنار المنيف، ص: ٦٧. ↩︎
- مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، ص: ٥١١. ↩︎
- الفكر الصوفي، عبدالرحمن عبدالخالق، ١٣٢. ↩︎
- الإسلام جواب وسؤال، رقم: 332928. ↩︎
- مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، ص: ٥١٢. ↩︎
- نفس المصدر، بتصرف. ↩︎
- نفس المصدر، ص: ١١٤، ١١٥، وانظر: التفسير الكبير الإمام الفخر الرازي، ٢٢/ ١٤٨. ↩︎
- مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز، (9/ 287). ↩︎
- مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، ج: ٢، ص: ٥١٦. ↩︎
- الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص: ١٣٣. ↩︎
- نفس المصدر، ص: ١٣٣. ↩︎
- رقم الفتوى: 6001، تاريخ النشر في الموقع: 19/ 1/ 2018. ↩︎